صراعات الحب و«الميديا»... روائيّاً

أحمد صبري أبو الفتوح يكشف مخاطرها في «صاحب العالم»

صراعات الحب و«الميديا»... روائيّاً
TT

صراعات الحب و«الميديا»... روائيّاً

صراعات الحب و«الميديا»... روائيّاً

ترفع رواية «صاحب العالم» للروائي أحمد صبري أبو الفتوح الحب إلى مصاف الأسطورة، فمعظم شخوصها تعيش أحلامها وصراعاتها في ظلالها وتتشبث بها كطوق نجاة، بل إن بطلها عبد الحميد دهمش، الموظف الكادح البسيط والذي ترقّى لمنصب السكرتير العام المساعد للمحافظ، وأصبح قدوة للدقة والمثابرة والأمانة يتحول غيابه المفاجئ بعد خروجه للمعاش لغزاً وأسطورة حب، تبدأ فصولها عقب رسالة كتبها قبل اختفائه بساعات على صفحته بـ«فيسبوك» عن تعرّضه للملاحقة بسبب امتلاكه أدلة دامغة ضد بعض المسؤولين على ارتكابهم جرائم خطيرة تمس المال العام. تتناثر الشائعات والأقاويل حول هذه الأدلة التي تتمتع بقدر كبير من السرية، وكيفية تسريبها من «الديوان العام». ينجرف الجميع في البحث عن الرجل رافعين لافتات تحمل صوراً له تغطي أرجاء المدينة، تلاحقها الشرطة وتصبح حديث الناس في المقهى الذي تعود أن يأتنس فيه بصحبتهم، يتذكرون حكايته وينوّعون في روايتها بتلقائية وكأنهم يعيشون حلماً سماوياً، يحلّق بهم بعيداً عن واقع مضطرب، يزيده تعقيداً توحش سطوة الميديا والإنترنت وغيرها من الأدوات والوسائط التي أصبحت أوكاراً للتجسس أفرزتها قوى غاشمة لبسط سطوتها ونفوذها على العالم.

في هذا الفضاء المركب تلعب الرواية على الحب وتنحت شخوصها من طينته الساحرة، ليس فقط كمحض قيمة سامية، إنما بكونها ابنَ الحياة ومصفاةً لشوائبها ومفارقاتها. في المقابل، يتحول الخوف منه وباسمه حارساً له ولأسطورته الخالدة، محدداً شكل وطبيعة المسافة ما بين الرغبة والفعل لتظل مشتعلة في الذاكرة والحلم، سواء بالقدرة على الالتصاق والتماهي بفعل الحب نفسه، وترويضه بحنان أمومي، أو بالقدرة على الهروب منه، لتصبح المسافة أكثر اشتعالاً وتوهجاً، ما بين الذات والموضوع، ما بين الأسطورة في سمتها الأعلى المطلق وظلها المتناثر على الأرض، والتي تسعى الرواية من خلاله إلى تأصيلها، وخلق مسارات حية ومتجددة لها في طبقات السرد والوعي، والتعامل الرهيف مع التوقعات بسمتها الإنساني البسيط المعقد، والسعي إلى نقضها أيضا، بما يحقق حالة من التواؤم والحميمية بين زمن الرواية المتخيل، وزمن الواقع المادي الماثل للعيان، فكلاهما ينفتح على الآخر بحيوية درامية تناوش العمق والسطح، تنعكس على طبيعة شخصيات الرواية، ويستفيد الكاتب في بنائها من خبرته السابقة في العمل بسلك النيابة والقضاء. فباستثناء ديلارا المراكبي ذات العرق التركي الأرستقراطية ممشوقة القوام والتي زاملت البطل لفترة في العمل، كل الشخصيات ابنة القاع، عاركت ظلمته وبؤسه وكافحت حتى خرجت بإرادة الحب ومصادفته إلى بحبوحة الحياة. لكنها مع ذك تظل مسكونة بخوف تتعدد صوره منذ الطفولة ويصبح لاعباً أساسياً في تكوين شخصية بطل الرواية عبد الحميد دهمش؛ فهو خوف غريزي من المجهول الغامض، من الحب والأصدقاء والرفاق والزملاء في الحي والمدرسة؛ من ألاعيب السياسة وسطوة القوة واللامبالاة بالضعف الإنساني. لكنه مع ذلك يلوذ به في لحظات الخطر كشكل من أشكال الدفاع عن النفس، حتى أنه التلميذ الوحيد الذي كسر أنف زميله «رزق مرزبة» فتوة الفصل والمدرسة ذي الجسد الضخم الفاشل كاره التعليم، والذي سخر من ذكائه وتفوقه وإشادة المعلّم به، فيبطحه بقطعة خشب في وجهه يسقط على أثرها أرضاً، ثم يعتذر له أمام الجميع في الفصل وينحني مقبلاً جبهته، على أثرها تنشأ محبة ما بينهما. ورغم ذلك تتسع دائرة الخوف في حياته، حتى بعد أن يتقلد عدداً من المناصب المهمة، ظل يقترب من الرؤساء ليس بدافع التقدير والاحترام والحب فحسب، إنما أساساً بدافع الخوف من غضبهم وأن يصل إلى حد لا تحمد عقباه يعرقل صعوده في الترقي الوظيفي... فيكتب رسالة عن كيفية التعامل مع مرؤوسيه واكتساب رضاهم. سرعان ما تتحول إلى «روشتة» يتداولها العاملون في الديوان. لكن يظل الخوف هو الحدس الأقوى في رؤيته للعالم والأشياء من حوله، وينعكس على علاقته العاطفية مع زوجته حسناء، رفيقته في العمل، ويشتد مع مرضها العضال الذي أودى بحياتها. ليبقى وحيداً، يلملم ذكرياتهما معاً، ويصبح الفقد حصاراً مدمراً لكل شيء في حياته، ويمس علاقته بولديه المهاجرين، كما يختلط عليه الوهم بالحقيقة، وأن الكل أصبح يتجسس عليه.

