البعد الوطني في قيام السعودية

البعد الوطني في قيام السعودية
TT

البعد الوطني في قيام السعودية

البعد الوطني في قيام السعودية

نحتفل في هذه الأيام بيوم تأسيس السعودية في 22 فبراير (شباط) 1727 الذي لا يزال البعض يخلط بينه وبين اليوم الوطني 23 سبتمبر (أيلول) 1932، فالتاريخ الأول يرمز لقيام الدولة السعودية في مرحلتها الأولى مع محمد بن سعود أول حكام آل سعود والتي انطلقت من الدرعية واتسعت اتساعاً لم يكن له مثيل في المساحة والتاريخ. الثاني هو يوم الإعلان عن مملكة عبد العزيز بن عبد الرحمن وقيام المملكة العربية السعودية التي نعرفها اليوم. يتحدث كثيرون عن ثلاث دول سعودية، بينما هي دولة سعودية واحدة مرت بثلاث مراحل، وظهرت في صورتها الأكمل مع عبد العزيز بن عبد الرحمن، مؤسس المملكة الحديثة.

بما أننا في أيام التأسيس فسيكون الحديث عن دولة محمد بن سعود، خصوصاً أن تلك الحقبة التاريخية التي عاش فيها أصبحت بعيدة عنّا بعض الشيء ورحل عن دنيانا مَن عاصروها، وما زالت تلك الفترة جديرة بالبحث والتحليل واختلاف الرؤى. كثيرة هي الإشارات إلى البعد الديني لقيام هذه الدولة، والبعد الديني مهم ولا شك، ولكن لكثرة من تحدثوا عنه سنتركه. وسنسلط الضوء على بُعد لم يتحدث عنه الكثيرون، وإن جرى الحديث عنه، فلا يكون بالوضوح المطلوب.

أول ما ينبغي قوله هو أن نجداً لم تقم فيها دولة قط بمعنى «الدولة» إذا تجاوزنا دولة بني أخيضر الزيدية (866 – 1093)، التي سقطت وزالت منذ زمن بعيد. كان هذا إنجازاً كبيراً، أن تقوم في نجد دولة مركزية حديثة بعد أن عاشت التهميش بطول التاريخ الإسلامي، فعواصم الخلافات العربية قامت في دمشق وبغداد، ثم انتقلت إلى الأندلس. لهذا كان قيام الدولة الجديدة في نجد مصدراً لاعتزاز كل عرب الجزيرة وليس أهل نجد فقط. يشهد لهذا نصوص شعرية كثيرة كتبها شعراء من الحجاز وعسير وكل مناطق الجزيرة ابتهاجاً بهذا التأسيس.

لم تخضع نجد في يوم من الأيام لعثماني ولا لإنجليزي، مع أن العثمانيين كانوا يسيطرون على الحجاز، وكان الإنجليز موجودين في مناطق متعددة من البلاد العربية يراعون مصالحهم بالسياسة دون أن يخوضوا حروباً تُذكر. الاستعمار الإنجليزي يختلف عن الاستعمار الفرنسي الذي يصرّ على أن يفرنس البلاد التي يحتلها ويُغيِّر ثقافتها.

وربما أن السبب في سلامة نجد من الاستعمار هو سوء الأحوال الاقتصادية في تلك الفترة، وأنه لم يكن فيها مطمع. ومع ذلك كان الإنجليز والعثمانيون يتنافسون على الهيمنة على المنطقة، على الأقل بهدف تأمين طرق التجارة. هذه الرغبة في الهيمنة هي نوع من الحكم عن بُعد، أو قُلْ سرقة القرار السياسي، كما تفعل إيران اليوم مع عدد من الدول العربية.

قيام الدولة السعودية في 1927 كان إعلاناً عن رفض آل سعود وعرب الجزيرة أن يحكمهم مَن ليس منهم؛ رفضٌ للحكم المباشر ورفضٌ للهيمنة. كان لديهم من الأنفة ما يمنعهم من قبول الحكم العثماني، وقد وقعت حروب كثيرة بينهم وبين الأتراك حتى أجلى الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آخر جندي عثماني من الأحساء قبل سقوط خلافة بني عثمان.

