الحب كتضافر خلاق بين عنصري الماء والتراب

واءمته الأساطير والكتب المقدسة والفنون مع الخصوبة وتفتح الحياة

أنسي الحاج
أنسي الحاج
TT

الحب كتضافر خلاق بين عنصري الماء والتراب

أنسي الحاج
أنسي الحاج

لم يكن الفلاسفة والباحثون ليجافوا الحقيقة في شيء، حين رأوا في التجليات المختلفة للحب ما يختزل العناصر الأربعة للوجود، الماء والتراب والنار والهواء. وإذا كان الربط بين الحب والنار يتصل إلى حد بعيد بمجتمعات الرعي والصيد، حيث واءم باشلار بين النار المتولدة عن احتكاك الأجساد، وبين النار الطاهية للطرائد ونباتات الأرض، فإن الربط بين الحب وبين عنصري الماء والتراب بدا محصلةً طبيعيةً لنشوء المجتمعات الزراعية المستقرة، في وادي النيل وبلاد الرافدين، ومجتمعات أخرى مماثلة. وقد بدت النقوش والمنحوتات والنصوص المبكرة التي تركتها وراءها شعوب الشرق القديمة، كالسومريين والبابليين والكنعانيين، بمثابة تعبير رمزي عن مفهوم الحب في الشرق القديم، أو عن «طقوس الجنس المقدس»، وفق تعبير صموئيل كريمر. فقد ذهب كريمر إلى القول بأن الاقتران بإلهة الخصب «إنانا» كان الهدف الأول لملوك سومر، الذين كانوا يتوقون إلى مضاعفة المحاصيل ودفع الزرع إلى النمو.

بول إيلوار

ووفق الأساطير القديمة لم تكن «إنانا» متحمسة للاقتران بـ«ديموزي»، بل كانت تؤثر بحماس العيش في كنف الفلاح الذي يطعمها الثمار. إلا أن إصرار أخيها «أوتو»، إله الشمس، على زواجها من صديقه الراعي، فضلاً عن رغبة الفلاح المسالم في الانسحاب من المواجهة تجنباً للعنف الدموي، هما اللذان أخذا الأمور نحو نهاية مغايرة. ومن يتتبع النصوص القديمة المنسوبة إلى شعراء سومر، ممن نظموا القصائد والأهازيج احتفاءً بالزواج الإلهي، لا بد أن يلحظ التناظر الرمزي بين طقسي الحب والخصب، حيث صورة الرجل الماء، أو الزارع، تقابلها صورة المرأة التراب والأرض الولود. وهكذا تهتف «إنانا» بـ«ديموزي»:

يا زوجي

المخزن الكبير والإصطبل المبارك

أنا إنانا، سوف أحافظ عليه من أجلك

سوف أحرس «بيت الحياة» الذي لك

ومكان العجائب المشع في البلاد

وأغلب الظن أن قصة إنانا وديموزي كانت الأسطورة المؤسسة لثنائيات العشق المماثلة التي ابتكرتها مخيلات الشعوب القديمة من حاجتها إلى الخصب والنماء، فتقمصت إنانا أسماء عشتار وعشتروت وفينوس وأفروديت وإيزيس، فيما تقمص ديموزي أسماء تموز وأدونيس وأوزيريس، الذي رأى جيرار دو نيرفال في انبعاثه من الموت ما وثّق صلة المصريين بالماء العذب، وبنهرهم العظيم على وجه الخصوص. وقد بدا واضحاً أن موت تموز مقتولاً بأنياب الخنزير البري، ومن ثم تمكُّن عشتار، بعد نزولها إلى العالم السفلي، من إقناع الآلهة بإحيائه لشهور ستة من السنة، هو المعادل الرمزي لانطفاء الحياة في فصلي الخريف والشتاء، وعودتها في الربيع والصيف محملةً بأشهى الثمار والمواسم. وإذ يذهب جيمس فريزر في كتابه «الغصن الذهبي» إلى القول بأن اسم تموز البابلي يعني الابن الحق للمياه العميقة، يرى في المراثي البابلية التي أعقبت موته، تأكيداً لهذا المعنى، حيث يتحول رثاؤه إلى رثاء للطبيعة نفسها، كما في هذه الأبيات:

طرفاه في الجنينة لم يسقها الماء

ولم تزهر بالنور قمتها في الحقول

صفصافةٌ تمزقت جذورها

فلم تسعد بالمياه الجارية

وقد توقف فريدريك هيغل ملياً عند الطبيعة الجسدية البحتة للعلاقة بين العاشقين في العصور القديمة. وإذ ينفي وجود الحب الرومانسي عند القدماء، يبرهن على صحة فرضيته بشعر سافو الذي «يُظهر الغليان الشهواني للدماء الفائرة»، وبتماثيل فينوس التي «ينقصها التعبير عن الإحساس الداخلي». على أن ذلك لا يعني خلو العلاقات القديمة من البعد العاطفي والروحي، بل يعني تعذر الفصل بين ما هو جسدي وما هو روحي في المجتمعات الزراعية الأولى، حيث الحاجة ماسة إلى التناسل وحفظ النوع، وحيث يأخذ الحب أبعاداً عملية ووظيفية، تماماً كما هو حال الشعر والفن في الأزمنة الأولى. والواقع أن بين الأساطير الإغريقية ما يكشف عن إعلاء لا متناهٍ للحب الروحي، وعن ربط وثيق بين الحب وانعكاساته الإبداعية، كما في أسطورة أورفيوس، الذي حوّل عشقه لأوريدبس إلى موسيقى فاتنة تدفع الكائنات برمتها إلى الانتشاء.

كما تكشف قصيدة «نشيد الأناشيد» المنسوبة إلى النبي سليمان، التي يرجح البعض أن العبرانيين استقوا مناخاتها وأسلوبها من النصوص السومرية القديمة أثناء مرحلة السبي البابلي، عن تحول دراماتيكي في طبيعة الحب لدى الأقدمين، حيث الوله العاطفي والروحي هو الوجه الآخر للشغف الجسدي الشهواني. وإذ يقر أنسي الحاج بالتباس هوية النشيد وتعدد مصادره، يشير في تقديمه له إلى طبيعته المسرحية المركبة، التي تعكسها الأصوات الثلاثة للعاشق والعاشقة والجوقة، لافتاً بالمقابل إلى تبادلٍ للأدوار بين الرجل والمرأة، «فسليمان هو الخصب، وخليلته هي الخصب أيضاً. كلاهما الذكر والأنثى، وإله الخصب وعبده، والسجال شهوة إلى الوصول والذوبان في الآخر». وبهذا يمكن للرجل أن ينشد:

قومي يا خليلتي يا جميلتي وتعالي

فإن الشتاء قد مضى والمطر مرّ وزال

الزهور ظهرت في الأرض

والتينة أخرجت فجّها والكروم أزهرتْ

ويمكن للمرأة أن ترنّم:

أنا لحبيبي وأشواقه إلي

تعال يا حبيبي لنخرج إلى الصحراء

وننظر هل أفرخ الكرْم وهل نوّر الرمان

وهناك أبذل لك حبي

ولم تختلف العلاقة بين الرجل والمرأة في الديانات التوحيدية الثلاث، عما كانت عليه الحال في الأساطير والنصوص القديمة، حيث تكاد العلاقة بين الطرفين تنحصر برابطة الزواج الشرعي التي يكون التناسل وحفظ النوع غايتها الأهم. ففي الجانب الذي يربط الحب بالخصب، ليس ثمة من فارق كبير بين الآية القرآنية «نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم»، وبين النصوص السومرية التي تؤكد على الربط بين الفعل الجنسي وحراثة الأرض. وهو ما استمرت تردداته اللاحقة في الشعر العربي، حيث تردّ امرأة أبي حمزة الضبي، الذي لامها على عدم إنجاب البنين، بالقول:

ما لأبي حمزةَ لا يأتينا يظلُّ في البيت الذي يلينا

غضبان أنْ لا نلد البنينا تالله ما ذاك في أيدينا

ونحن كالزرع لزارعينا نُنبت ما قد زرعوهُ فينا

ولم تغب ثنائية عشتار وتموز عن بال الشعراء العرب المحدثين، بل استطاعت صورة الأخير عائداً من الموت، أن تحتل موقع القلب من الحداثة الشعرية العربية. وعن المعادلة المزدوجة للخصوبة تقول فدوى طوقان:

هذه الأرض امرأة

في الأخاديد وفي الأرحام سرّ الخصب واحدْ

ومع ذلك فإن الأمور لم تكن دائماً على هذا النحو. إذ ثمة في الشعر العربي تبدّل في المعادلة، بحيث تكتسب المرأة بفعل الترحل الدائم والجغرافيا الرملية الملتهبة، ملامح الماء وأدواره ومزاياه، وينقلب الرجل إلى صحراء من العطش والخوف والتيه. وهو ما يفسر استهلال الشعراء الجاهليين لقصائدهم بذكر المرأة، بوصفها رمزاً للجمال والطمأنينة والحدب، سواء كانت زوجة أو ابنةً أو أختاً أو حبيبةً.

