هشاشة الأشياء ونسبيتها في فن تيسير البطنيجي المسكون بالمكان

شكَّل عام 1997 بداية تعامُل الفنان التشكيلي الفلسطيني، المقيم في باريس، تيسير البطنيجي مع تيمة المفتاح، متّخذاً منها موضوعاً حميماً. تتبنّى «المفاتيح» رمزية «العودة»، فيضيف بُعداً شخصياً بإسقاط الهوية الفردية على هذا الشكل ليحظى بالخصوصية. يحضُر إلى الشارقة لإعادة إحياء مجموعته التشاركية «من باب الاحتياط»، من إنتاج عام 2015. وضمن «لقاء مارس» من تنظيم «مؤسسة الشارقة للفنون» (1 - 3 مارس/ آذار الحالي)، نحاوره في تعاطي عمله الفني مع اللحظة الحرجة المُمثَّلة في إبادة شعبه.

يأتي مُحمَّلاً بالفقد الشخصي، فأحبّة قضوا في الجحيم المفتوح على مصراعيه داخل مدينته غزة. شيءٌ غريب يصيبه وهو يعرض صوراً للوحاته المشغولة بصراع الإنسان والأرض؛ فهذا وجوده الأول في فضاء العرض منذ «7 أكتوبر». تلتقيه «الشرق الأوسط» للسؤال عن أصداء الواقع في موضوعه وأثره في كثافته، وعن الامتلاء بمكان قدره الاقتلاع عنه.

للمفتاح بُعد إنساني يتعلّق بالمكان الذي يسكن المرء (الشرق الأوسط)

اطمأن نسبياً إلى أنّ كل شيء «في مكانه»، وإن ابتعد عن الأرض والأهل. تراءت غزة «موجودة»، فاستكان إلى أنّ إقامته في فرنسا لا تحول دون تبديد المسافة المؤدّية إلى أصله. كان ذلك قبل الاحتراق الكبير. يرتبك في الكلام لارتقاء المعاني إلى مستوى الفظاعة. يختزل مفهوم «المفتاح»، في مجموعته، ما تتعثّر المفردات في وصفه، ليس لارتباطه بالذاكرة الفلسطينية ورمزية العودة فقط، بل لبُعده الإنساني المتعلّق بالمكان وهو يشهد تبدُّل الأدوار، فيسكن صاحبه، لا العكس، وإنْ تغرَّب في الأصقاع.

يُجنّب فنه الخطاب السياسي المباشر لإتاحة إسقاطه على عموم الإنسان... فالمعروض لا يستجدي التعاطف، ولا يقف موقف الضحية. يخشى فناً يستغلّ الحدث فيفرَغ تماماً من بعده، أو تجفّ منابعه حين لا تنهل من الآخرين. وَضْعه التجربة الفنية ضمن حيّزها الإنساني يعزّزها بما هو أبعد من النطاق الجغرافي والسياسي والتاريخي الضيّق. هنا فقط، تنطلق نحو الآفاق الواسعة.

«شلل الوقت» من أعمال تيسير البطنيجي (الشرق الأوسط)

يتحدّث عن «احتمال اشتباكٍ مباشر للفن مع الواقع» حين يفرض نفسه على الأعمال. يعود إلى عام 2001 مع بداية الانتفاضة الثانية في غزة، ليقول: «رأيتُ شباناً يرمون الاحتلال بالحجارة ويتصدّون بأسلحتهم وأجسادهم. تساءلتُ عن دوري بصفتي فناناً؛ فهل أرجم مثلهم؟ لا؛ دوري في فعل تعبيري آخر. ترافقت تلك المرحلة مع اهتمامي بالصورة، فالتقطتُ لحظات من حياتي اليومية تُمثّل المجالَيْن العام والشخصي. لأشهر، صوّرتُ الشارع والتنقّل بين الأماكن، إلى أن شعرتُ بنوع من الغرابة تتيحه هذه الصور لدى معاينتها من منظور خارجي. ولمّا أدركتُ أنني أمام الكاميرا ووراءها في آن، رحتُ أحتفظُ بالصور بدل اللامبالاة بها. تحت عنوان (غزة يوميات)، شكّلتها بإطار فيديو مع صوت مدّته 6 ثوانٍ. مَشاهد تُصوِّر حياة الناس اليومية تتخلّلها مقاطع سريعة جداً لسكين جزار يؤدّي دور مُقطِّع الصور. كلما قصَّ هذا (الساطور) صورة، توالت أخرى. لدى العرض، عدَّته تعليقاتٌ عملاً مباشراً. مع الوقت، عاينتُه أيضاً بنظرة مُشابهة، فقدّمتُ نسخة ثانية تخلو من السكين، من دون الكفّ عن عرض العمل الأول، فقد كان خلاصة علاقتي بالواقع وطريقة قراءتي له. تفادي المباشر ينقذ الفن من الوقوع في الخطاب».

