متى ستقرأ الكتاب الألف؟! متى ستكتبُ الكتاب المائة؟!

مع كثرة الخيارات لا مهرب لنا من أن نختار

متى ستقرأ الكتاب الألف؟!  متى ستكتبُ الكتاب المائة؟!
TT

متى ستقرأ الكتاب الألف؟! متى ستكتبُ الكتاب المائة؟!

متى ستقرأ الكتاب الألف؟!  متى ستكتبُ الكتاب المائة؟!

قضيتُ الشهر الماضي وبعضاً من أواخر سنة 2023 في رفقة حافلة بالبهجة والإثارة مع كتابيْن: رواية «بطرسبورغ» التي كتبها الروائي والكاتب والشاعر وعالم اللسانيات والفيلسوف والناقد الروسي آندريه بيلي. الرواية مترجمة حديثاً إلى العربية. الكتاب الثاني هو «التفكير القصصي: العلم الجديد للذكاء السردي (Storythinking: The New Science of Narrative Intelligence)» لمؤلفّه أنغوس فليتشر (Angus Fletcher). الكتاب صادر حديثاً عن جامعة كولومبيا الأميركية ولم يُتَرْجَمْ بعدُ إلى العربية.

ذكّرتني البهجة التي استشعرتُها عند قراءة هذين الكتابين بالبهجة السالفة التي كان كثيرون منّا يعيشونها في العقود الماضية وهُمْ يقرأون كتاباً أو رواية. تساءلت: ما الذي حصل لنا... لماذا تضاءلت مناسيبُ بهجة الناس في ما يقرأون ويكتبون (معظمهم وليس كلّهم بالتأكيد)؟ أهي الكثرة التي أفسدت البهجة؟ بلى. سنتذكّرُ (لأغراض المقارنة) حال ذاك المتبطّل الذي لم يعجبه العدس الذي اعتادت أمه إعداده له معظم أيام الأسبوع، ثمّ لمّا اضطرّته الحال للنزول إلى ساحة العمل والعودة إلى المنزل وقد هدّه التعب راح يستطعمُ العدس ويراه أكلاً فاخراً. كنّا من قبلُ نقاتلُ (أكرّر: نقاتل على صعيد الجهد والمال) حتى نحصل على بعض الكتب التي نتمنى قراءتها. واضحٌ أنّ سهولة المنال من كثرة متاحة تُذهِبُ متعة القراءة المتوقّعة بعد كفاح شاق ومال مبذول من أجل اقتناص كتاب نادر. كثرةُ الكتب المتاحة للقراءة - إلكترونياً أو ورقياً – ساهمت في إفساد بعض بهجة القراءة التي كانت متاحة لنا من قبلُ؛ لكنّ هذه الكثرة ليست كلّ الحكاية. الكثرة لن تقتل بهجة القارئ المتمرّس الذي لن يكون فريسة سهلة الاصطياد من جانب كثرة العناوين وإغراءات دور النشر وألاعيب السوق.

الكثرة رحمةٌ وليست نقمة لو شئنا. الكثرة لها امتيازاتها وأفضالها علينا؛ إذْ أتاحت لنا كثرة الخيارات. هنا بدأنا نقتربُ من جوهر المعضلة. مع كثرة الخيارات؛ لا مهرب لنا من أن نختار، والاختيارُ من كثرةٍ عمليةٌ أكثر إجهاداً للعقل والإرادة، من الاختيار من قلّة. أغلبنا يفضّلُ الاختيار من قلّة من الخيارات. هذه حقيقة لا يصحُّ أن نتغافل عنها، وهي ليست مقصورة على خيارات الكتب؛ بل تمتدُّ على نطاق واسع لتشمل مجالات كثيرة في الحياة: الدراسة والعمل والسكن والسفر.

لو تعاملنا مع الأمر بطريقة مُعقلنة؛ فلا بدّ من إعمال الإرادة. لن تمضي حياتنا دوماً والإرادة الذاتية معطّلة. لا بدّ من أن نقتنع بحقيقة أنّ المعروض من الكتب أكثر بكثير من قدرتنا على القراءة، وأنّ تعدّدية خيارات القراءة المتاحة لنا هي امتياز لنا غاب عن كثيرين سبقونا، ويتوجّبُ استثماره بطريقة ذكية. يجب أن نجعل الحقائق الحاكمة التالية حاضرة لا تغيب عن عقولنا:

الحقيقة الأولى: الانتقائية مطلوبة؛ لأنّ الكتب المتاحة للقراءة تزدادُ على نحو أكبر بكثير من قدراتنا على الإحاطة بها أو معرفة حتى عناوينها.

