المؤرخون اليهود الجدد يفنّدون التاريخ الرسمي

صفحة جديدة تفتح في تاريخ الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي

المؤرخون اليهود الجدد يفنّدون التاريخ الرسمي
TT

المؤرخون اليهود الجدد يفنّدون التاريخ الرسمي

المؤرخون اليهود الجدد يفنّدون التاريخ الرسمي

نعلم أن جلّ كبار المفكرين والمثقفين اليهود كانوا من أنصار التنوير والتحديث من القرن الثامن عشر حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين. لذلك ساندوا كل الثورات المناهضة للظلم والاستبداد والرجعية، بل كانوا من قادتها وزعمائها. لكن حال ظهور دولة إسرائيل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، شرع هؤلاء في تغيير مواقفهم، وأطروحاتهم ليصبحوا معادين لمسارهم القديم.

ويمكن القول إنه منذ سنة 1947 التي شهدت الإعلان عن تأسيسها إلى سنة 1973 التي فيها اندلعت حرب رابعة بينها وبين الجيوش العربية، وفيها ذاق جيشها طعمَ الهزيمة المرة للمرة الأولى، عرفت دولة إسرائيل تماسكاً حديدياً، وتضامناً قوياً بين مختلف فئاتها وطبقاتها الاجتماعية القادمة من مختلف أنحاء العالم.

وهو أمر أثار إعجاب الكثير من المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين جنّح الخيال بهم بعيداً ليتوهّموا أنها - أي إسرائيل، هي «جمهورية أفلاطون» التي طالما حلموا بها. وقد ازداد إعجابهم بها لما شرع شعبها في خوض معركة ضد الجفاف والمصاعب الطبيعية، مُعيداً الاخضرار والحياة إلى الصحراء القاحلة، ومُهيّئاً مدناً وقرى لأعداد كبيرة من اليهود الذين كانوا يعيشون في الشتات.

ومن خلال المدارس والجامعات ووسائل الإعلام ومراكز البحث والفكر، تمكّنت دولة إسرائيل من أن تغرس في قلوب وعقول أطفالها وشبانها المبادئ التي قامت عليها، وأن تقنعهم بأنهم «شعب الله المختار»، وأن الأساطير اليهودية القديمة حقائق تاريخية لا يمكن الدحضُ أو التشكيك فيها، باسطة أمام عيونهم المفعمة بالدهشة والذهول، بطولات اليهود وتضحياتهم الجسيمة في المعسكرات النازية، وأيضاً في الحروب التي خاضوها ضد العرب. أمّا المجازر التي ارتُكبت ضد الفلسطينيين، وطردهم من أراضيهم، وتشريدهم في الصحراء، وتزوير تاريخهم، وكل هذا كان ولا يزال يدخل ضمن «حق إسرائيل في الدفاع عن وجودها».

ولكي تؤكد لأطفالها وشبابها أن الأرض التي استولت عليها «أرض يهودية»، ابتكرت إسرائيل قصة أغرب من قصص الخيال.

وتقول هذه القصة إن يهودياً يُدعى أليعازر بن ياعير قال وهو يُقبّلُ الأرضَ قبل أن يلفظ أنفاسه بعد أن أصابته رصاصة من عربي في بداية تدفق اليهود على فلسطين: «إنه لشيء رائع أن يموت واحد مثلي من أجل أرض اليهود المقدسة». وقد حاول مثقفون يهود انتقاد بعض العيوب في الإعلام وفي مناهج التدريس، والإشارة إلى بعض الأكاذيب، إلا أن أصواتهم ضاعت في جلبة الانتصارات التي كانت إسرائيل تحققها في حروبها ضد العرب. والذين تمسكوا بمواقفهم، وجدوا أنفسهم متهمين بـ«تزوير التاريخ وقلب الحقائق».

وقد ظل الأمر على هذه الصورة حتى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. ففي نهاية تلك الحرب القصيرة، استيقظ سكان «الجمهورية المثالية» ليجدوا أنفسهم على حافة الهاوية، وليكتشفوا وهم في حالة من الذهول والهلع خواء أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر»، وأكاذيب الحكام الذين يؤكدون لهم على مدار الساعة أنهم قادرون على أن يضمنوا لهم السلام والأمن والرفاهية.

يقول أيلان جرايلزامار، وهو مؤرخ إسرائيلي يُدرّس في جامعة بار إيلان: «كانت حرب (يوم الغفران) مصدر إعادة تقييم شاق وعسير لـ(المرحلة الذهبية) في تاريخ دولة إسرائيل.

وبسبب النتائج التي أفضت إليها هذه الحرب، فَقَدَ حزب العمل السلطة، وهو الحزب الذي ظل حائزاً على إجماع الإسرائيليين على مدى خمسين عاماً». هذا على المستوى السياسي.

أما على المستوى الثقافي والفكري، فقد برزت مجموعة من الجامعيين والباحثين والمؤرخين والأدباء أبدت رغبة في إعادة النظر فيما سُمي «المرحلة الذهبية»، باحثة عن الثغرات والسلبيات التي طبعتها.

