بوحديبة... دعا للتنوير والتحديث منذ بداية مسيرته

مرور 3 سنوات على رحيل المفكر التونسي

د. عبد الوهاب بوحديبة
د. عبد الوهاب بوحديبة
TT

بوحديبة... دعا للتنوير والتحديث منذ بداية مسيرته

د. عبد الوهاب بوحديبة
د. عبد الوهاب بوحديبة

في عام 2000، توفي المفكر التونسي د. عبد الوهاب بوحديبة عن سن تناهز 88 عاماً. وبرحيله فقدت تونس، في فترة كانت ولا تزال تشهد فيها انتشاراً للفكر الظلامي وتصاعداً لم يسبق له مثيل للنزعات السلفية التي تهدد استقرار البلاد وأمنها ووحدتها الوطنية، أحد رموز الفكر التنويري وأحد من قاوموا بشجاعة كل نزعات التطرف، سواء كانت دينية، أو يسارية أو غيرهما. ومثل كل رموز النخبة التونسية في مجال الثقافة والفكر، كان بوحديبة ضحية حملات «ديغاج» (ارحل) التي عرفتها تونس بعد انهيار نظام زين العابدين بن علي في الرابع عشر من شهر يناير (كانون الثاني) 2011. فقد اضطرته تلك الحملة التي أطلقها اليساريون المتطرفون إلى تقديم استقالته من «بيت الحكمة» التي عرفت خلال فترة إدارته لها لقاءات وندوات فكرية غاية في العمق والأهمية، وفيها شارك مفكرون وفلاسفة مرموقون من تونس، ومن العالم العربي والإسلامي، ومن البلدان الغربية. كما أنجزت في عهده ترجمة مباشرة من اللغة اللاتينية إلى اللغة العربية لكتاب «الاعترافات» للقديس أغسطين، الذي يعدّ من أهم المعالم الفكرية في التراث الإنساني. وتندرج تلك الترجمة ضمن برنامج فكري يهدف إلى الانفتاح على التراث الإنساني، وإلى التلاقح بين الثقافات والحضارات، وإلى التعريف بمشاهير المفكرين والشعراء والكتاب الذين عرفتهم تونس في مختلف مراحل تاريخها القديم.

وينتسب الدكتور عبد الوهاب بوحديبة إلى واحدة من أعرق العائلات في مدينة القيروان. وكان والده من أوائل الذين أتقنوا اللغة الفرنسية في هذه المدينة الإسلامية المحافظة. وقد ساعده الانفتاح على الثقافة الفرنسية على تربية أبنائه تربية عصرية من دون التخلي عن القيم التي تتميز بها الحضارة العربية - الإسلامية. وعلى مثل هذه القيم تربّى الفتى عبد الوهاب الذي تفاعل مبكراً مع الثقافة الفرنسية بتوجيه من والده. وقد زاد تعلقه بهذه الثقافة في فترة الدراسة في المدرسة «الصادقية» التي أسسها المصلح خير الدين باشا سنة 1875 لتكون مدرسة التنوير والإصلاح والتحديث والانفتاح على الحضارة الغربية.

ومنذ بداية مسيرته الفكرية المديدة، كان بوحديبة مثالاً للتنوير والتحديث في أجلّ وأسمى مظاهرهما. ويقوم هذا التحديث وهذا التنوير على الانفتاح على الآخر - أي الغرب وثقافته وحضارته - لكن من دون تقليده تقليداً أعمى أو الذوبان فيه. وهذا ما أثبتته مختلف مراحل تطوره الفكري. ففي عام 1966، وبحضور الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ألقى بوحديبة، الذي كان آنذاك أكاديميّاً شاباً، محاضرة في الجامع الكبير بالقيروان، مسقط رأسه، وذلك بمناسبة المولد النبوي الشريف. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يسمح فيها لأكاديمي شاب محسوب على العلمانيين بالتحدّث في تلك المناسبة الدينية الكبيرة، إذ إن كبار رجال الدين، في مقدمتهم مفتي الجمهورية، هم الذين كانوا يحتكرون مثل هذه المهمة. غير أن بورقيبة كان يرغب في الاستماع إلى الأكاديميين الجدد العائدين للتوّ من الجامعات الغربية بشهادات مرموقة. وهؤلاء كانوا في جلّهم يسعون اعتماداً على تكوينهم العلمي الصلب للتوفيق بين الخطاب الديني المتسامح، والخطاب العلماني، بهدف إحياء الاجتهاد في الدين، الذي كان ينهزم ويذبل بسرعة كلما حاول البعض بعث الحياة فيه.

تضمّنت محاضرة د. عبد الوهاب بوحديبة الكثير من الأفكار والآراء التي كان الرئيس بورقيبة يرغب في سماعها، والتي كانت مُنسجمة تمام الانسجام مع رؤيته العامة بخصوص الدولة الحديثة التي كان يعمل على بنائها. وكانت ضرورة مقاومة كل مظاهر التزمت والانغلاق، والتخلص من التقاليد البالية، من أهم النقاط التي ركز عليه الأكاديمي الشاب في محاضرته المذكورة التي كشفت عن إلمامه الواسع بالتاريخ العربي - الإسلامي في جميع تجلياته الثقافية والحضارية والدينية.

