الكُتابة عند الأقدمين... الكمال المستحيل

للمتصفحين حقٌ في قول كلمة وإعطاء رأيٍّ

جواد علي
جواد علي
TT

الكُتابة عند الأقدمين... الكمال المستحيل

جواد علي
جواد علي

إنَّ نقد المؤلفين والكُتاب، مِن قِبل الآخرين، عادة جارية منذ القِدم، وقد وقف عليها أصحاب الكُتب، فتوصلوا إلى حقيقة، أنه ليس مِن كتابٍ قط خرج مِن تحت يد مؤلفه مكتملاً، خالياً مِن الخطأ أو التَّصحيف، أو مِن زلةٍ في نقل المعلومة، وأعني هنا بالكتب التي تتطلب البحث والرفد بالرّوايات والأقوال، فالمؤلف الذي أنجز سبعمائة صفحة، وكتاباً بثمانين جزءاً، في طباعة اليوم، أو أقل أو أكثر، حتّى لو راجع كتابه سبعين مرة لغفل عن الخطأ، لأن النّص نصه، فيمر عليه، وفي ذهنه صورة، وقد كتب صورة أخرى، كالذي يتهجى حروف اسم ما، لكن ذهنه صورة معينة، تحتشد في ذهنه المترادفات، ولتقريب الصّورة، وهي مثال لا حصر، قد يقرأ الحروف (ب-ح-ر) «بحراً».

أمّا عن مراجعة الكتاب لـ70 مرة، ولا يخلو الكتاب مِن الخطأ، فهي مقالة إسماعيل بن يحيى المُزنيّ صاحب الإمام الشَّافعي (تـ: 364هـ): «لو عُورض كتابٌ سبعين مرة لوجد فيه خطأ، أبى الله أن يكون كتاباً صحيحاً غير كتابه» (الخطيب البغداديّ، موضح أوهام الجمع والتّفريق). فيا ترى مَنْ يقدر على التَّمام، وعلى ردّ نقد الجميع!

مصطفى جواد

أقول: مع تكرار التَّصويب أو التَّصحيح، حتَّى أكثر مِن سبعين مراجعة، سيعثر القارئ على خطأ فيه، هكذا صرح بها الأولون مِن تجربةٍ. قال الأديب والكاتب إبراهيم بن العباس الصُّوليّ (تـ:243هـ): «المتصفح للكتاب أبصرُ بمواقع الخلل فيه مِن منشئه» (أبو منصور الثّعالبيّ، الإعجاز والإيجاز). ورويت بما لا يختلف: «والمتصفح للكتاب أبصرُ بمواضع الخلل مِن مبتدي تأليفه» (ياقوت الحَمويّ، معجم الأدباء/إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب).

لأنّ المتصفح قد أتاه الكتاب جاهزاً، لم يشغل ذهنه ما فيه مِن كلمات وحروف، وروايات وأسانيد، وعمل سنة أو سنتين، أو أكثر بكثير، فالمؤرخ العراقيّ جواد عليّ (تـ: 1987) شغله تأليف «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» أربعين عاماً متواصلة، ولم يعينه فيه أحد، مِن جمع مواده إلى كتابته إلى مراجعته ثم الإشراف على طبعه (كتب معاناته في مقدمة مفصلة). لكنّ المتصفح أو النّاقد يأخذ الخطأ الوارد فيه ويجعله فتحاً مبيناً له. وإذا توهم مصطفى جواد (تـ: 1969) ونسب كتاب الحوادث الجامعة لابن الفوطيّ الحنبليّ (تـ: 723هـ)، وهو لمؤلف مجهول، لم يلتفت النّقاد أو المتصفحون إلى اعتذاره، بعد حين، فظلوا متمسكين بالخطأ، لكن اكتشافاً اكتشفه جعله يتراجع ويعترف بتوهمه.

أكثرَ الكُتاب الأقدمون بشرح معاناتهم، حتّى صاغها عمرو بن بحر الجاحظ (تـ: 250 هـ) وصايا للمؤلفين، قائلاً: «ينبغي لمن يكتب كتاباً، ألا يكتبه إلا على أنَّ النَّاس كلّهم له أعداء، وكلُّهم عالم بالأمور، وكلُّهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك حتَّى يدع كتابه غُفلاً، ولا يرضى بالرَّأي الفطير، فإن لابتداء الكتاب فتنةً وعجباً، فإذا سكنت الطَّبيعة، وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النَّفس وافرة، أعاد النَّظر فيه، فيتوقف عند فصوله، توقف من يكون وزن طمعه في السَّلامة، أنقص مِن وزن خوفه مِن العيب» (الجاحظ، كتاب الحيوان). بأشد منها أوصى إبراهيم بن سيار النَّظام المعتزليّ (تـ: 231-231هـ) لمَنْ يُصنف الكتب ويشتغل بعلمٍ ما: «العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، فأنت مِن عطائه لك البعض على خطر» (البغداديّ، تاريخ بغداد)، بمعنى أن يُكرس المؤلف كل حياته لتأليفه في العلم الذي يفقهه، فهي حرفة ليست ككل الحِرف.