يُلحق الجواب بتأكيد مفاده بأنّ طبيعة الفن قوامها السياسة، فيصعب فصل المسألتين، ويتابع: «الهواء الذي نتنفّسه مرتبط بالسياسة، لكن ثمة فارقاً بين تحوُّل العمل إلى خطاب أو ترجمة للمفاهيم السياسية، وبين مُساءلته السياسة واستدعائها لإعادة صياغتها وفق مفهوم إنساني. بهذا يستمدّ قيمته ولا يخضع تماماً للمفاهيم الضيّقة والمباشرة».

مادة القلم الرصاص تشكّل رمزية زهرة فلسطينية (الشرق الأوسط)

ماذا عن تأثيرات اشتعال الواقع في تحديد كثافة الموضوع؟ هل تُلهم الإبادة المرتكبَة تشكيلها فنياً بما لا يحرّكه الحدث العادي؟ الحرب بالنسبة إليه «فعل قائم»، لكن ما حدث «لم نعتده منذ النكبة». ليس استهانة بأحداث عام 1948 قوله إنّ الإبادة المتواصلة «تفوق جميع النكبات، لتُشكّل منعطفاً خطيراً في تاريخ القضية الفلسطينية»، عادّاً إياها «فعل وجود، فإما نكون وإما لا نكون». مع ذلك، يرى أنه من الصعب على الفنان تحويلها فجأة إلى منجَز إبداعي: «بإمكانه التفاعل إنسانياً، أما ترجمة المأساة إلى فن، فتحتاج بعض الوقت. على المستوى الشخصي؛ أعيش خسارة جزء من عائلتي، إضافة إلى الخسارة العامة. الوَقْع أليم جداً، والمسافة المطلوبة لولادة عمل لا تزال ضئيلة».

المعروض لا يستجدي التعاطف ولا يقف موقف الضحية (الشرق الأوسط)

المرة الأولى التي غادر فيها غزة كانت بكامل إرادته. حينها؛ شاء صقل النفس، وتطوير الأدوات والمهارات، فدرس الفنون في العاصمة الفرنسية. المغادرة اللاحقة يصنّفها اقتلاعاً، فيقول: «الإنسان لا يُسلَخ. ثمة أماكن تسكننا إلى الأبد. أقيم في فرنسا، لكنّ حياتي تسير على وَقْع الحرب في غزة. الجغرافيا هنا لا تُشكّل الروح الإنسانية. ما يُبقيها حيّة مسائل مرتبطة بالهوية والانتماء. البُعد لا يغيّر شيئاً في طريقة التفاعل. إنه يكثّف الشعور بالذنب والعجز، ويجعلنا حيارى حيال دورنا في تخفيف وطأة الألم».

يبتسم لافتراضٍ يُعرّي فنه من موضوعه الفلسطيني ويُسائله عما إذا كان ليقدّم لو لم يُعمَّد بتاريخ من الظلم والصراع؟ يجيب: «إنه سؤال صعب. وُلدتُ فلسطينياً، ويصعُب تخيُّل مصيري خارج هذه الهوية. أستطيع التأكيد أنّ فني لا بدّ سيتضامن مع حق الشعب الفلسطيني بالوجود وتقرير المصير والحرّية والعدالة».

تستوقف مسألة الهشاشة الناظر إلى أعماله المُجسَّدة عبر وسائط لا تكتفي بالمُحايد مثل السطح، بل تتعدّاه إلى المتحوِّل والقابل للتحلل مثل الصابون. اندراج هذه الأعمال تحت عنوان «الفن المفاهيمي» يجعله في وضعية بحث مستمر عن الأداة الأفضل تعبيراً عن أفكاره. تجسيداً للهشاشة والنسبية، حَفَر على الصابون البند الثالث عشر لحقوق الإنسان، رفضاً لازدواجية تطبيقه على البشر، فيحظى بعضٌ بحرّية الحركة والتنقّل ومغادرة الوطن والعودة إليه، ويُحاصَر ويُباد بعضٌ آخر. تحلل المادة وزوالها اعتراض صارخ على القانون الدولي.

عرس الكتاب في «معرض الرباط»

قبل الدخول إليه تستقبلك حدائق الحسن الثاني الغنّاء الفسيحة الأرجاء. إنها من أجمل الحدائق والبساتين…