هذا الوعي العربي الوطني كان موجوداً قبل قيام الدولة، وعي تجلى في حالة السآمة من التشرذم والتبعثر ووجود عشرات «الدويلات» الصغيرة المبعثرة هنا وهناك بعدد البلدات الموجودة في المنطقة. تشرذم أدى لضياع حق الضعيف وتجبر القوي وانتشار الخوف واختلال الأمن. ولم يزل هذا الوعي يقوى ويعلن عن الحاجة إلى الاستقرار والأمن وتحقيق العدالة. في كل هذا تجلّى مشروع محمد بن سعود السياسي، وقد نقل أستاذ الاجتماع العراقي علي الوردي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث)، (1-181)، عن المؤرخ العراقي عثمان بن سند قوله: «إن من محاسن الدولة أنهم أماتوا البدع ومحوها، ومن محاسنهم أنهم أمّنوا البلاد التي ملكوها، وصار كل ما كان تحت حكمهم من هذه البراري والقفار يسلكها الرجل وحده على حمار بلا خفر، خصوصاً بين الحرمين الشريفين، ومنعوا من غزو الأعراب بعضهم على بعض، وصار العرب جميعاً على اختلاف قبائلهم –من حضرموت إلى الشام– كأنهم إخوان أولاد رجل واحد، وهذا بسبب شدتهم في تأديب القاتل والسارق والناهب إلى أن عُدم الشر في عهد ابن سعود، وانتقلت أخلاق الأعراب من التوحش إلى الإنسانية.

فكأنهم جعلوا تأمين الطرقات ركناً من أركان الدين، ويُفهم عقلاً من سياستهم أنه إذا فُقد القاتل والسارق والناهب، فأي سبب سيمنع الناس من الاشتغال بالزراعة أو التجارة أو اقتناء المواشي في البادية المخصبة للتكسب من ألبانها وأصوافها وجلودها! وإذا اشتغلوا بالكسب الحلال فلا يسرقون ولا ينهبون ولا يقتلون، فكأن المسألة شبيهة بالدورية، أي متى وُجد الأمان ارتفع السارق والقاتل لاشتغالهم بمعاشهم الحلال، ومتى اشتغلوا بالحلال وُجد الأمان».

هذا النص من ابن سند شهادة معاصر للدولة السعودية في مرحلتها الأولى فقد عاش ما بين (1766 و1826) أي إنه مات بعد هدم الدرعية بثماني سنين. ولا بد أن نسجل أيضاً أن الشيخ المؤرخ عثمان بن سند كان خصماً للدعوة السلفية، إلا أنه أدلى بهذه الشهادة التي تفيض إعجاباً بالدولة السعودية التي عاصرها وكيف أحيت الشعور الوطني والأَنَفَة العربية والأخوّة بين الناس.

كثيرون يعتقدون أن بث الأمن ابتدأ مع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، إلا هذا النص الذي بين أيدينا يؤكد أن نشر الأمن هو المشروع السياسي لدولة محمد بن سعود وأبنائه، بل هو مشروع الدولة السعودية في كل مراحلها وإلى أيامنا هذه، فالسعودية منذ استقرارها كانت وما زالت داعيةً إلى وقف الحروب واستقرار محيطها العربي، والانتقال من الاقتتال العسكري والسياسي إلى التجارة وتبادل المنافع.

* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

ثقافة وفنون ابن رشد

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

أعتقد أن محمد أركون كان يتماهى إلى حد ما مع ابن رشد، كان يجد نفسه فيه، بأي معنى؟

هاشم صالح
ثقافة وفنون «سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

«سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

لطالما اقترن الرقم «سبعة» بخصوصية سِحرية في مُخيلة سرديات البِحار، فحكايات السندباد البحري وأسفاره السبعة تُحيلنا إلى متاهات البحور التي لا تنقطع حبائل غرابتها

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين
TT

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ والروائي والمسرحيّ والناشط السياسيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل». وعندما نشر روايته «بلد آخر» (1962)، اختارت «الصنداي تايمز» الأسبوعية اللندنية المرموقة وصفه بـ«الزوبعة».