الحقيقة الثانية: ليس من أرقام سحرية لأعداد ما تتوجّبُ علينا قراءته. ليس مِنْ لائحة سلوك تنصّ على فقرة تقول: «عندما تقرأ ألف كتاب فأنت حينها تكون مستحقاً للمباركة والانضمام إلى نادي القرّاء الخالدين».

الحقيقة الثالثة: الكتاب سلعة، ولا يصحُّ اعتباره كينونة متفرّدة بسبب قيمته الفكرية؛ لو وُجِدَتْ له مثل هذه القيمة. عَزْلُ القيمة السلعية عن القيمة الفكرية عملية خرقاء فضلاً عن أنها غير واقعية. دور النشر العالمية تتفنّنُ في عرض الكتاب بوصفه سلعة، بإجراءات معروفة؛ منها: الإخراج الراقي، والعروض المسهبة في الصحف والدوريات ومراجعات الكتب. لا يصحُّ أن نكون أسرى هذه الدور الباحثة عن المال.

الحقيقة الرابعة: عندما لا تكون مضطرّاً إلى قراءة كتاب ما - لسبب دراسي أو مهني – فمعيار المتعة هو المعيار الحاكم والأوحد. القراءة المتكلّفة أو المدفوعة بموضات حداثية أو فكرية شائعة «أقرب للتريندات في مواقع التواصل الاجتماعي» هي إرهاق غير مجدٍ ولا منفعة تُبتغى منه.

الحقيقة الخامسة: للكتاب طغيانٌ وسحرٌ عند بعض الناس «في الأقل». من الأفضل عدم ترك هذا الطغيان الساحر يتغوّلُ إلى حدود منفلتة. تكديس الكتب التي لن نقرأ معظمها قد يستحيل فعلاً هَوَسياً يصعب كبحه إن هو طغى وتجبّر وصار عادة من العادات الاعتيادية المقبولة.

الحقيقة السادسة: كتابُ واحد قد يُغني عن قراءة عشرة كتب أو مائة أو حتى ألف!!. كثرة المعروض من الكتب قد تكون خادعة. زادت العناوين ربما في المبحث الواحد؛ لكنها قد تجعل القارئ يغوصُ في حومة رغوة لغوية متقنّعة بقناع الرصانة والانضباط والصرامة؛ وهنا ستكون الفاعلية الجوهرية لنا هي أن نعرف الكتاب الذي سيغنينا عن قراءة كتب كثيرة أخرى في الميدان ذاته. تنمو هذه الخاصية النوعية فينا مع الخبرة الشخصية والاستشارة الدقيقة من بعض المختصين المعروفين بالاجتهاد والمثابرة، وكذلك بالرجوع إلى القراءات الرصينة في بعض مواقع مراجعات الكتب المشهود لها بالنزاهة المتفرّدة.

ما الذي حصل لنا... لماذا تضاءلت مناسيبُ بهجة الناس في ما يقرأون ويكتبون؟

ترافقت كثرة أعداد الكتب المنشورة، وما يستتبع هذا من كثرة الخيارات المتاحة لنا، مع ظاهرة أخرى مؤذية: ظاهرة «العدّاد (Counter)». لستُ واثقة بأنّ مفردة «العدّاد» هي الترجمة المناسبة. هناك من يترجمها إلى «المعداد». لا بأس. لتكن «العدّاد» فحسب.

تسبّبت كثرة الكتب في نشوء ظاهرة «القارئ العدّاد»؛ القارئ الذي يقرأ كأنّه عدّاءٌ في مضمار سباق. لو كان المضمار لسباق ماراثون ربما كنّا ارتضينا الحال؛ لكنّ «القارئ العدّاد» لا يقبلُ سوى بمضمار السباقات القصيرة. يقرأ وفي باله عناوين أخرى تنتظر القراءة؛ فيخسرُ لذّة اللحظة الحاضرة ولذّة التوقّع المستقبلي المخبوء في كتاب مقبل. ثمّة مَثَلٌ اعتاد آينشتاين قوله لزوّاره: «تمتّعْ بلذّة اللحظة الحاضرة ولا تُفسِدْها بترقيع الثقوب العتيقة»!!