وقد يجد الوجه المائي للأنوثة تجلياته المثلى في تجارب الحب العذري على نحو خاص. فإذ يغيب البعد الجسدي والتناسلي عن مسرح العشق، وتنحصر العلاقة ببعض الملامسات، تنتفي الصورة النمطية للرجل المطر الذي يخصب المرأة الأرض، لتصبح الأنثى المعشوقة هي الماء الذي يعصم الرجل من الذبول. وهو ما يجد ترجمته الأبلغ في قول المجنون، أو أبي صخر الهذلي في رواية أخرى:

تكاد يدي تندى إذا ما لمستُها

وينبت في أطرافها الورق الخضرُ

ولا يحتاج ابن الأعرابي إلى ملامسة حبيبته، بل يكتفي بالإنصات إلى صوتها وحلاوة حديثها لكي يتخفف من قحط سنواته المزمن، فيقول:

وحديثها كالقَطْر يسمعه

راعي سنينَ تتابعتْ جدبا

أما جميل بن معمر فيجد في ريق حبيبته المترع بالعذوبة، ما يرد عنه غائلة الوحشة والعطش الدهري، فيهتف ببثينة:

ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني

أظلّ إذا لم ألقَ وجهكِ صاديا

 

لم تختلف العلاقة بين الرجل والمرأة في الديانات التوحيدية الثلاث عما كانت عليه الحال في الأساطير والنصوص القديمة

على أن العلاقة بين الحب والماء لم تأخذ الدلالة نفسها لدى أمم الأرض المختلفة. فإذا كانت حاجة الشعوب التي تسكن الصحارى ومناطق الجنوب إلى الخصب، هي التي تقف وراء صورة الآخر منعكسة في الماء المعشوق، فإن الماء في الغرب ومناطق الشمال لا يكتسب الدلالة نفسها، لأن الشعوب هناك لا تعاني من ندرة المطر، بل من هطوله الدائم ووفرته المفرطة. ومع ذلك فإن الماء الذي يفقد سحره، كوجهٍ محلومٍ به، أو كمنقذ من العطش المحسوس، لن يكف عن اختراع وظائفه الأخرى على أرض الواقع، أو في مخيلات الشعراء والفنانين. فهو يملك أن يسيل بلا انقطاع كدموع منهمرة من مآقي العشاق المتباعدة مسالكهم. وهو، جارياً في ساقية أو نهر، يتحول إلى عدّاد لذاكرة العشاق مترع بالحنين وترجيعات الماضي. وهو، ساكناً في بحيرة أو بئر أو مياه راكدة، يوفر للمكتفين بعشق أنفسهم فرصة أن يروا في مراياه جمالهم النرجسي، حتى لو قادهم ذلك إلى الانتحار، أو الغوص غير الإرادي في لججه المهلكة. وهو بالمقابل الماء المغذي، الذي يبحث العشاق من خلاله عن الرجع الحليبي للأمومة الكونية، أو ذلك الذي يختزل كل ما يتوق القلب إلى بلوغه، ويرى فيه بول إيلوار «الماء الهادئ الشفاف في سكونه، والذي ينساب مثل جلد بالغ النعومة، ولا أحد يستطيع أن يجرحه».


مقالات ذات صلة

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط
ثقافة وفنون «طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً

د. رشيد العناني

مهدي سلمان: صراع الشعر مع الأفكار والمشاعر من أهم سمات الكتابة المسرحية

مهدي سلمان
مهدي سلمان
TT

مهدي سلمان: صراع الشعر مع الأفكار والمشاعر من أهم سمات الكتابة المسرحية

مهدي سلمان
مهدي سلمان

استطاع الشاعر البحريني مهدي سلمان أن يترك بصمة بارزة على خريطة الشعر في بلاده عبر عدد من دواوينه الشعرية التي تتميز بتراكيب بصرية جريئة ولغة مشحونة برؤى جديدة. صدر ديوانه الأول «ها هنا جمرة وطن، أرخبيل»، 2007، لتتوالى بعده أعماله التي لفتت الأنظار لموهبته الكبيرة؛ مثل «السماء تنظف منديلها البرتقالي»، و«لن أقول شيئاً هذه المرة»، و«لا شيء يحدث ولا حتى القصيدة».

