الشاعر المصري الساخر محمود غنيم، حاول الترويح عن صديق له سُرقت محفظته بقوله:
هوِّن عليك وجفِّف دمعك الغالي
لا يجمع الله بين الشعر والمال.
أما زميله إبراهيم المازني الكاتب البائس ذائع الصيت، فقد اضطرته ظروف الفقر إلى بيع مكتبته -وهي أعز ما يملك الكاتب- وحينما ذهب ذات يوم لشراء بعض الزيتون، فوجئ بأن الورقة الملفوفة به لم تكن سوى ورقة من أوراق أحد مؤلفاته!
هذا التبخيس لقيمة الثقافة والإبداع في العالم العربي، تقابله صورة نقيضة في مجتمعات أميركا وأوروبا، كشف عنها تقرير نشرته شركة «ويلث إكس» سنة 2018، عن تتبع رؤوس الأموال في العالم، في تبرعات الخيِّرين من الأثرياء الذين تبلغ ثروة الواحد منهم ثلاثين مليون دولار، قد منحوا -وقتها- نحو 153 مليار دولار للأعمال الخيرية في العالم. ويؤكد التقرير أن ما قدمه هؤلاء الأثرياء يعادل إجمالي إنفاق الحكومة الفيدرالية الأميركية على الرعاية الصحية والتعليم والثقافة، بينما لم يتجاوز ما قدمه أثرياء منطقة الشرق الأوسط بما فيهم أثرياء العالم العربي 5 في المائة من إجمالي تبرعات الأثرياء في العالم!
من هنا تكمن أهمية ما قدمه عبد العزيز البابطين من دعم للتعليم والثقافة والإبداع الشعري، قياساً على نظرائه من أثرياء العرب الخيِّرين، أمثال: رجل الأعمال السعودي عبد المقصود خوجة، والإماراتي سلطان العويس، والكويتية الدكتورة سعاد الصباح، والفلسطيني عبد المحسن القطان، والفلسطيني الآخر عبد الحميد شومان، عبر مجالسهم، ومطبوعاتهم الثقافية، وجوائزهم العلمية والأدبية.
هؤلاء هم من يشملهم مصطلح «رأس المال الثقافي» الذي صكه بيير بورديو عالم الاجتماع والمنظر الثقافي الفرنسي، على أنه «رأسمال رمزي» يحصل عليه الأفراد والنخب الثقافية أو المؤسسات، وهو مجموع القدرات والمواهب المتميزة للحائزين عليها من الأثرياء، بتفوقهم وحضورهم، إضافة إلى ما يحصلون عليه من مكاسب مادية، وبذلك يحظون بالمكانة الاجتماعية داخل الحقل الثقافي، وبهذا يحصلون على رأسمال اجتماعي، يتمثل في مدى تأثير الثري المحسن في المجال العام، وهو بهذا يحصل في نهاية المطاف على رأسمال رمزي، من شهادات وأوسمة وألقاب، نظير ما اقتطعه من رأسماله المادي في دعم المشروعات التنموية المختلفة.
يقول بيير بورديو في آخر فصل من كتيِّبه «الرمز والسلطة» المعنون بـ«الرأسمال الرمزي والطبقات الاجتماعية»: «أن تكون نبيلاً معناه أن تبذر، محكوماً عليك بالرفه والبذخ، وقد احتد الميل إلى التبذير رداً على الارتقاء الاجتماعي للأثرياء الجدد... في قرون مضت، فما الذي يميز الفارس الأصيل عن حديث النعمة؟
ذلك أن الثاني بخيل، أما الأول فهو نبيل؛ لأنه يصرف كل ما لديه بكامل الانشراح، وإن كان مثقلاً بالديون».
من هنا ندخل إلى سيرة عبد العزيز البابطين الذي قادته الحاجة إلى المال والترقي الاجتماعي نحو العمل أميناً لمكتبة مدرسة ثانوية الشويخ سنة 1954، مدفوعاً بتعشقه الشعر النبطي، مقتدياً بأخيه الأكبر عبد اللطيف البابطين الذي ألف –وقتها- مختاراته (معجم شعراء النبط). هذا، وقد تمكن عبد العزيز من تنظيم وقته، بالعمل صباحاً في أمانة المكتبة، وعصراً بفتح دكان في حولي، وليلاً الدراسة النظامية، حتى حاز شهادة الثانوية العامة. وإذ تمكن من مراكمة رأسماله المادي، عبر حصوله على وكالات تجارية أجنبية، وجد نفسه يعود إلى عشقه القديم بقراءة الشعر العربي الفصيح، ونظم قصائده على النمط الخليلي.
ومنذ سنة 1989 فاجأ المجتمع الأدبي في العالم العربي بإطلاق «جائزة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري» في القاهرة، مستعيناً بعلاقات مَن أصبح أمينها العام (عبد العزيز السريع، وهو الكاتب المسرحي) بأدباء وشعراء العالم العربي؛ حيث وُزعت الجوائز على الفائزين بها لأول مرة في مايو (أيار) من عام 1990، وكانت سنوية حتى عام 1992؛ حيث رُفعت بعد ذلك العام إلى قيمتها الحالية وصارت تُمنح مرة واحدة كل سنتين.
