كويت الثقافة: من «العربي» إلى الوطن العربي

كنتُ في الثالثة الإعدادية على ما أذكر حين وقع بين يدي ذلك العدد من مجلة «العربي». كنتُ في مدينة سكاكا بمنطقة الجوف شمال السعودية، في مكتبة عامة رائدة، أظنها الأولى من نوعها. ومن المؤكد أنها من أولى المكتبات العامة التي تُفتح لعامة القراء على مستوى المملكة. كان ذلك في أواخر السبعينات من القرن الماضي، حين افتتح المكتبة أمير المنطقة آنذاك، عبد الرحمن السديري (رحمه الله)، وكانت أعداد «العربي» من أبرز مقتنيات المكتبة. شاهدتُ كتاب «الأغاني» للمرة الأولى ومعاجم وكتباً أخرى كثيرة، لكن «العربي» شدتني بصورها وألوانها، ووقعت عيني أثناء التصفح على مقالة للكاتب السوري وليد إخلاصي على ما أذكر تناولت «شعراء البحيرة»، وهم الشعراء الإنجليز الذين عاشوا في منطقة البحيرات شمال غربي لندن، واشتهروا بالرومانسيين في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر: وردزورث، كوليرج، وسذي. شدتني ترجمة لإحدى قصائد وردزورث عنوانها «نحن سبعة». علقت بذهني، ثم استبطنتها فيما يبدو، لتعاود الظهور بعد سنوات وأنا أقف حائراً أمام خياري التخصص الجامعي الممكنين بالنسبة لي: اللغة العربية أو الإنجليزية، أدب لغتي أم أدب لغة الأجانب. اخترت الأخير معتقداً أن أدب لغتي سيكون ميسوراً بحكم الانتماء، فكان ما كان وتابعت الدراسة حتى عدت لأدرّس للطلاب وردزورث وكوليرج وغيرهما، وأن أختار باستمرار قصيدة قرأت ترجمتها قبل سنوات في مجلة «العربي»؛ قصيدة «نحن سبعة» لوردزورث.

كانت «العربي» منعطفاً في مطلع ذلك التبلور لاهتمام وحقل تخصص استمرّا حتى اليوم.

ومع «العربي» كانت الكويت التي ثقَّفت مجلتها الرائدة ملايين الشبان والشابات العرب وغيرهم من مختلف الأعمار والاهتمامات. علمت فيما بعد أن للكويت إضافات أخرى كثيرة تتجاوز المجلة العتيدة إلى إنجازات كبرى في تاريخ الثقافة العربية. عرفت أن هناك سلسلة عظيمة، هي «عالم المعرفة»، وأن هناك مجلة فصلية مهمة هي «عالم الفكر» وأن هناك وهناك الكثير غير ذلك. ولم تنقطع الصلة بالكويت منذ الثمانينات لتتوثق أكثر بعد تحرُّر ذلك البلد العربي في التسعينات، وتتواصل حتى يومنا هذا؛ يومنا الذي عدت فيه أحمل امتناناً عميقاً لأهلي وبلدي الثاني حين حللت ضيفاً على «معرض الكويت الدولي للكتاب» بصفتي ضيف المعرض، أو شخصية المعرض، كما جرت التسمية.

شعرت بتواصل المدينية، ليس تواصلها فحسب بل وتعمق الإحساس بها، بما أدين به لبلد تعلمتُ من منتجه الثقافي الكبير، وعاد ليكرمني بما أرجو أن أكون أهلاً له من التكريم والاحتفاء غير المستغرَب، وإن جاء مفاجأة لي.

في إحدى أجمل قصائد الشاعر الإنجليزي الذي ذكرته قبل قليل، وردزورث، وهي المعروفة بـ«تنترن آبي»، إشارة إلى موضوعها، وهو المكان الذي زاره الشاعر في الأعوام الأخيرة من القرن الثامن عشر، يؤكد الشاعر أن زيارة سابقة له لذلك المكان الغارق في جمال الطبيعة تركت أثراً عميقاً في نفسه؛ ليس على مستوى الإحساس الجمالي أو المتعة وإنما، وهنا يبرز جانب أعمق من المذهب الرومانسي، على مستوى روحاني، مستوى الأخلاق والسلوك.

