تحوي جبال مدينة الحِجْر الأثرية عشرات المقابر المنحوتة في الصخر، تمثّل ذروة القيمة الآثارية لمحافظة العُلا. تعود هذه المقابر إلى مملكة العرب الأنباط التي امتدت من جنوب بلاد الشام إلى السواحل الشمالية للبحر الأحمر، وضمّت منطقة الحِجْر في منتصف القرن الأول قبل الميلاد. تتميّز مجموعة من هذه المقابر بواجهاتها المزينة بالنقوش الزخرفية، وتتفرّد إحدى هذه الواجهات بنقش تصويري لا نجد ما يشابهه في هذا الموقع الأثري، يمثّل كما يبدو لبوءتين متواجهتين.
تقع هذه الواجهة إلى الشرق من منطقة الخريمات، على مقربة من قبر كبير يُعرف بقصر البنت، وهي من الواجهات المتواضعة من حيث الحجم والبناء، وتتبع في تكوينها النسق الذي ساد في هذا البقعة من مملكة الأنباط. يحدّها عمودان مجرّدان يعلوهما تاجان بسيطان مسطحان يخلوان من أي زينة. فوق هذين العمودين، تمتدّ عارضة أفقية بارزة تعلوها سلسلة من سبعة مثلثات هرمية مدرّجة. في وسط النصف الأسفل من الواجهة، يستقر باب المقبرة المفتوح وسط عمودين مشابهين أصغر حجماً، وفوق هذين العمودين تمتد عارضة أفقية بسيطة تعلو الباب. تتحوّل هذه العارضة المسطّحة إلى أرض يابسة يسكنها حيوانان من فصيلة السنوريات يصعب تحديد صنفهما بسبب غياب ملامح رأسيهما. وسط هذين الحيوانين، تحلّ أسطوانة وردية من الصنف الذي يُعرف تقليدياً باسم الأسطوانة الأشورية في قاموس علم الآثار، وهي على شكل زهرة الربيع اللؤلوئية، وتتكوّن من ست بتلات موزعة هندسياً حول قرص دائري يشكّل وسط هذه الزهرة.
يظهر الحيوانان في صورة واحدة جامعة. نراهما متواجهين في وضعية جانبية، وهما يديران رأسيهما نحو الخلف، منتصبين بثبات على ثلاثة قوائم، رافعين القائمة الأمامية اليمنى نحو الأعلى. وتلامس هاتان القائمتان المرفوعتان الأسطوانة الوردية، كأنهّما ترفعان بها نحو الأعلى. يبلغ طول هذه الأسطوانة 40 سنتمتراً، وهي من العناصر التشكيلية التي يتكرّر حضورها على واجهات حجرات الحِجْر الجنائزية، وطول كل من الحيوانين معادل له. النسب التشريحية الخاصة بكل من البهيمتين متناسقة وصحيحة، والقالب التصويري تجريدي، ويغلب عليه طابع التحوير الهندسي الاختزالي. يظهر ذيل كل من الحيوانين بشكل لافت يتمثّل في انتصابه عمودياً، والتفاف طرفه بشكل لولبي حلزوني.
يُعيد هذا الذيل اللولبي إلى الذاكرة حضور الأسود المجنّحة التي تزيّن إفريزاً من محفوظات متحف اللوفر الفرنسي، مصدره قصر داريوس الأول في مدينة سوسة الأثرية، على بعد 140 كلم شرق نهر دجلة. شُيّد هذا القصر بين عام 522 وعام 486 قبل المسيح، وتُمثل الأسود المجنّحة التي تزيّن إفريزه شكلاً من أشكال حيوان أسطوري يجمع بين الأسد والنسر، ويُعرف بـ«الغريفين»، وقد تحدث قدماء الإغريق عن هذا الحيوان المهيب الذي امتلك قوة ملك الوحوش وقوة ملك الطيور، ونقلوا روايات تقول إنه كان يبني عشه من الذهب الذي كان يحمله من أعالي قمم الجبال إلى الأرض، كما جعلوا منه حارساً للكنوز والممتلكات التي لا تقدّر بثمن.