في مقابل كل هذا الإحباط، تكشف الرواية عن معادلة أخرى للغة الحب الناعمة، فإذا كانت تكمن دائماً في الداخل، فللخوف أيضاً لغته الخاطفة الخادشة القادرة على تشوف ما هو كامن تحت قشرة العيون حتى وإن بدت مغمضة الأجفان. تومض هذه اللغة في علاقة البطل المتخيلة مع نسائه المفضلات، بخاصة «توحيدة» جارته الأرمل الشابة المغوية «سحلية الجدران» كما يسميها والتي تتلصص عليه ليلاً ونهاراً، وتعاني أرق الوحدة بعد وفاة زوجها المقاول الشهير الطاعن في السن، وأيضاً من خلال عدسة الكاميرا التي تراقب الداخل والخارج من وإلى العمارة، وتحتفظ بها في بيتها بحكم كونها رئيس مجلس إدارة المكان.

يختلط ترويض الحب بما تنز به هذه اللغة من قطرات دافقة بالشهوة والحلم، كأنها أجمل الجرائم التي ترتكبها العيون ولا يطالها القانون. تصف الرواية ذلك في مشهد ص (51) بين البطل وجارته المغوية، حيث تلمح اللغة إلى شخص آخر متخفٍّ يراقب المشهد من الداخل: «أعجبه حديث عينيها، وكاد من فرط طرافته يضحك، لكن الشخص المنتبه بداخله منعه، تاركاً باب الدهشة مفتوحاً على مصراعيه، فماذا لو أنه بدلاً من أن ينزل السلم يندفع نحو شقتها، ساحباً إياها ثم يغلق الباب، ما الذي سيحدث؟ إنها نوع آخر من النساء، كل ما فيها مثير، حتى تصميمها الذي يجعل حريق عينيها مشتعلاً على الدوام».

بعد وفاة زوجته وملاحقته من قِبل «صاحب العالم» وشركاته المزعومة في صناعة الحب والترويج له، وإبلاغه باختياره ليكون بطلها لهذا العام، وأنهم على علم تام بسيرته وكل تفاصيل حياته الظاهر منها والباطن، وأنهم تقديراً لهذا يعطونه مهلة أسبوعاً ليفكر في موافقته على الإعلان عن وقائع الاختيار، وإطلاقها عبر احتفال باذخ بفوزه على شتى القنوات والمنافذ الإعلامية في العالم. في هذا الجو المشحون بالتوتر والقلق، من بين كل نسائه ودوائر الحلم بهن، تبقى توحيدة المرأة الاستثناء التي اقتحمت حياته وعششت في ظلامها، واستطاعت أن تبدد الكثير من غشاوة حلكتها الدامسة، خاصة بعد أن خارت قواه، وتشوش عقله، إلى حد الهذيان والجنون، لقد جعلت جسدها وحياتها وديعة لديه ورهن إشارته للعيش معاً في النور وبشكل شرعي، إنه رجلها الوحيد في العالم، لا تأبه بفارق السن بينهما، فقد عاشته كأب وحبيب حنون مع زوجها المقاول الطيب الذي أغدق عليها وأسرتها الفقيرة، وقبل أن يموت يسلمها وثائق ومستندات شركاته وممتلكاته وأمواله في البنوك ويوصيها بأن تقسيم تركته وميراثه مع أبنائه من زوجته الأولى لا بد أن يكون بحضور جارهم عبد الحميد دهمش؛ حتى لا يجور أحد منهم عليها. لقد أحبها البطل بالفعل، وتجاوز في سريرته إيقاع لغة العيون الخاطف، كما أنها المرأة الوحيدة التي أوصى صديقه رزق مرزبة مدبر طريقة هروبه من قبضة رجل العالم في جزيرة نيلية معزولة، بأن يعتذر لها عن عدم استطاعته تحيتها وهو يسرع في مغادرة العمارة، وأيضا يطلعها على سرِّه ومكانه، بل طريقة الوصول إليه. وهو ما يحيلنا الى كهف بطل نيتشه وعزلته في أعلى الجبل في كتابه الشهير «هكذا تحدث زرادشت»، والتي تستهل الرواية فصولها التسعة بومضة منه.