ومن الشعر تمتد تجربته الإبداعية إلى المسرح بقوة، حيث شارك ممثلاً في نحو 20 مسرحية؛ منها «اللعبة»، و«المستنقع»، و«الوهم»، كما أخرج مسرحيتي «مكان ما»، و«التركة»، وحصد جوائز مرموقة في المهرجانات الفنية المتخصصة... هنا حوار معه حول تجربته وهمومه الأدبية:

* لنبدأ بثنائية الشعر والمسرح في تجربتك، فالقصيدة، على الأقل في تصور العامة، فن ذهني ساكن، في حين أن المسرحية فن بصري حركي... هل ثمة تناقض بين النوعين؟

-هنالك بالتأكيد اختلافات بين كتابة القصيدة وكتابة المسرحية، لكن هذا الاختلاف لا يرقى ليكون تناقضاً، إن الأجناس الأدبية اليوم تستقي من بعضها، وتتجاور بكل هدوء، فيأخذ الشعر الحالة الدرامية من المسرح، ويأخذ المسرح الحالة التأملية الرائية من الشعر، وتنهل الرواية والقصة من مظاهر هذا وذاك. وعموماً لم يكن الشعر يوماً فناً ساكناً، على الرغم من كونه ذهنياً، فلطالما احتوى الشعر على صراع عنيف بين الأفكار والمشاعر، وهذا الصراع أهم سمات المسرحية. وكذلك لم تكن المسرحية دائماً فناً حركياً، فلقد استخدم كتّاب المسرح في كثير من تجاربهم طرق وأساليب التأمل الشعري لإنتاج الحدث. فعل ذلك كتّاب مسرح العبث؛ مثل يونسكو، وبيكيت، وكذلك تجارب توفيق الحكيم المسرحية الذهنية، وقبلهم استغل كتاب المسرح الكلاسيكي الحوار الداخلي والمناجاة من أجل الاقتراب من روح الشعر في المسرح.

* أيهما أسبق في إثارة ولعك ووجدانك، القصيدة أم المسرحية، وكيف أثرت إحداهما على الأخرى من واقع تجربتك؟

- لا أتذكر بالتحديد أسبقية شكل على آخر، لقد كان الشكلان ينموان معاً في تجربتي، ويتبادلان الأهمية والتأثير، وكذلك يتساقيان الفهم من التجارب المختلفة. ولطالما كان الشعر قريباً من المسرح والمسرح قريباً من الشعر، منذ سوفوكليس حتى شكسبير. ولطالما كانت الكتابة لأحدهما تغترف من تقنيات الشكل الآخر، ومن أدواته وإمكاناته، ليس على مستوى الممارسة في الكتابة فقط، إنما كذلك في آلية تحليل وتفسير وتقليب الأفكار والعواطف والقضايا، لا يمكن للكاتب أن يقول أين يكمن هذا التأثير، وكيف، لكنني أومن أنه موجود في الكتابة للشكلين، وفي التمثيل والإلقاء على السواء.

* لنتحدث قليلاً عن فكرة «الجمهور» فهي حاضرة بقوة أمامك بصفتك ممثلاً يصعد إلى خشبة المسرح، لكن كيف تتمثلها بصفتك شاعراً؟

* لو سألتِ أي ممثل على المسرح كيف ترى الجمهور، لقال لك إنه لا يراه، حضور الجمهور في المسرح هو حضور فكرة، فحين تظلم القاعة، ويصعد الممثل على الخشبة لا يرى أمامه إلا الظلمة التي فيها ومن خلالها يدخل ويخرج من وإلى الشخصية، أظن فكرة الجمهور في الكتابة تشبه هذا، ظلمة لا تتبينها، لكنها أمامك، تدخل نحوها شخصاً، وما إن تخطو فيها حتى تصير شخصاً آخر.

