الحب بلغة الحرب ومنظورها وأدواتها

الجناس الناقص بين المفردتين يؤكد ما بينهما من تقاطعات

حرب طروادة أشعلتها هيلين الفاتنة
حرب طروادة أشعلتها هيلين الفاتنة
TT

الحب بلغة الحرب ومنظورها وأدواتها

حرب طروادة أشعلتها هيلين الفاتنة
حرب طروادة أشعلتها هيلين الفاتنة

إذا كانت الألفاظ المتقاربة في لغة الضاد تحمل دلالات متقاربة، وفق عالم اللسانيات الشهير ابن جني، فإن العلاقة بين الحب والحرب المفصولين بحرف الراء، لم تكن مسألة عائدة إلى الصدفة المجردة وحدها، بل إلى ما يؤشر إليه الجناس الناقص بين المفردتين، من تشابك في الدلالة والمعنى، بحيث تبدو كل منهما امتداداً للأخرى، أو توأمها المضمر. وهو أمر لا تؤكده علوم النفس والاجتماع والأعمال الأدبية والفنية وحدها، بل يكفي أن نعود قليلاً إلى وقائع التاريخ لكي نكتشف أن للحب دوراً غير قليل في إشعال الكثير من الحروب الضارية التي شهدها الكوكب الأرضي عبر تاريخه الطويل.

فالحرب التي اندلعت بين الأخيونيين الإغريق وبين الطرواديين في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، التي جعلها هوميروس الخلفية الأبرز لملحمة الإلياذة، كانت قد تسببت بها هيلين الفاتنة، زوجة مينيلاوس ملك إسبارطة، التي قام باريس الطروادي باختطافها، الأمر الذي قاد الإسبارطيين إلى محاصرة طروادة والاستيلاء عليها بعد حصار طويل. وفي الحروب القديمة بين العبرانيين والفلسطينيين، تسببت دليلة الفلسطينية بقلب الموازين، حين قامت بقص شعر حبيبها شمشون، الذي كانت قوته تكمن في شعره، منتصرة لنداء الواجب على نداء القلب.

أما كليوباترا ملكة مصر في زمن البطالسة، فقد ترنح جمالها الآسر على الحبال الفاصلة بين شعورها الوطني ورغباتها الجامحة، وهي التي عمدت الى إغواء القيصر والزواج منه، وإلى الإيقاع بالقائد الروماني مارك أنطوني، لتتسبب بانقسام الإمبراطورية على نفسها، قبل أن ينقلب العسل إلى سمّ، والسحر إلى انتحار مأساوي، إثر هزيمة الطرفين في معركة أكتيوم عام 31 قبل الميلاد.

وفي التاريخ العربي ما يقدم الكثير من الشواهد المماثلة على دور الحب في إشعال الحروب الدامية بين الفرقاء المتنازعين على قلوب النساء، حيث يروى عن كليب بن ربيعة زعيم بني تغلب، أنه بعد أن رفض عمه تزويجه من ابنته جليلة، مؤثراً تزويجها إلى ملك تبّع، الذي أهداه صناديق من الذهب والمجوهرات أسالت لعابه، قام كليب مع مساعديه الأشداء بالاختباء في صناديق جهاز العروس، حتى إذا وصلوا إلى قصر الملك خرجوا من صناديقهم وقتلوه.

إلا أن الوجه الآخر لهذه الثنائية، يؤكده الثلم العميق الذي يحدثه الحب في جسد العاشق وروحه، قبل أن يتحول إلى ظل للمعشوق وأسير له. وليس غريباً أن ترمز الأساطير اليونانية إلى الحب بالسهام التي يطلقها كيوبيد من جعبته، لتصيب قلب العاشق إصابة بالغة يتعذر شفاؤها، في حين يمكن للرغبة المتعذرة في الامتلاك ولمشاعر الغيرة المفرطة، أن تحولا العلاقة بين الطرفين إلى صراع مرير تُستخدم فيه كل أدوات الحرب وحيَلها وأفخاخها. وإذ عزا فرويد الأمر إلى ثنائية الحب والموت، وبالمواجهة القائمة داخل النفس البشرية بين غريزتي الحياة والتدمير الممثلتين بإيروس وثاناتوس، ذهب لاكان بالمقابل إلى ربط الوجه العنفي للحب بمرحلة الطفولة المبكرة، حيث الطفل لا يكتفي بالرضاعة من الثدي، بل تستبد به رغبة سادية بامتلاكه أو التهامه عن طريق الفم، وحيث «هوام مصاصي الدماء ليس سوى تجسيد رمزي للهوام الفموي».