تبدو لبوءتا الحِجْر أشبه بحيوانين من الغريفين ظهرا هنا مجرّدين من أجنحتهما، ويبدو حضورهما استثنائياً في هذه البقعة
فنيّاً، ظهر «الغريفين» أوّلاً خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد في بلاد عيلام التي تقع جنوب غرب الهضبة الإيرانية، واتّخذ أشكالاً متعددة في هذا العالم الذي مثّل حضارة ما قبل إيرانية قديمة، توسّعت في الشرق الأدنى القديم، وعُرفت باسم سوزيانا، نسبة إلى عاصمتها سوسة. بعدها، دخل «الغريفين» العالم الإغريقي الواسع، واتخذ صورة حيوان له جسم أسد ورأس وجناحَا نسر، وانتشرت هذه الصورة انتشاراً واسعاً في مجمل الميادين الفنية. في المقابل، برز هذا الحيوان الأسطوري في الإمبراطورية الفرثية التي نشأت في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد في مقاطعة بارثيا، جنوب شرق بحر قزوين في آسيا، وامتدّت في أوجها من الروافد الشمالية للفرات في وسط تركيا، إلى شرق إيران.
تحوّلت صورة «الغريفين» إلى صورة عابرة للثقافات، شرقاً وغرباً، وتكرّر مشهد يجمع حيوانين متواجهين من هذا النوع الغرائبي، يرفع كل منهما إحدى قائمتيه الأماميتين في اتجاه إناء كبير يفصل بينهما. شواهد هذا النموذج لا تُحصى، منها نقش روماني من القرن الأول قبل الميلاد محفوظ في متحف أورانج الأثري في جنوب شرق فرنسا، ونقش فرثي من القرن الثاني للميلاد محفوظ في متحف متروبوليتان في نيويورك، مصدره إيوان مملكة الحضر، في السهل الشمالي الغربي من وادي الرافدين. كذلك تكرّر مشهد «الغريفين» الذي يرفع قائمته الأمامية وهو يدير رأسه إلى الخلف، والشواهد عديدة، منها قطعة ذهبية محفوظة في متحف جامعة شيكاغو تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، تختزل المثال الذي شاع في ظل الإمبراطورية الفارسية الأولى التي عُرفت باسم الإمبراطورية الأخمينية.
في سنة 1909، قاد العالمان الفرنسيان أنطونان جوسين ورفائيل سافينياك حملة استكشاف واسعة في الحِجْر، وتوقّفا أمام واجهة القبر الذي يحرسه حيوانان من فصيلة السنوريات، وبدا لهما أن جسمي هذين الحيوانين يمثّلان جسم لبوءة، أما رأساهما فأميل إلى رأس كلب ضاعت ملامحه. في الواقع، تتشابه هذه الصورة المنقوشة في تأليفها مع الصور التي تجمع بين حيوانين من «الغريفين» يفصل بينهما إناء، وفقاً للنسق الذي يتبناه نقش إيوان الحضر. في نقش الحِجْر، تحل الأسطوانة الوردية الأشورية في الوسط، بدل الإناء الكلاسيكي التقليدي الذي يظهر في وسط نقش الحضر. ويظهر الحيوانان وهما يديران رأسيهما إلى الخلف تبعاً للمثال الذي يختزله متحف جامعة شيكاغو.
في الخلاصة، تبدو لبوءتا الحِجْر أشبه بحيوانين من «الغريفين» ظهرا هنا مجرّدين من أجنحتهما، ويبدو حضورهما استثنائياً في هذه البقعة، وهذا الحضور يجعل زخارف واجهة القبر الذي يحرسانه «تختلف عما هو مألوف في هذا الموقع»، كما تقول البطاقة التعريفية الخاصة بهذا القبر في هذا الموقع الأثري السياحي.