* ماذا عن موضوع «التطهر» بوصفه وظيفة قديمة في التراجيديا الإغريقية... هل يمكن أن تصنع قصيدة النثر حالياً حالة شبيهة وتخرج الانفعالات المكبوتة داخل القارئ، لا سيما الخوف والشفقة؟

- بقدر الخلاف على معنى محدد لمفهوم مصطلح التطهر أو التنفيس، لا يمكن القطع بإمكانية شكل ما شعري أو سواه في حيازة نتاج هذا المفهوم، فهو موجود في جميع الأشكال - الشعرية وغيرها - كما في المسرح، بنسب مختلفة. إنه جزء من صنع الفن، طالما أن الفن جزء منه يخاطب العقل والقلب والمشاعر والأفكار الإنسانية، فهو فعل تطهّر أو تطهير، وكذلك في المقابل هو فعل تلويث كذلك، أو فلنقل هو فتح للجروح المختلفة، لكن في كل ذلك، هو نتاج الفاعل لا الفعل نفسه، الشاعر لا شكل القصيدة، الكاتب المسرحي، لا نوع المسرحية.

وبقدر ما يبحث الشاعر أو المسرحي أعمق، ويقطع أكثر، بقدر ما يطهّر، نفسه، قارئه، شخصياته، أو أفكاره وعواطفه، وهو في كل ذلك ليس فعلاً قصدياً دائماً، إنما هو نتاج إما لشخصية الكاتب، أو للظروف المحيطة به، لذلك فهو يظهر في فترات تاريخية بعينها بشكل أوضح وأجلى، وقد يخبو في فترات أخرى، تبعاً لقدرة المجتمعات على فتح جروحها، أو على الأقل استقبال هذا النوع والشكل من الفعل الفني.

* على مدار أكثر من نصف قرن، لم تحصد أي جائزة أو تنال تكريماً بصفتك شاعراً، لكنك في المقابل حصدت عدداً من الجوائز والتكريمات بصفتك ممثلاً مسرحياً... كيف ترى تلك المفارقة؟

- يعود ذلك إلى مفهوم الجائزة فيما بين الشكلين، والخلل الكبير في شكل الجوائز الأدبية في عالمنا العربي، الجوائز لا ينبغي أن تُطلب، إنما تُعطى نتيجة لفعل ما أو جهد ما، هذا يحدث في المسرح الذي هو عمل جماعي، فالمؤسسة القائمة على المسرحية هي التي تتقدّم لمهرجان ما، أو جائزة ما. وعندها يحصد ممثل أو كاتب أو مخرج جائزة على جهده في هذا العمل بعينه، فيما على الكاتب أن يتقدّم بنفسه لطلب جائزة أو تكريم لديوان أو قصيدة، وهذا خلل بيّن في ضبط مصطلح جائزة، أو تكريم، أو حتى مسابقة. الأجدى أن تكون هناك مؤسسات، إما دور النشر، أو الوكالات الأدبية، هي التي تمحّص أعمال الكتّاب، وتنتقي منها ما يتقدّم للجائزة، أو المسابقة، وذلك من أجل ضبط عملية خلق المعايير في الساحة الأدبية، لكن وبما أننا في بيئة فاقدة للمعايير، فالتقدّم للجوائز الأدبية، يرافقه في أوقات كثيرة تشويه لدور الكاتب أو الشاعر، أين يبدأ وأين ينتهي.

* تقول في ديوانك «أخطاء بسيطة»:

«كل الذين لمست أصابعهم في الطريق

تماثيل شمع غدوا

كل من نمت في حضنهم خبتوا

واختفوا».

من أين يأتي كل هذا الإحساس العارم بالعدمية والخواء، وكأن الحميمية تعويذة ملعونة تلقيها الذات الشاعرة على الآخرين؟

- لا يمكن اقتطاع أبيات شعرية لتشكل معنى عاماً في تجربة ما، بالتأكيد هنالك عدمية تظهر أحياناً في أحد النصوص، لكنْ في مقابلها معان أخرى، قد تناقضها. الشعر فعل مستمر، تحليل دائم، وتدفق في مشاعر قد تكون متناقضة بقدر اختلاف أزمان الكتابة أو أزمان التجارب، لكن إن كنا نناقش هذه التجربة خاصة، هذا المقطع من هذا النص تحديداً، عندها فقط يمكننا أن نسأل، بالتأكيد ثمة لحظات في حياتنا نشعر خلالها بالانهزام، بالعدمية، بالوحشة، ونعبّر عن تلك اللحظات، ومن بينها تلك اللحظة في النص. ويأتي هذا الشعور بالتأكيد من الخسران، من شعور مغرق في الوحدة، وفقدان قدرة التواصل مع آخرين، إنها لحظات تنتابنا جميعاً، ليست دائمة، لكن التعبير عنها يشكّلها، بحيث نكون قادرين على مساءلتها، واختبارها، وهذا هو دور الشعر، لا البحث عن السائد، إنما وضع الإصبع وتمريره بحثاً عن النتوءات أو الحفر، لوصفها، لفهم كيف تحدث، وماذا تُحدِث.