وقد تطورت الجائزة إلى مؤسسة، وأصبح من أهدافها:
إقامة مسابقة عامة في الشعر العربي ونقده، مرة واحدة كل سنتين، ضمن دورات المؤسسة، وتكريم المبدعين في هذه المجالات، وإصدار سلسلة «معاجم البابطين» لشعراء العربية المعاصرين والراحلين، وإصدار مطبوعات عن شعراء دورات المؤسسة بالتزامن مع إقامتها، تتضمن: دواوينهم وأعمالهم الإبداعية الأخرى، وأبحاثاً عن سيرهم وأدبهم، وإقامة ندوة أدبية مصاحبة للدورة عن شاعرها تتضمن أبحاثاً عن بعض قضايا الشعر ونقده، وأخرى لحوار الحضارات والثقافات والأديان، وإقامة ملتقيات شعرية نوعية مختلفة، ومنها ملتقى الشعر النبطي، وإنشاء مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي والدراسات الأدبية والنقدية والتاريخية المتصلة بالشعر والشعراء، وإنشاء المكتبة السمعية للشعر العربي، من خلال تسجيلات صوتية ومرئية لمختارات من قصائد شعراء العربية القدامى والمعاصرين، بأصوات فنانين وإذاعيين، والاتصال بأساتذة أقسام اللغة العربية في الجامعات العربية، وأقسام الاستشراق في الجامعات الأجنبية، وإيجاد فرص للتعاون معهم فيما يهم الشعر العربي إبداعاً ونقداً ودرساً.
مركز حوار الحضارات
بعد أحداث التفجير الأول لمركز التجارة العالمي في نيويورك سنة 1993، تعرضت صورة الإسلام والعرب لهجمة شرسة من الدوائر السياسية والوسائل الإعلامية في أميركا وأوروبا. وجدنا عبد العزيز البابطين يوظف رأسماله المادي والاجتماعي والثقافي والرمزي توظيفاً ذكياً، بإنشاء مركز لحوار الحضارات سنة 1994، عاملاً على إحياء نشاط ثقافي وشعري في قرطبة، برعاية الملك الإسباني خوان كارلوس في «دورة ابن زيدون» عشيق ولادة بنت المستكفي، الشاعرة الجميلة التي مكَّنت عاشقها من صحن خدها! مستثمراً هذه الدلالة الرمزية في التعايش العربي الإسباني، قبل حلول محاكم التفتيش الكنسية المظلمة والظالمة، في تاريخ الحوار الحضاري بين العرب والغرب، وما تأتَّى عنها من منع الصلاة في مسجد قرطبة. وأتذكر هنا حين قمنا بزيارته -وقتذاك- وكذلك قصر الحمراء الباهر بطرازه المعماري، كيف عمل عبد العزيز البابطين على تصحيح مفاهيم المرشدين السياحيين المضللة، بتعديل النظرة الغربية المعاصرة إلى الشخصية العربية، بإضافة البعد الثقافي العربي والإسلامي المغيب في الجنوب الأندلسي، على ألسنة المرشدين السياحيين.
ونظراً لما حققه البابطين من استثمار رأسماله المربع (المالي والاجتماعي والثقافي والرمزي) دعاه رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة ميروسلاف لا شجاك في السابع من سبتمبر (أيلول) 2017 إلى إلقاء كلمة من على منبر الأمم المتحدة بنيويورك، بعد لقاء أجراه البابطين مع المعهد العالمي للسلام. وقد تمركزت كلمته حوله، مؤكداً على الدعوة إلى التعايش بين الشعوب، والحوار بين الحضارات، ودعم الروابط بين الثقافة والسلام مادياً ومعنوياً، بحضور مندوبي الدول في الأمم المتحدة، وممثلي الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني والقطاع الخاص.
وكذلك دُعي البابطين إلى التحدث في جامعة أكسفورد؛ حيث دعم فعالية ثقافية وأكاديمية في هذه الجامعة العريقة، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي ومنظمة «اليونيسكو»، أنقذ في إطار ذلك وقفية قديمة لتعليم اللغة العربية، كانت قائمة فيها منذ سنة 636م في سياق دعمه السخي لبرامج تعليم اللغة العربية في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وأميركا والصين، وعدد من جمهوريات آسيا الوسطى، ولم يستثنِ جزر القمر النائية من هذه البرامج، بابتعاث مئات من الطلبة من تلك البلدان إلى تعلم اللغة العربية في بعض الجامعات العربية.
هكذا استثمر عبد العزيز البابطين في الرأسمال الثقافي، فأصبح بفضل ذلك وسيطاً بين الدول بعدما كان بائعاً جوالاً! وذلك بإتقانه توجيه هذا الرأسمال في المجال العام، بوصفه محركاً يمنح الفرد قوة اجتماعية، واحتلاله موقع التأثير المعنوي؛ لا داخل المجتمعات العربية والإسلامية وحدها؛ بل والعالمية. لذلك حصل على رأسمال رمزي شعَّ بالأوسمة والألقاب وشهادات الدكتوراه الفخرية، كاسراً بذلك تشاؤم الشاعر محمود غنيم، بجمع عبد العزيز البابطين الفريد بين الشعر والمال، وبين الرأسمال المادي والرأسمال الثقافي.