واليوم، وبينما يحتفل العالم بمئوية ولادته (في 2 أغسطس 1924)، تبدو تلك الأوصاف عاجزة عن إيفائه حقه لدوره اللامع في توظيف أدوات الخيال الأدبي لنقل النقاش حول المسألة العرقيّة في مجتمعات الولايات المتحدة إلى المستوى الشخصيّ لكل الأميركيين؛ ذوي البشرة البيضاء منهم، قبل السود. لقد تجرأ ابن حي هارلم الشعبيّ في نيويورك على نكء جروح مرحلة الفصل العنصري بكل آثارها النفسيّة العميقة، وكشف، بلغة وثيرة، عن مرارات تعتمل في قلوب المجموعتين على جانبي خط التفريق بين بني آدم وفق ألوان بشرتهم.

وقبل وقت طويل من وفاته بسرطان غادِرٍ في 1987، أصبحت كتاباته معياراً للواقعيّة الأدبيّة ومادة لا بدّ منها لفهم خليط الألم والتكاذب والنّدم الذي يملأ تاريخ الحياة الأميركيّة في القرن العشرين.

جاء بالدوين إلى الأدب من الصحافة، لكنّه كان قد حسم مبكراً اختياره لقضيته بانحيازه إلى الإنسان لمحض إنسانيته، فكانت مقالاته مثالاً متقدماً على استحضار روح الجرأة والشجاعة والمنطق الهادئ للتأثير على أهم الأسئلة التي طالما راوغ المجتمع الأميركي لتجنبها، فيما ألقت قصصه القصيرة ورواياته ومسرحياته بالضوء على معاناة الأفراد جرّاء تلك المراوغة المكلفة، مدققاً في كل الزوايا المظلمة التي حفرتها في الحياة الاجتماعية للأميركي العادي. على أن الاستماع اليوم لبعض من خطبه ومقابلاته المصورة تظهر كم وجدت روحه المحلقة صوتها الأعلى في الخطابة. لقد وقف ذات يوم أمام نخبة الأكاديميا البريطانية (بجامعة كامبريدج) كما شامان ينظر إلى ما وراء الأفق، وأنذرهم بأنه «لن يكون ثمة مستقبل للحلم الأميركي ما لم يكن الأفروأميركيين طرفاً فيه. هذا الحلم، إن كان على حسابهم، سيتحطم». لم يكن قلقه المزمن الذي لوّن خطابه نتاج يقينه بالفشل الكارثي للحلم الأميركي فحسب، بل وأيضاً جزعه من ذلك العجز الجمعي للشعب الأميركي عن التعامل مع تلك الكارثة. فأي بصيرة تلك، وأي جسارة على توصيف الظلام.

جمع بالدوين إلى موهبته الأدبيّة الظاهرة، ولغته المضيئة كما بلّورٍ صافٍ، قدرة بتّارة على استكشاف أوجاع ناس المجتمعات المعاصرة، واستقامة تفوق مجرد الصراحة في استدعاء مواضع الخلل المتوارية، وطرحها بكل عريها المخجل على العلن. لقد كان شخصية قلقة بامتياز، ولكن أيضاً مُقْلِقةً ومخلّة بالسلام الخادع الذي يتظاهر البعض به حفاظاً على أوضاع قائمة لمجتمع غارق حتى أذينه في لجة وهم الرضا عن الذات.

إن فلسفة بالدوين الأثيرة العابرة لمجمل تراثه الأدبيّ كانت دائماً وحدة المصير البشري بحكم الإنسانية المشتركة، ولذلك كان يرى أن مهمة المثقف المبدع لا تبتعد عن نطاق اكتشاف حر لمساحات القواسم المشتركة - على الرغم من وجود الاختلافات التي ينبغي عنده أن تكون مصدراً لإثراء الاتصال بين البشر، لا أساساً لخنقه - ليخلص إلى أن العائق الأساسي أمام تلك المهمة في حالة المجتمع الأميركي جبن أخلاقيّ ترسّخ في القطاع الأبيض منه ولم يَعُد يَسهُل اقتلاعه. على أن هذا التخلي، وفق بالدوين دائماً، لا يُلحق فقط أضراراً مدمرة بنفسيات الأفروأميركيين الذين تنكر عليهم إنسانيتهم، وإنما تسقط الأميركي الأبيض أيضاً في هاوية من الاستحقاق الظالم، وفقدان الحس الإنساني الأساسي، والتناقض القاتل.