وقد تحققت الشهرة الفكرية لعبد الوهاب بوحديبة بعد أن أصدر كتابه المهم «الجنسانية في الإسلام»، كان ذلك في السبعينات من القرن الماضي. وكان هذا الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه قدمها إلى جامعة السربون الباريسية، وقد كتبها بالفرنسية، حسب الطريقة الأكاديمية، وحسب المناهج العلمية المتعارف عليها. وفيما بعد اختصر أطروحته لتصدر في كتاب قدّم من خلاله قراءة مُستفيضة وعميقة للكثير من المسائل المتصلة بالحب والجنس في الثقافة الإسلامية، التي كانت في أغلبها من المواضيع المحرمة. وكان هدفه الأساسي من الكتاب التوجّه إلى القارئ العادي شرقياً كان أم غربياً. كما كان هدفه دحْض أطروحات المتزمتين بخصوص مكانة المرأة في المجتمع، والحياة الجنسية للمسلمين في مختلف جوانبها.

وفي أواخر السبعينات من القرن الماضي، أصدر كتاباً مهماً آخر بعنوان «بحثاً عن القيم المفقودة». وهو عبارة عن دراسات حول التحولات الاجتماعية الكبيرة التي شهدها المجتمع التونسي بعد الاستقلال، مثل الانحراف لدى الأجيال الشابة، والنزوح من الأرياف إلى المدن، والأشكال الجديدة للجريمة. وقد أظهر د. عبد الوهاب بوحديبة من خلال كتابه هذا قدرته الفائقة على الغوص في القضايا التي تتصل بالمجتمع التونسي بعد مرور أزيد من عقدين على حصول البلاد على استقلالها. وفي الكثير من كتاباته الأخرى، طرح د. عبد الوهاب بوحديبة أفكاراً تتعلق بضرورة إصلاح المجتمعات العربية بهدف مواكبة التطورات التي عرفها العالم في ظلّ الحضارة الغربية. هو يعتقد بأنه من الضروري أن تقوم الأنظمة العربية بإصلاحات، لا بضغط من الخارج، وإنما بمحض إرادتها. ولا بد أن تمسّ هذه الإصلاحات المنظومة التربوية والسياسية والدينية وغيرها. كما طالب في كتاباته بإعادة النظر في جوهر ما قاله الإسلام بشأن العديد من القضايا، لا لكي نحيد عنه، وإنما لكي نفهمه فهماً صحيحاً يتماشى أولاً مع روحه، وثانياً مع متطلبات الحياة التي نعيشها راهناً.

يقول: «إنه لمؤسف حقّاً أن نكون قد بلغنا درجة من التحجّر والانغلاق رافضين إعادة النظر في مناهجنا، وفي تفكيرنا فيما الغرب الذي نزعم أننا قادرون على مواجهته يفعل ذلك كل يوم! نحن نحتاج إلى مراجعة جذرية وعميقة لواقعنا من دون ضغوط خارجية. وهذه المراجعة المطلوبة تحتاج إلى الفهم الصحيح لتراثنا، وإعادة النظر في مناهجنا التربوية لكي نجعل أبناءنا في مأمن من مخاطر التطرف والتزمت. فقد أظهرت ظاهرة غلق الأبواب أمامهم فشلها، وفسادها، حيث يمكن أن يتحولوا إلى قنابل موقوتة قادرة في أي وقت على نسف مكونات المجتمع وإحداث شروخ عميقة وخطيرة داخله».

وبخصوص الإصلاحات التي قام بها بورقيبة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، يرى بوحديبة أنه -أي بورقيبة- كان زعيماً سياسياً جريئاً وشجاعاً. وقد أثبت التاريخ والواقع أيضاً أن القوانين التي سنّها في مجال حقوق المرأة، وفي العديد من المجالات الأخرى، كانت ضرورية في سبيل تطوير المجتمع التونسي، وإرساء أركان وأسس دولة حديثة بالمفهوم الحقيقي للكلمة. وكان من الضروري سنّ مثل تلك القوانين لتكوين تركيبة اجتماعية جديدة تشارك في بناء الدولة وفي تركيز أركانها وأسسها. غير أن الدكتور بوحديبة يشير إلى أن بورقيبة لم يكن يمتلك العصا السحرية للقيام ببناء الدولة وسنّ القوانين الخاصة بها، بل كان يمتلك القدرة على التجاوب مع رغبات المجتمع آنذاك، وهي رغبات كانت تصبو إلى التطور والتقدم والحرية. وهذا ما يفسر تجاوب غالبية التونسيين مع إصلاحاته.

خلال العشر سنوات الأخيرة من حياته، فضل بوحديبة العزلة والصمت، فلم يصدر عنه أي تعليق عن الأحداث التي عاشتها تونس منذ سقوط نظام بن علي

خلال العشر سنوات الأخيرة في حياته، فضل د. عبد الوهاب بوحديبة العزلة والصمت، فلم يصدر عنه أي تصريح أو تعليق عن الأحداث التي عاشتها تونس سياسياً وثقافياً واجتماعياً منذ سقوط نظام بن علي وحتى وفاته. وفي العزلة، أصدر كتاباً مهماً بعنوان «ثقافة العطر في الإسلام». ولعله فعل ذلك ليُبرز أن هذه الثقافة كانت «تنزع نحو شفافية الكائن الذي لا بد له من جناح ثان هو الخيال إلى جانب العقل، فقد يُشفيه ذلك من تراكم التفاسير المنغلقة، والتهويمات التي ربما تقوده إلى الهوس والجنون والتطرف الأعمى».

ومن المؤكد أن د. عبد الوهاب بوحديبة غادر إلى العالم الآخر وفي قلبه لوعة، وفي نفسه وجع بعد أن عاين أن أحلام أجيال ناضلت من أجل التنوير والتحديث قد تبخرت في ظرف بضع سنوات لتغرق تونس من جديد في ظلمات التزمت والتحجر والانغلاق.


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.