«القارئ العدّاد» تهمّه الأعداد... كم قرأ؟ يبدو كانّه يطاردُ غزالاً في برية. تفاقمت ظاهرة «القارئ العدّاد» مع تنامي وسائل التواصل الاجتماعي عندما راح يوظّفُ هذه المنصّات لعرض قائمة مطوّلة كلّ شهر أو كل سنة بالكتب التي قرأها، وبين هذه القراءات كتبٌ متطلّبة تستلزمُ وقتاً وجهداً كبيريْن يعرفُ القارئ المدقّق حجم كلّ منهما. ماذا يريدُ «القارئ العدّاد»؟ أيريدُ استعراض قائمة مقروءاته التي لا تلبث تتضخّمُ كلّ شهر أو كل سنة؟ لا أراه سوى خادع لنفسه قبل أن يكون خادعاً للآخرين. ما شأن الآخرين سواء أقرأ مائة أم مائتين أم ألفاً من الكتب كلّ سنة؟

مثلما يوجد «قارئ عدّاد» يوجد أيضاً نظيرٌ له في الكتابة. إنّه «الكاتب العدّاد»... يكتبُ كتابه العاشر وهو يسرعُ الخطى لاهثاً نحو كتابه المائة. هل يعيشُ لذّة الكتابة؟ لا أظنّه يفعل ذلك. هو يكتب وفي ذهنه أن يكون منافساً لواحد من المعروفين بكثرة منشوراتهم. ينشغلُ بإلهاءات جانبية أكثر بكثير ممّا يفعل مع ما يكتب. ربما يكتبُ وفي ذهنه جائزة دسمة.

نقرأ كثيراً عن كتبٍ تتناولُ مسرّات القراءة. أتمنّى أن نختبر هذه المسرّات بطريقة شخصية. المسرّة حالة نوعية يستعصي توصيفها في صياغات عددية. الأفضل أن نقرأ ونكتب ونتمتّع من غير هاجس «عدّاد القراءة والكتابة».

كتب الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي في واحد من دواوينه الشعرية:

وزنتُكَ يا وزّان الشِّعر

فكنتَ خفيفاً في الميزان

أظنُّ أنّ «القارئ العدّاد» و«الكاتب العدّاد» لا يختلفان كثيراً عن «وزّان الشعر». إنّهما يقايضان لذّة الممكن المتاحة في الحاضر، بلذّة مستقبلية مؤجّلة قد تأتي؛ لكنّ الأغلب أنها لن تأتي.


مقالات ذات صلة

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون هوشنك أوسي

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية.

رشا أحمد (القاهرة)

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»
TT

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته، وشجاعته، وطارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجالا للبحث والاهتمام.

يعيدنا وزير خارجية ليبيا السابق، في روايته الجديدة «القائد العاشق المقاتل»، الصادرة عن «دار الرواد للنشر والتوزيع» إلى فترة تاريخية، كان لا يزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة المعارك، وللشهامة قيمة أخلاقية. تحكي الرواية سيرة مقاتل ليست ككل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ بالمزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف المعرفة.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته المتوثبة والكاريزما التي تمتع بها، وحبه للثقافات، أصبح صديقاً للعرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس لمجالسهم. وحين أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسياً نشطاً، وسائحاً هائماً.

«القائد الشيطان»

تقول الرواية: «عشق أميديو السلاح كما عشق المرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد المقدام الذي تقترن بطولاته بغرام دائم، وعشق لا ينقطع. ويتنقل القارئ بين الأحداث السياسية وشراسة الأطماع الاستعمارية، وحكايات أميديو مع عشيقاته اللواتي شغلن الجزء الذي لم تملأه الحروب من يومياته.

«القائد الشيطان»، هذا هو لقبه، الذي استحقه عن جدارة. فبعد أن خاض أميديو الحرب الأهليّة الإسبانيّة إلى جانب قوات الملكيّين قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيين، وحارب المقاومة الليبية، عاش قصة حب حارقة مع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علاجه في مستشفى في طرابلس، من إصابة تعرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لريزا بـ«قوامها الممشوق ووجهها الأبيض الوضاء وعينيها الواسعتين وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تهديد النازيين لها ولعائلتها ولملتها، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القوانين العنصرية التي فرقت بينهما.

الحبيبة ريزا

ريزا هي كما غيرها من اليهود الذين «اضطروا إلى الهرب خارج العاصمة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأماكن إقامتهم». لكن مهمة الضابط المغامر الذي يمتطي صهوة جواده، ويتقدم الفرسان، ويهاجم كما لو أنه نسي الموت، لا تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريتريا، حيث يطور هناك أساليبه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حين يعيش قصة حب جديدة مع خديجة الإثيوبية، التي «بثت فيه عشقاً لم يعرفه أبداً». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الجمال الخمري التي تحفظ الشعر العربي، تتسلل إلى خيمته كل ليلة، تجالسه، تحادثه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة المحاربين. يصف الكاتب خديجة «الطويلة الرشيقة، بلباسها الملون، وعطرها الفواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نسي حبيبته الطرابلسية ريزا، التي صارت إلى المجهول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته الإيطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجه القديم منها، فقد طوتها عيون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها».