انخرط بالدوين شاباً بالقراءة، ويبدو أنه لجأ إلى الأدب والأفلام والمسرح لتجاوز بيئته الفقيرة القاسية وهرباً من إغراءات الجريمة والمخدرات التي تفشت بين الشبان الأفروأميركيين بحكم الواقع الموضوعي لظروف عيشهم حينئذٍ فئة منبوذة. وكانت له في بداياته اهتمامات دينية تأثراً بزوج والدته الواعظ الإنجيليّ، لكنه سرعان ما بدأ، مع تفتح وعيه السياسيّ، بالتشكيك في منطق قبول السود للمبادئ المسيحية، التي استخدمت - في توظيف فجّ - لاستعبادهم. لكن تجربته في أجواء الكنيسة كانت مهمة كي يدرك أن لديه سلطة كمتحدث ومَلَكة كخطيب، ويمكنه التأثير على حشد من المستمعين.

بعد فترة وجيزة على تخرجه من المدرسة الثانوية بداية أربعينات القرن الماضي، اضطر بالدوين إلى العثور على عمل للمساعدة في إعالة إخوته وأخواته، بعدما أعجز المرض زوج والدته، لكن قناعة تكونت لديه بأن مستقبله سيكون في الكتابة، فانطلق يدبّج رواية بينما يجمع قليلاً من الدولارات بالعمل في وظائف بسيطة ومؤقتة إلى أن التقى ملهمه الأديب ريتشارد رايت في عام 1944، الذي تدبّر له أمر الحصول على زمالة يوجين إف ساكستون كي يتفرّغ للكتابة. ومع أن بالدوين بدأ يتلقى نوعاً من الاعتراف بموهبته من خلال قبول نصوص منه للنشر في مجلات مهمة، فإنه وبشكل متزايد شعَر بالاختناق والغربة عن المناخ الاجتماعي المسموم في الولايات المتحدة حينئذٍ، لينتهي به الحال إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث تكفلت أموال زمالة أخرى حصل عليها عام 1948 بتكاليف سفره، وفيها نشر روايته الأولى «أعلِنوا مولده من فوق الجبل» (1953) ومعظم أعماله التالية. ويشعر معظم من عرفوا بالدوين أن هذا الانتقال عبر الأطلسي كان جذرياً في مسار تطوره الفكريّ والأدبيّ، وفهم ذاته كأفروأميركي ينحدر من أسرة من المستعبدين تصادف أنه امتلك ناصية أدوات التعبير.

أمضى بالدوين الأربعين عاماً التالية متنقلاً في أرجاء أوروبا؛ حيث تعرّف على أشهر مثقفيها، مع زيارات قصيرة للولايات المتحدة لقضاء بعض الوقت مع عائلته الكبيرة، والمشاركة في المؤتمرات الأدبية المهمة كما نشاطات حركة الحقوق المدنية، فكان شاهداً على مسيرات الحركة الشهيرة في واشنطن (1963) ومونتغمري (1965) وغيرهما. لكن الاغتيالات التي طالت أصدقاءه من القادة الأفروأميركيين السود خلال ستينات القرن العشرين المضطربة (مدغار إيفرز، ومالكولم إكس، ومارتن لوثر كينغ الابن) أنهكته عاطفيّاً، وتسببت بمرضه؛ ليقصد، بداية السبعينات، جنوب فرنسا سعياً للتعافي.

اشترى بالدوين منزلاً له في سانت بول دي فينس الخلابة على أطراف جبال الألب، وتوفي فيه يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1987، بعد معركة قصيرة خاسرة مع سرطان المعدة. وقد دفن تالياً في مقبرة فيرنكليف بنيويورك، وأقيم لراحة روحه قداس مهيب شاركت فيه عائلته ورموز الثقافة الأفروأميركيّة، وكتب أحدهم - أوردي كومبس - في رثائه: «لأن بالدوين كان موجوداً معنا، شعرنا أن المستنقع العنصري الذي يحيط بنا لن يستهلكنا، ولست أبالغ حين أقول إن هذا الرجل أنقذ حياتنا أو، على الأقل، أعطانا الذخيرة اللازمة لمواجهة ما كنا نعرف أنه سيظل عالماً عدائياً ومتعالياً».