وفي كتابه «شذرات من خطاب في العشق» يؤكد رولان بارت من جهته على مقولات لاكان، معتبراً أن الجسد العاشق هو جسد طفولي بامتياز. فهو إذ يعجز عن الاقتناع بأنه ليس الآخر، ويخشى من تفضيل المعشوق شخصاً آخر عليه، يعمد أحياناً إلى محو نفسه، وأحياناً أخرى إلى محو المعشوق. وإذا كان قيس بن ذريح يعكس الجانب المعذَّب والواهن من الهوامات الطفولية الباحثة عن الإشباع، كما في قوله:

لئن ذُكرتْ لبنى هششتُ لذكرها

كما هشّ للثدي الدرور يتيمُ

فإن الجانب الآخر من المعادلة يمثله ديك الجن الحمصي، الذي عمد بفعل الغيرة المفرطة والامتلاك غير المتحقق إلى قتل حبيبته ورد، وقد تراءى له أنها منحت شهْد شفاهها إلى سواه، وهو القائل إثر قتله لها:

أجريتُ سيفي في مجال خناقها

ومدامعي تجري على خدّيها

روّيتُ من دمها الثرى ولطالما

روّى الهوى شفتيّ من شفتيها

كما ترك التشابك العميق بين الحب والحرب تأثيراته في اللغة نفسها، بحيث باتت النعوت والحقول الدلالية المتعلقة بالأول، مستعارة من الثانية بشكل شبه تام، وهو ما يفسر نعت الحب بالعنيف والمشبوب والضاري والمدمر والمهلك والقاتل، بما يجعل من الموت وجهته الحتمية ومآله الإلزامي. كما تُستحضر في منازلة الحب العاتية الأهداب المسننة والرموش الجارحة والعيون الفتاكة والأكباد المفتتة والقلوب الممزقة والعقول المسلوبة وغير ذلك.

وفي كتابه «سوسيولوجيا الغزل العربي»، يلفت الطاهر لبيب إلى العلاقة الوثيقة بين الحب والحرب، حيث يتداخل الحقلان الدلاليان للفتوحات العسكرية والعاطفية، بما فيهما من خطط للاستدراج والحصار وإحكام الطوق والمباغتة وإسقاط دفاعات الآخر. إضافة إلى أن الاستخدام المتكرر للسهام، يحول الحب إلى حالة من أحوال الصيد، وفق ما أكده دينيس دو ريجمون في كتابه المرجعي «الحب والغرب». وليس أدل على مقاربة الحب بأدوات الحرب، من قول امرئ القيس مخاطباً فاطمة، حبيبته الصدود:

أغرّكِ مني أن حبكِ قاتلي

وأنكِ مهما تأمري القلب يفعلِ

وما ذرّفت عيناكِ إلا لتضربي

بسهميكِ في أعشار قلبٍ مقتّلِ

وحيث تحولت الصحراء العربية إلى مسرح واسع للسهام المتبادلة بين العشاق، يلح الشاعر الأموي جرير على تأكيد العلاقة بين مثلث الحب والجمال والموت. وهو إذ يعترف بأن كلا الطرفين العاشقين يسدد نباله باتجاه الآخر، يقر بأن النساء المعشوقات لا يخطئن أبداً في التصويب، لأنهن يستللن سهامهن من جعب الجن، خلافاً لما هو حال عشاقهن البائسين، كما يظهر في قوله:

تصَيّدْنَ القلوب بنبل جنٍّ

ونرمي بعضهنّ فلا نصيدُ

ثم يعود الشاعر في وقت لاحق ليعلن بأن اختلال موازين القوى بين الذكورة والأنوثة يعود إلى تسلح الأخيرة رغم وهنها العضلي، بسحر العيون الذي يورث الخبل واختلاط العقول وصولاً إلى القتل، فيقول في ذلك:

إن العيون التي في طرفها حورٌ

قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك بهِ

وهن أضعف خلق الله إنسانا

وقد وجد ارتباط العشق بالفروسية والحرب عند العرب، في شخصية عنترة العبسي نموذجه الأمثل، حيث يتحد بصورة لافتة البريقان المتعاكسان للشهوة والموت. وحيث تنعدم المسافة الفاصلة بين لمعان السيوف ولمعان ثغر المرأة المعشوقة، يخاطب الشاعر حبيبته بالقول:

ولقد ذكرتكِ والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددتُ تقبيل السيوف لأنها

لمعتْ كبارق ثغركِ المتبسّمِ

ولم يجد الشعراء العرب أي غضاضة في الاعتراف بضعفهم أمام الحب، ولا وجدوا تناقضاً يُذكر بين الخضوع لجمال المحبوب، وبين شجاعتهم الفائقة في ميادين القتال. وقد أباح أبو فراس الحمداني لنفسه أن يتجاوز التخصيص إلى التعميم، وأن يعلن باسم الجماعة التي ينتمي إليها:

نحن قومٌ تذيبنا الأعينُ النجلُ

على أننا نذيب الحديدا

طوْعُ أيدي الغرام تقتادنا الغيدُ

ونقتاد في الحروب الأسودا

فترانا يوم الكريهة أحراراً

وفي السلم للغواني عبيدا

ولم يخرج مسلم بن الوليد الملقب بصريع الغواني عن المعنى نفسه، بقوله:

نقاتل أبطال الوغى فنبيدهم

ويقتلنا في السلم لحظُ الكواعبِ

ترك التشابك العميق بين الحب والحرب تأثيراته في اللغة نفسها بحيث باتت النعوت والحقول الدلالية المتعلقة بالأول مستعارة من الثانية بشكل شبه تام

ولا يختلف أمر الحب في الغرب عما هو عليه في الشرق، على ما بين الحضارتين من فروق في المفاهيم والتقاليد والرؤية إلى الأشياء. وقد يكون بودلير، خصوصاً في ديوانه «أزهار الشر»، أحد أكثر شعراء الغرب تجسيداً لعلاقة الجمال بالرعب والحب بالموت، وهو الذي يعدُّ بأن «الحب الجالس على جمجمة البشرية، يتربع بصلف على عرش العالم». وقد بدت علاقته العاطفية الصعبة بجان دوفال، بمثابة حرب حقيقية تبادلا خلالها كل أشكال العنف والاشتهاء والتدمير. فهو لا يتوانى عن مخاطبتها بالقول «لقد دخلتِ كطعنة سكين في قلبي النائح البائس. تبّتْ يداكِ أيتها الماكرة التي ربطتُ بها مصيري، كالسجين بالأغلال، والمدمن بالخمرة». ثم يعود في قصيدة أخرى ليؤكد رغبته العارمة بالانتقام منها، فيعلن دون تحرج: «أريد ذات ليلة حين تدقُّ ساعة الغبطة، أن أزحف بصمت المخاتل نحو كنوز جسمك، لأعاقب لحمك المبتهج، وأُثخن صدرك المغفور له بالطعنات».

أما بابلو بيكاسو فقد بدا بفعل أناه المتفاقمة وإحساسه العميق بالتفوق، أشبه بالطاغية الحقيقي الذي يرغب في امتلاك كل ما تقع عليه أنظاره من النساء، قبل أن يضمهن كمحظيات سابقات إلى ألبومه الخاص، رافضاً إعتاقهن بالكامل ومنكلاً بهن أشد التنكيل. وهو ما حدا بصديقه بول إيلوار إلى القول عنه «لقد أحب بيكاسو بشدة، لكنه دمر كل شيء أحبه». وليس أدلّ، أخيراً، على الطبيعة الصراعية المؤلمة للحب، من قول نيتشه «إن حظ العشاق هو الأذى واختلال التوازن الذي يخضعهم للنزال الجسدي. إذ محكوم عليهم أن يدمروا الانسجام فيما بينهم، وبأن يتعاركوا باستمرار. وما يسببه الواحد للآخر من جروح، هو ما يجعلهما يتحدان، والقتال هو الثمن».