خديجة تشد أزره

على هذا النحو الآسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من اضطرابات، وتوترات وقلق، مع العقيد الذي يخوض غمار معاركه، مستعيناً على ذلك بنساء كنّ له الظهر والسند. غير أن خديجة هذه بقيت شيئاً آخر. و«لأول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى الأبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب».

جاءته الأوامر من روما أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوساً منه. جهزت له خديجة فرساناً أشداء، وقالت له: «قاتل ولا تستسلم يا حبيبي، لقد خلقك الله لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة».

بين جبهات الحروب الشرسة، وجبهات الحب العاصفة، ينقلنا الكاتب، وهو يبدع في رسم علاقة أميديو مع عشيقاته، وتوصيف علاقته مع كل منهن، وكأن كل واحدة أنارت له جانباً مختلفاً من شخصيته، وأضافت لفضوله معارف جديدة، وفتحت أبواباً للضوء. فقد كان أميديو يتمتع بشخصية مغامرة وجذابة، مما جعله محبوباً بين النساء. يقول لخديجة وقد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على الاستمرار في محاربة البريطانيين. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلاثين نفراً، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب».

المرحلة اليمنية

ولما كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تمرده على الأوامر، والوضع المتأزم هناك، يمم وجهه صوب اليمن، وقد صار اسمه أحمد عبد الله الرضائي. وصل إلى ميناء الحديدة، بعد مغامرات كادت تودي به وبرفيق الرحلة. طلب اللجوء السياسي، شك اليمنيون في أمره، وأخضعوه شهراً للسجن والاستجواب. محادثاته المتناسلة مع سجانيه وصلت إلى قصر إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلاقة الوطيدة سريعة مع الإمام وسيكلفه تدريب كتائب جيشه وشرطته.

المرحلة اليمنية من حياة أميديو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة الاجتماعية، والأجواء السياسية في تلك المرحلة، في هذه المنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر المقوس وسط حزامه. جلسة مع خلان سيتعرف عليهم، يخزنون القات معاً، ويسهرون الليالي في مطارحات شعرية إلى أن يدركهم الصباح، ويخرجون ليروا مباني المدينة الشاهقة المزخرفة بألوان، تضيف الانشراح إلى الأرواح». وفي اليمن أيضاً سيلتقي بياتريس.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية

صفحة حب جديدة

بياتريس الحبيبة الجديدة. هذه المرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلة البزق وتهرّب الأسلحة، حين يلزم الأمر. امرأة جذابة يلفها الغموض «عندها عصارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مثقفة ودارسة متبحرة في عالم النفس، ولها القدرة على قراءة ما في فناجين الرؤوس».

لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح بالإمام، ويحلّ الجدري، وينفضّ الجمع، ولا يبقى لـ«القائد الشيطان» سوى الهرب.

بأسلوبه الرشيق والمشوق، يقصّ شلقم من خلال روايته، حكاية هذا القائد الإيطالي الذي تحول إلى أسطورة، وشبهه البعض بلورانس العرب، لتشابه بين سيرتيهما، مستفيداً من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفاً إليها حبكته ونكهته المستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مرات عدة في النص. وقد عاش أميديو من العمر قرناً كاملاً وسنة، تمكن خلالها من الانتقال إلى حياة دبلوماسية، لا تقل أهمية عن حياته العسكرية. عين سفيراً لدى عدد من الدول العربية بينها الأردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعين الرجل سفيراً لدى المغرب، ويكتب له أن يشهد حادثة انقلاب الصخيرات الشهيرة، التي نقرأ تفاصيلها في الرواية كما عاشها أميديو، وكأننا في قلب الحدث.

التاريخ يعيد نفسه

مفاصل تاريخية كثيرة، عن فترة مفصلية من عمر العرب، والتدخلات الأجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشياً، في ما يطغى حضورهم الاجتماعي في الرواية، كل ذلك مشدود إلى أوتار عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، تلهم القائد المقدام.

وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مع أميديو، وقد استقر به الحال أخيراً متقاعداً يستعيد ذكرياته ويتأمل مشواره بهدوء ودعة. وتشاء الظروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعداء الأمس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات والاعترافات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثاً، أو كأنهم كانوا جزءاً من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها.

الرواية تعيدني ثمانين سنة إلى الوراء، ولعالم غير الذي نعيشه اليوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها لا تزال هي نفسها، والمآلات تبدو متشابهة وتستحق المقارنة والعبرة والتأمل.