هناك خوف غريزي من المجهول الغامض... من الحب والأصدقاء والرفاق والزملاء في الحي والمدرسة... من ألاعيب السياسة وسطوة القوة واللامبالاة بالضعف الإنساني

من هذه الزاوية يمكن النظر لشخصية «رزق مرزبة» كبطل مواز لبطل إشكالي أدمن العيش في منطقة الظل بتوازن شديد الدقة بين المع والضد، لا يدفعه للمغامرة واقتحام مناطق وعرة في الحياة، بينما لم يأبه به صديقه المشاكس ولم يقم له أي حسابات، بل عاش الحياة كسلسلة من الأخطاء والجرائم الكاشفة، تعرّف من خلالها على حياة السجن ومراتب القوة والضعف وراء الجدران والزنازين، وكيف يرتقي السجين الكبير ذو المهابة والقوة حتى يصبح «صاحب الليمان» على غرار «صاحب العالم» المزعوم. بجوار هذه الصورة تطل صورة أخرى من ثقوب الحياة في بساطتها الحانية من خلال «كشكه» الذي ساعده في إقامته صديقه دهمش على ناصية أحد الشوارع المهمة، فلم يعد هو المجرم «الليمونجي» صاحب الهيئة المخيفة والجسد الضخم الذي قضى نصف عمره في السجن، إنما طاقة أمل محبة للمعرفة ولحياة ضلت الطريق إلى الحب.

يبقى في هذه الرواية شديدة التميز، جماليات طبقات الحكي بضمير الغائب وكيف تلاحمت في سيمفونية سردية امتزجت فيها حدوسات شتى للفكر والجمال، من الرؤية العميقة المتأملة لعالم طبقة الموظفين ومعاناتهم اليومية، إلى الحس بالطرافة والفكاهة والسخرية ابنة الروح الشعبية وحكمتها البليغة المبثوثة في ثنايا الحوار، «إذا كنت في بلد يعبد الجحش يا عبد الحميد حِش وارميله». ويتشكل كل هذا في قماشة سردية من نسيج خاص، يسلِّم السابقُ فيها اللاحق خيوط الوقائع والمشاهد والرؤى والأحداث، يشدها ويغزلها بحنو وسلاسة، ليصل الصراع بشكل طبيعي لذروته الدرامية القادرة على صناعة أسطورتها الخاصة بحب وفن.


مقالات ذات صلة

أوانٍ حجرية من دبا البيعة

ثقافة وفنون ثلاث أوان من ولاية دبا البيعة في سلطنة عمان يقابلها كوب من جبل البُحيص إمارة في الشارقة

أوانٍ حجرية من دبا البيعة

خرجت من ولاية دبا البيعة في سلطنة عُمان مجموعة كبيرة من الأواني الأثرية المصنوعة من الحجر الصابوني الناعم، تشهد لتقليد فني راسخ

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «اسكتشات» لحسين رشيد

«اسكتشات» لحسين رشيد

عن دار «أهوار للنشر والتوزيع» ببغداد - شارع المتنبي، صدر للقاص حسين رشيد مجموعة قصصية مصنفة «اسكتشات» بعنوان «بار دي لو مي»

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون الثلاثي ميخائيل ومي وسهى نعيمة عاشوا معاً

ميخائيل نعيمة في عيده الـ135 لم ترحمه الحرب

تحدثت سهى لـ«الشرق الأوسط» بحزن عن الاحتفال الذي تأجّل ولم يُلغَ أبداً، «فنحن في أمسّ الحاجة للتعمّق في كتبه وأفكاره».