* ينطوي عنوان ديوانك «غفوت بطمأنينة المهزوم» على مفارقة تبعث على الأسى، فهل أصبحت الهزيمة مدعاة للطمأنينة؟

- الهزيمة في معناها العام ليست فعلاً سلبياً دائماً، إنها التراجع كذلك، أو فلنقل العلوّ، رؤية المشهد بشكل آخر، من أعلى كما أراها، خلافاً للمنهمك فيه والداخل فيه. لذلك فإن الطمأنينة التي ترافق هزيمة كهذه هي طمأنينة المتأمل، أن تخرج من ذاتك أو تنهزم منها، لتحاول أن تجد طمأنينة ملاحظتها، والبحث فيها، وفهمها. أن تنهزم من تجربة ما وتتراجع عنها، لتجد لأسئلتها أجوبة، وأن يرافق هذا البحث طمأنينة الخروج والمغادرة، حتى لو كانت هذه المغادرة وقتية وليست تامة.

* في ديوان آخر هو «موت نائم، قصيدة مستيقظة»، هل أصبح الشعر المقابل الفعلي للموت؟

- ليس مقابلاً، إنما معطى آخر، ليس نقيضاً أو معاكساً، بل هو رفيق وصاحب يفعلان أفعالاً عكسية للتوافق والتوازن، وليست للمناكفة والمعاداة. تستيقظ القصيدة، لا لتلغي الموت، أو تنهيه، إذ لا يمكن إنهاء الموت، أو إماتته، لأن في موت الموت موت للحياة كذلك. لكنها تستيقظ في اللحظات التي يقف فيها في الخلف، تستيقظ لأجل أن ترى، وتبصر، وتصنع، وتحاول أن تتكامل معه من أجل الخلق نفسه، والولادة نفسها.

* كيف ترى الرأي القائل إن قصيدة النثر التي يكتبها غالبية أبناء جيلك استنفدت إمكاناتها الجمالية والفكرية، ولم تعد قادرة على تقديم الجديد؟

- ثمة تراجع حالياً نحو القصيدة العمودية، إنه واضح تماماً، أبناء جيلي والأجيال التالية، يعودون نحو روح العمود، حتى لدى كتاب قصيدة النثر، حيث الكتابة بوصفها فعلاً ليست فعل بحث واكتشاف إنما فعل إدهاش وتعال. لا، ليست القصيدة هي التي استنفدت إمكاناتها، بل كتاب القصيدة وشعراؤها هم الذين استنفدوا طاقتهم على المواجهة، الكتاب الآن يبحثون عن (صرة الدنانير) التي كان الخلفاء يلقون بها على شعراء المديح، هذا فقط تغيّر في روح الكتّاب، لا روح الكتابة نفسها.

* أخيراً، كيف تنظر إلى ما يقال عن تراجع تأثير الشعر في المشهد الثقافي مؤخراً وعدم ترحيب الناشرين بطباعة مزيد من الدواوين؟

- هذه حقيقة، وهي جزء من الأزمة ذاتها، التحوّل نحو الشكل العمودي من جانب، والنكوص نحو الذاتية المستنسخة من جانب آخر. تحوّل في فهم روح العصر، يأس من فعل الكتابة بوصفه عامل تفسير وتحليل وتفكيك وتغيير، تطويع الشعر ليعود إلى أدواره السابقة، فيكون صوت السائد الذي يُصفّق له. الشعر الآن في أي شكل من أشكاله، انعكاس للوجوه المتشابهة التي خضعت لعمليات التجميل التي نراها حولنا، هذا هو العصر، وأنت لا تريد تغييره، أو محاولة تغييره، أنت تريد الخضوع له وحسب. هذا هو ما يحدث.