عبر ما نُسب للقاضي الفاضل عبد الرّحيم بن عليّ اللَّخْميّ (تـ: 596هـ)، قاضي وأديب دولة صلاح الدّين بمصر، أو لصاحبه الكاتب العماد محمَّد بن محمَّد الأصفهانيّ (تـ: 597هـ) مِن عبارة، تعكس قلق المؤلف، بعد خروج كتابه إلى القراء، ويأخذون بتداوله، فتنهال النّقود تباعاً عليه، مِن أتراب الحِرفة، ومِن غيرهم مِن ناقدين ومتصفحين، فليس هناك ما يؤكد أيهما كتب إلى الآخر، القاضي أم الكاتب: «إنَّه قد وقع لي شيء وما أدْرِي أوقعَ لك أم لا، وها أنا أُخبركَ به، وذلك أني رأيتُ أَنَّهُ لا يَكْتُب إنسانٌ كتاباً في يومه إلّا قال في غَدِه: لو غُيِّرَ هذا لكانَ أحْسَن ولو زِيْدَ لكانَ يُسْتَحْسَن ولو قُدِّم هذا لكانَ أفْضَل، ولو ترك هذا لكانَ أجْمَل وهذا من أعظم العِبَر، وهو دليلٌ على استيلاء النَّقص على جُملة البَشَر» (حاجي خليفة، كشف الظُّنون، مقدمة المؤلف).

مَن كتب مقالاً ولم يتحمل ردود الفعل ولم يوافق على سماع نصيحة محرر جريدة أو مجلة أو رأي مغاير فيه يبقى ذلك المقال يتيماً لا يكتب غيره

يبدو أول مَن ذكرها حاجي خليفة (تـ: 1609م) بأنها للقاضي الفاضل، وخليفة متأخر كثيراً، ولا يذكر أين وجدها، لكنّها قد شاعت للكاتب العماد، مع العلم أنَّ لا كتب القاضي ولا العماد قد حوت هذه العبارة، بينما نادراً ما تجد كتاباً لم يعتذر صاحبه بها، من احتمال الخطأ، ويجعلها الغالب منهم للعماد. أمَّا مَن اعتقد أنّ أول الناقلين له هو النّهرواني (تـ: 988هـ) في «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام»، فلا وجود لها في هذا الكتاب.

غير أنَّ للجاحظ قولاً مشابهاً سابقاً، على الفاضل والعماد، كتبه إلى أحد الوجهاء: «وهل فيك شيءٌ يفوق شيئاً، أو يفوقه شيء؟ أو يُقال: لو لم يكن كذا لكان أحسن، أو لو كان كذا لكان أتم» (الجاحظ، رسالة التّربيع والتَّدوير). فهل يكون هذا القول هو الأساس في ما سارت به الرّكبان مِن عبارة؟!

أقول: مَن كتب مقالاً، ولم يتحمل ردود الفعل، ولم يوافق على سماع نصيحة محرر جريدة أو مجلة، أو رأي مغاير فيه، يبقى ذلك المقال يتيماً لا يكتب غيره، أو ما يكتبه لا قيمة له، فإذا خير الكاتب أو الباحث بين القدح والمدح، عليه قبول الأول، فهو إمَّا أن يصدر مِن محبٍ حريصٍ لا يُجامل، أو مِن حسود حقود، والاثنان يبذلان الجهد لإظهار الخلل، لكن ما لا نغفله أنّ مجال النّقد مليءٌ بالمُحَبطِين، وعلى وجه الخصوص في عالم الأدب، فعلى الكاتب أو المؤلف أن يكون صبوراً إيجابياً مع ما يسمعه مِن تشجيع وخذلان، فعليه أن يُصدق ما ذهب إليه الأقدمون، وقالوها مِن تجربة وخبرة «المتصفح أبصر بمواضع الخلل» مِن مؤلف الكتاب وكاتب المقال. فما يخرج مِن يد المؤلف لا يبقى ملكه، إنما للمتصفحين حقٌ في قول كلمة وإعطاء رأيٍّ.

لكن ذلك لا يعني كلّ مَن سود يده بالحبر كاتباً، إنما مَن كانت الكتابة عنده مأساة لا ملهاة، مِن أنماط مَن تقدم ذِكرهم، واعترفوا بنقصهم، ولو راجعوا الكتاب سبعين مرة، واعترفوا للقارئ المتصفح بفضله في كشف الخلل، وهم يعانون بالكتابة معاناة الفرزدق (تـ: 110هـ) بالشّعر، يُنقل أنه اعترف، وهو المعدود مِن متقدمي الفحول: «أنا عند النَّاس أشعر النَّاس، وربَّما مرت عليَّ ساعة، ونزع ضرس أهون عليّ مِن أنْ أقولَ بيتاً واحداً» (الجاحظ، البيان والتّبيين).


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».