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون سليم بركات

الهويّة... والحريّة الأدبيّة

ما الذي يحدّد هويّة الأدب: هل اللغة أم القضايا والمواضيع التي يعالجها؟ وهل يحقّ للأديب أن يختار لغةً غير لغته الأمّ من دون أن يُعدَّ خائناً لهويّته الثقافية؟

هيثم حسين
ثقافة وفنون نصب الشاعر مخدوم قولي

مخدوم قولي... حارس الأمة التركمانية

زرتُ عشق آباد قبل أيام، بدعوة من جمهورية تركمانستان، لحضور الفعالية المركزية والحفل الكبير بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على ولادة شاعر تركمانستان مخدوم قولي فراغي

عارف الساعدي

في تفسير الظاهرة الأدبية

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط
TT

في تفسير الظاهرة الأدبية

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط

هل تتحقق الظواهر الأدبية والشعرية لمحض اتفاق بين جلساء وجليسات دعتهم صحبة ما للتداول هزلاً وجداً في الشأن الثقافي؟ ربما يستعين المرء بما تحقق لجماعة الديوان سنة 1917. وفعلياً سنة إصدار مجلة بهذا الاسم سنة 1922. لكننا ننسى أن الجماعة لم تأتلف على أمر غير الانعتاق من هيمنة أحمد شوقي على المشهد الشعري والتمرد جزئياً على ظاهرة الركود الشكلي للقصيدة إزاء ما يقرأون من الشعر الرومانسي الغربي، لا سيما جماعة الرومانتيكية الإنجليزية: روبرت ووردزورث، وصاموئيل تايلر كوليرج، وهنري بيرسي شيلي، وجون كيتس ولورد بايرون، وكذلك دي كونزي وغيرهم.

نازك الملائكة

وقرأوا أشعار (هاينه) في سياق الولع بالظاهرة الرومانسية الجرمانية: ويقابل هذا الولع، تطلع مجموعات أخرى إلى تنويريي القرن الثامن عشر في فرنسا بشكل خاص، كما يتبين في كتابات المبدعة والمثقفة في عدة لغات، والأديبة (مي زيادة) صاحبة الصالون، والتي انهمك في حبها أحد أعضاء مدرسة الديوان المبجلين: أي عباس محمود العقاد. ننسى أيضاً أن ثلاثي الديوان (عبد الرحمن شكري، وإبراهيم عبد القادر المازني، والعقاد) سرعان ما تفرق شملهم بعدما فُجع عبد الرحمن شكري بما أعده في حينه «سرقات إبراهيم عبد القادر المازني» من الرومانسيين الإنجليز ومن «هاينه». كان عبد الرحمن شكري خريج فرع اللغة الإنجليزية، وتعلم جزئياً في إنجلترا، ومكنته درايته المعرفية من التقاط أصداء الكلمات والصور، ونبض الأحاسيس. لم يكن معنياً بما سيجيء به اللاحقون في تأويل تشكّل النص الأدبي أو الشعري على أنه في النتيجة مجموعة من الاقتباسات الظاهرة والمخفية، كما يرى (رولان بارت) ووافقه عليه آخرون بعد أن عرضت جوليا كريستفا لسيمائية النصوص، وتمعنت في التركيبة الموزائيكية الأفقية والعمودية المتشكلة في النص. ولم ينشق ناقد ماركسي من أمثال (ماشيري) عن الاعتراف بأن النص لا يأتي وحيداً، لأنه تقاطع مع نصوص أخرى وقراءات هي في النتيجة ما يتشكل منه الجديد.

قالت العرب على لسان كاتب القرن التاسع ابن أبي الطاهر طيفور «كلام العرب ملتبس بعضه ببعض». سيعيد أبو الطيب المتنبي ذلك لأن «كلام العرب يمسك بعضه برقاب بعض»، وقال أيضاً بوقوع «الحافر على الحافر» في توارد الكلمات والصور والمعاني. وكما عُرف عند دارسي إليوت، ومنهم الأجانب الكثر، والعرب طيلة عقود منذ منتصف الخمسينات، أن «الأرض الخراب» هي تلفيقات منحها ذهنه في ظرف معين تكاملاً شكلياً ومعنوياً تجاوب مع أصداء حياته المضطربة ومخاض عالم ينهار في حروب ومقاتل. لا ننسى بهذا الخصوص أن «التلفيق» عند العرب هو اصطياد صور ومعانٍ من عدة أشعار ومبانٍ بما يتيح لهذا الصيد الائتلاف والثراء. وكما يقول ابن رشيق القيرواني: بَرع أبو الطيب المتنبي في ذلك وأجاد. وهذا سر ذيوع شعره.