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

«أولمبياد 2024»... هل تنجح فرنسا في بناء قوتها الناعمة؟

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

«أولمبياد 2024»... هل تنجح فرنسا في بناء قوتها الناعمة؟

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ليست دورة الألعاب الأولمبيّة لعام 2024، التي ستنطلق في باريس في السادس والعشرين من يوليو (تموز) الحالي، بأولى الدّورات التي ستستضيفها العاصمة الفرنسية، بل الثالثة؛ إذ حظيت بشرف تنظيم أول دورة في القرن العشرين (1900)، ولاحقاً دورة عام 1924، ما يجعلها المدينة الأكثر استضافة للألعاب تساوياً مع العاصمة البريطانية لندن.

وعلى الرّغم من كل الضّجيج الذي سعت الدّولة الفرنسيّة إلى إطلاقه حول كيف ستجعل من «باريس 2024» مختلفة عن الدورات السابقة لتعكس موقع الريادة الفرنسية في العالم كما في خطاب توني إستانغيه، رئيس اللجنة المنظمة، العالي النبرة: «نريد أن نعرض أفضل ما في فرنسا. لدينا الكثير لنقدمه، وسنثبت أن هذا البلد لديه كل القوة والإمكانات للتأكد من أن هذه الألعاب ستبقى في الذاكرة إلى الأبد»، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أيضاً سعى إلى أن تكون احتفالاً صاخباً في عهده بينما يدخل النصف الثاني من ولايته الأخيرة، بينما فرنسا تخطو نحو يوم الافتتاح في لجج من أزمات سياسيّة متعددة، ويعتريها قلق من أن يجعل المعارضون من «الألعاب» منصّة لتسجيل مواقفهم ضدّ السلطة؛ لا سيما موقفها المدان من الحرب على غزّة، والأسوأ أن الهيئة المنظمة اختارت، على خلاف المعتاد، أن تجري الأنشطة الأساسية للدورة في قلب المدينة لا على أطرافها (كما في دورتي لندن عام 2012، وريو دي جانيرو في 2016، مثلاً)، مما يهدد بتحديات لوجيستية وأمنية جمّة بدأت إرهاصاتها في الظهور منذ اليوم، فيما الجمهوريّة على موعد مع وزير داخلية جديد سيتسلم مسؤولياته قبل أسبوعين فقط من ليلة الافتتاح، بينما نصف سكان العاصمة باريس يعتقدون أن استضافتها الحدث الرياضي الأهم «فكرة سيئة للغاية».

وكانت باريس قد تعهدت بخفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري إلى النصف مقارنة بمستوياتها في دورتي «لندن» و«ريو دي جانيرو»، وتبنت لذلك إجراءات غير مسبوقة؛ إذ لن يسمح مثلاً باستخدام مولدات الديزل لتشغيل عربات البث المباشر، وهناك كميات أقل من اللحوم على قوائم إطعام الرياضيين، وعدد محدود للغاية من أعمال بناء منشآت جديدة، وذلك في استعراض لمؤهلات الدّولة الفرنسية بيئياً، وأيضاً لتحقيق طموح «اللجنة الأولمبية الدولية» في إثبات أن أكبر حدث رياضي في العالم يمكن أن يصبح صديقاً للبيئة. لكن أكاديميين ونشطاء بيئيين شككوا في إمكانية تحقيق ذلك، وسط تساؤلات حول الحجم الإضافي للسفر الجوي الذي تتطلبه دورة بهذا الحجم، والضغط الذي ستضيفه على قدرة قلب المدينة لضمان ديمومة حركة النقل وانسيابها؛ الأمر الذي دفع بـ«منظمة مراقبة الكربون» إلى الزعم أن «خطط العاصمة الفرنسية لخفض الانبعاثات لم تذهب بعيداً بما فيه الكفاية، وستكون دورة الألعاب دون مساهمة فعلية في مواجهة تغير المناخ».

وقد عاندت باريس بشدة دعوات مزدادة لإعادة التفكير في الحدث، وتحويله إلى سلسلة أحداث محلية يمكن توزيعها على مناطق عدة عبر فرنسا وربما جيرانها أيضاً؛ لأنه يفقد حينئذ ميزة العملقة التي تخدم أغراض الاستعراض السياسي وبناء القوة الناعمة. ويتهم البعض الحكومة باستغلال المناسبة العالمية لتمكين مشروع ضخم للمراقبة المكثفة في فرنسا عبر نشر شبكة هائلة من كاميرات الرقابة في بلد ظل حساساً دائماً لناحية الحق في الخصوصية.