وعقب الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف 1982، تعمّقت الحركة النقدية للتاريخ الإسرائيلي، وبشأنها احتدّ الجدل خصوصاً عند ظهور من أصبحوا يسمّون منذ ذلك الحين «المؤرخين الجدد».

وعن هؤلاء يقول أيلان جرايلزامار: «بالنسبة لهؤلاء المؤرخين الجدد، ليس هناك شيء مُحرّم. وكل ماضي دولة إسرائيل لا بد أن يُوضع تحت مجهر البحث والتمحيص إذ إنه ليس هناك تاريخ حقيقي، وآخر مُزور. وأما التاريخ الرسمي فقد ألقي به في سلّة المهملات، بالإضافة إلى كل هذا، لم تعد هناك فكرة واحدة بالنسبة لهؤلاء المؤرخين مثلما كان الحال في (المرحلة الذهبية).

كما لم تعد هناك آيديولوجيا تأسيسية، بل هناك فقط وقائع وأحداث تمّ العثور عليها في خزائن الأرشيف تُقدّمُ للقارئ الذي يستطيع أن يفعل بها ما يشاء وما يريد». ويضيف أيلان جرايلزامار، قائلاً: «لجأ المؤرخون الصهاينة إلى استعمال كل الوسائل الممكنة وغير الممكنة لكي يغلّفوا الماضي بغطاء أسطوري وميثولوجي. وهو غطاء كاذب ومُلفّق بطبيعة الحال.

وخلافاً للتاريخ القديم (الحقيقي) قُدّمت قراءة جديدة للواقع والأحداث. وقد تبيّن من خلال ذلك أن الكثير من (الأبطال) الذين تحوّلت حياتهم إلى أساطير عجيبة غذّت خيال أجيال من الإسرائيليين، كانوا في الحقيقة قتلة ومجرمين وسفّاكي دماء. أما قادة طلائع الصهاينة الذين احتلوا الأراضي العربية فقد كانوا استعماريين عنصريين.

كما تبين أن القادمين من جحيم المعسكرات النازية لم يحظوا بالعناية، ولم يستقبلوا بحفاوة بالغة كما كان يُعتقد، بل تعرّضوا للكثير من المظالم، ولاقوا الإهمال والحيف». ويضيف أيلان جرايلزامار، قائلاً إن «حرب الاستقلال» التي خاضها الإسرائيليون ضد الفلسطينيين كانت فرصة للكثير من العسكريين لاقتراف مجازر فظيعة في القرى وفي المدن بهدف إجبار سكانها على إخلاء بيوتهم وأراضيهم.

وفي كتابه الذي حمل عنوان «حدث ذلك في فلسطين في زمن شقائق النعمان»، يُقدّمُ توم سيغيف الصحافي في جريدة «هاآرتس» قراءة جديدة للسياسة البريطانية في فلسطين في زمن الانتداب محاولاً الإجابة عن الأسئلة التالية: لماذا كان البريطانيون يرغبون في احتلال فلسطين؟ ولماذا أعلنوا عن وعد بلفور؟ ولماذا تمسّكوا بسياسة الاحتلال رغم رفض السكان المحللين لهم؟ ولماذا قرروا أخيراً ترك فلسطين؟ وقد جاءت أجوبة توم سيغيف عن الأسئلة المذكورة مثيرة للدهشة إذ إنه يثبت عكس التاريخ الرسمي أن العصابات الصهيونية مثل «الهاغنا» و«أرغون» ومجموعة «شتيرن» لم تلعب أي دور في إخراج البريطانيين من فلسطين، وأن هؤلاء فعلوا ذلك بمحض إرادتهم حين اتضح لهم أنه ليس هناك هدف استراتيجي من البقاء في فلسطين. ويضيف توم سيغيف أن القوة الوحيدة التي أجبرت البريطانيين على التخلي عن فلسطين هم العرب. وما يبقى مهماً ومثيراً للجدل بحسب المهتمين بظاهرة «المؤرخين الجدد» في إسرائيل هو أن هذه الظاهرة تعكس تيارات جديدة بدأت تخترق المجتمع الإسرائيلي منذ نهاية مطلع الثمانينات من القرن الماضي. ولعلها ستزداد قوة في المرحلة الحالية التي يشهد فيها المجتمع الإسرائيلي تمزقات رهيبة لم يسبق لها مثيل. كما أن الحركات والمجموعات اليمينية المتطرفة سوف تجد نفسها عاجزة هذه المرة عن نشر الأكاذيب والأساطير. ثم إن العلمانيين المستقرين في المدن الكبيرة، وعلى الساحل المتوسطي بالخصوص، والذين يرغبون في أن يعيشوا حياة على الطريقة الغربية أظهروا خلال الفترة الأخيرة نفوراً واضحاً من سياسة بنيامين نتنياهو الذي يجسّد المشروع الصهيوني في أعنف وأشنع مظاهره.

لذلك يمكن القول إن هناك صفحة جديدة تفتح في تاريخ الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وهي صفحة لم يكن لها مثيل على مدى الثمانين سنة الماضية.


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.