وللقارئ الحق أن يقول إن جماعة «أبولو» اللاحقة للديوان التي جمعها أحمد زكي أبو شادي كانت بينة المعالم، واضحة المقاصد، آخذة من دون وجل من الرومانسية الفرنسية والإنجليزية والألمانية كما يفعل خليل مطران معنية بما تعده جسور الوصل والتواصل مع الثقافات الأوروبية. كما يعرض لذلك إلياس أبو شبكة في كتابه عن «الروابط» بين العرب والإفرنجة.

كانت الثلاثينات مهاد حراك أدبي وفكري وسياسي. وتكرر فيها ظهور الجماعات والأحزاب والكتل: فهي مخاضات ما بين حربين في عالم يتغير وتتبلور ملامحه آيديولوجياً في تعسكر بينٍ. وكان السياب والبياتي وجواد سليم وبلند الحيدري ونازك الملائكة والتكرلي وعبد الملك نوري وعيسى مهدي الصقر يولدون في ذلك العقد.

وعندما تمرد جيل من الشباب على هرم الكتابة الروائية نجيب محفوظ مثلاً وجاء إدوار خراط بـ«جاليري» في خاتمة الستينات: كان يستجيب وصحبه لضغط اللحظة، وهو ضغط لم يتحدد بمحفوظ وهيمنة كتابته الروائية. لأنّ محفوظ نفسه كتب «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» ليلتقط هذا النبض الذي عجز عن تلمسه جيداً، ولكنه أثاره كمشكلة قائمة.

استجاب إدوار الخراط وعبد الحكيم قاسم وجمال الغيطاني وفؤاد التكرلي وإبراهيم أصلان والعشرات من الكتاب والكاتبات لضغط اللحظة الستينية: لحظة الرفض والتطلع والفجيعة وحرب فيتنام وفشل البنى التقليدية ومنظوماتها في متابعة هذا النبض الذي جعلت منه حرب فيتنام الوحشية ومجازر المستعمر الفرنسي في الجزائر وغيرها، يتعالى في القصيدة والقصة والرواية والموسيقى والسلوك، في الشارع والمؤسسة الأكاديمية، وفي المنزل التقليدي: كان العالم يهتز وتتحقق أطروحة غرامشي عن «الكتلة التاريخية» الجديدة: الطلبة والعمال وغيرهم. لهذا ظهرت حركات شعرية وروائية مختلفة تصدرتها منذ الخمسينات وقبلها بقليل جماعة النبض «Beat» (ألن غنسبيرغ) ولورنس فرلنغتي، ولم تَعُدْ الحياة الأكاديمية كما كانت. وكان على وقار «الأكاديمية» التقليدي أن يرضخ للحرية التي تطرق بابه بعنف. لهذا جاءت «جاليري» موفقة لفترة بينما باءت مجموعة البيان الشعري 69 بالانفراط: إذ ليس ثمة جامع بين فاضل العزاوي وخالد علي مصطفى وسامي مهدي وفوزي كريم عدا الرغبة في المشاكسة: وجاء البيان واعداً، ولكن من دون رصيد. كان يسعى للتعكز على حركات وتيارات وظواهر شعرية عالمية يقرأ عنها الشباب من غير تلمس مخاضات التكوين الستيني: الرفض العميق المنبعث من محنة أكبر.

الظاهرة الأدبية ليست رغبة فرد؛ بل هي هاجس جيل يتناغم مع غيره وتحدوه آمال وتطلعات. وحتى إذا ما كان ينطلق من رفض أعم، إلَّا أن الرفض لوحده لا يحقق ظاهرة إن لم يتشكل في مهادات تتناجى مع غيرها على صعد المجتمعات، والحركات، والأمم، والثقافات. ويخطئ من يتصور أن اجتماع ثلاثة أو أربعة على أمر يعني إمكانية التصدر الثقافي: إذ تعجز الإرادة لوحدها عن تكوين الظاهرة التي ينبغي أن تنبعث من حقيقة أمر ما: فالمحدثون أيام بني العباس لم يألفوا هذه التسمية التي أطلقت لاحقاً على مسلم بن الوليد وبشار بن برد وأبي نواس وسلم الخاسر، ثم أبي تمام. كما أن الظاهرة لا تتشكل إلّا مشاكسة لنقيض، كالقدامة، التي التزمت عمود الشعر ولغة القدماء أيام توسع الحواضر التي لم تعد تألف لغة البداوة! وكما هو الأمر من قبل فإن القرن العشرين وما تلاه مجموعة مخاضات وظواهر تحتمها وقائع وحالات، ومن ثم ظواهر أدبية.

* جامعة كولومبيا - نيويورك