فهل خلط الفرنسيون رياضة العالم بسياستهم؟

إن تاريخ الأولمبياد، منذ استعاد العالم مزاج الألعاب الرياضية الإغريقية القديمة في ثوب عصري بداية من عام 1896 (دورة أثينا)، ظلّ دائماً شديد الارتباط بالسياسة وموازين القوى بين الأمم، وعكست مسائل اختيار المدن المضيفة، والدول التي تُدعى فرقها للمشاركة فيها، المزاج السياسي والتحالفات الدّولية في وقتها، وتداخلت مع توجهات الأمم الرائدة والصاعدة لبناء مصادر قوتها الناعمة.

يقول المؤرخون مثلاً إن باريس عندما نظّمت «أولمبياد 1900» كانت تمور بالأفكار التي وجدت قنوات لها للتجسد في مختلف مجالات الفنون والعلوم والصناعة، وتلازم تنظيم دورة الألعاب حينها مع استضافتها المعرض الدّولي الذي كان يستقطب الزائرين من مختلف أرجاء العالم للاطلاع على أحدث الاختراعات والإنجازات الصناعيّة المبهرة، فأصبحت الدورة الرياضية كأنّها مجرد نشاط ترفيهي ملحق بالمعرض. ولا شكّ في أن فرنسا استخدمت نفوذها السياسيّ الطاغي حينئذ لفرض أجندتها على «اللجنة الأولمبيّة الدّولية» ووضع الدورة في خدمة أولويات الدولة الفرنسية اقتصادياً وسياسياً.

وتصف صحافة تلك الفترة ضخامة الحدث؛ الذي استمر لما يزيد على 5 أشهر - من منتصف مايو (أيّار) إلى نهاية أكتوبر (تشرين الأول) - بمشاركة 59 ألف رياضيّ حضروا للمنافسة من مختلف أرجاء العالم، وجمع لحمايتهم وإسنادهم أكثر من 10 آلاف رجل من الإطفائيين والمسعفين والصيادين، وهؤلاء شاركوا في منافسة لصيد الأسماك من نهر السين سعياً لتوفير الأموال التي تدفع لاستيراد الأسماك البحرية من دول مجاورة، ناهيك بعدد هائل من موظفي الحكومة الفرنسية الذين أداروا الأنشطة المرافقة للدورة عبر شبكة ضخمة من لجان فرعية توجهها لجنة تنظيم مركزية تتبع وزير التجارة الفرنسي.

ويقول المؤرخ البريطاني ديفيد أوين في كتابه «القوات الأخرى: الرياضة عند الفرنسيين من وجهة نظر إنجليزية (2024)» عن دورة عام 1900 إن التقرير النهائي الذي صدر عن وزارة التجارة والصناعة الفرنسية - لا عن جهة رياضيّة - أفاض في وصف العربات والآليات التي تنتجها المصانع الفرنسية - سواء للأغراض المدنية والعسكرية - والتي شاركت في أنواع مختلفة من رياضات السباق، إضافة إلى وصفه المكثف نشاطات موازية استعرضت كفاءة تلك العربات وغيرها من الآليات الثقيلة وسيارات النقل ومعدات القتال أمام الجماهير على هامش سباقات الأولمبياد. ويلاحظ كذلك أن أنشطة الرّماية وسباقات المناطيد (وصل أحدها إلى جوار كييف على بعد 1900 كيلومتر من باريس) والمنافسات بين وحدات المدفعية (هذه الأخيرة اقتصرت المشاركة فيها على الفرنسيين) شكلت في مجموعها الجزء الأهم من الفعاليات التي نظمت تحت مظلّة الدّورة بما يخدم توجهات العسكرة للدولة الفرنسية حينها.

وهكذا؛ بين «باريس 1900» و«باريس 2024» تغيرت أولويات الدولة الفرنسية، وتفاوتت الرياضات المشمولة بالأولمبياد، ولكن مبدأ اختلاط السياسة بالرياضة ظل ثابتاً لا يتبدل.