يقول إن الطبيعة التي غادرها آنذاك لم تتركه، وإنما ظلَّت تحيطه برعايتها؛ إذ تتمظهر في صور من السلوك الإنساني الجميل والبسيط: تحية صباحية، مساعدة شخص على عبور الطريق، جعلته الطبيعة التي ترسخت في ذاكرته، أو لا وعيه، كما سيقول فرويد، إنساناً أفضل وأكثر حباً للخير، كما تفعل الصلاة بالنسبة للمؤمن، أو كما يُفترض. ثم يضيف وردزورث أنه يتوقع أن زيارته الحالية ستكون استزادة من تلك الخيرات الطبيعية التي ستواصل الارتقاء به حين تمده بالمزيد من الطيبة والنقاء إلى جانب الإحساس بالجمال.

أستعيد قصيدة وردزورث لأني أجدها على صلة بزياراتي المتكررة لبلد طالما أمدَّني بغزير عطائه؛ ليس الثقافي فحسب، وإنما الإنساني أيضاً، وأظن أن تجربتي ليست غريبة على كثيرين؛ فكثيرون هم الكتّاب المثقفون والعلماء والأدباء الذين مروا على الكويت عاملين في مؤسساتها أو مشاركين في مناشطها العديدة، مثلما أنهم كثيرون، بل أكثر بكثير، أولئك الذين لم يمروا بالكويت، وإنما مرَّت بهم هي في صورة مجلة أو كتاب أو أثر آخر. من بدر شاكر السياب إلى أحمد زكي، أول رئيس تحرير لمجلة «العربي»، إلى فؤاد زكريا، إلى زكي طليمات، إلى عبد الوهاب المسيري، إلى جابر عصفور، إلى فهمي جدعان وغيرهم، فضلاً عن الشعراء والروائيين والمسرحيين الكثر الذين عرفتهم ندواتها ومؤتمراتها وقاعات محاضراتها، تمتد القائمة وتطول، ومع القائمة تشمخ المؤسسات وتتعدد صور العطاء والتكريم. جاء كثيرون إلى الكويت ليجدوا أنهم في بيئة كويتية غنية مسبقاً بالفكر والعلم والأدب والفنون؛ إذ تمثل ذلك في الرواد مثل صقر الشبيب وفهد العسكر وخالد الفرج، امتداداً إلى أحمد مشاري العدواني وخالد سعود الزيد وحمد الرجيب، وصولاً إلى محمد الرميحي وسليمان العسكري وإسماعيل فهد إسماعيل وأحمد الربعي وسعد الفرج وسعدية مفرح ومحمد الجسار وعائشة المحمود وطالب الرفاعي وليلى العثمان وخليفة الوقيان ودخيل الخليفة وسعود السنعوسي وعبد الله البصيص وبثينة العيسى وغيرهم كثير وكثير ممن يجب ألا ينساهم أحد، لكن المساحة تضيق. كل أولئك وغيرهم شاركوا ويشاركون في صياغة الناتج الفكري والإبداعي العربي باقتدار لتغتني بعطائهم أجيال ممن كانوا مثلي ذات يوم يتصفحون مجلة أو يقرأون كتاباً أو يتابعون محاضرة أو ندوة أو يشاهدون مسرحية.

نمر بالأماكن ونتذكرها أملاً في أن تتذكرنا هي، وإن سهل أن تنسانا فليس من السهل أن ننساها. من هنا كان مروري بالكويت ومرورها بي وئيداً وعميقاً، الكويت التي لم تنسني وأنا أغالب الزمن لاستبقاء كثير من مشاهد مروري بها ملحّاً عليها أن تبقى، وقد بقي فعلاً كثير من الكثير. بقي كثير من «مهرجان القرين الثقافي» ومن مؤتمرات «مجلة العربي» و«المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» ومن محاضرات «رابطة الأدباء»، وهو يتجدد اليوم عبر النشر في دور مثل «كلمات» التي انطلقت من الكويت لتنتشر في أرجاء الجزيرة العربية ساعية لتخطي الحدود ومعانقة العالم. تلك الدور وأولئك الأشخاص يجسدون أو يذكّرون بالدور التاريخي الذي لعبته الكويت على مدى يزيد على النصف قرن في نشر المعرفة والإبداع في أرجاء الوطن العربي؛ سواء في الإرسال أو الاستقبال.

في «معرض الكتاب» ذكرتني شاعرة الكويت الكبيرة سعدية مفرح أنه بهذا العام (2023) تكون قد مرت 30 عاماً منذ زرت الكويت بعد تحررها من الاحتلال، بعد عودتها وطناً آمناً ومزدهراً لأهلها وللعرب، حين شاركت في ندوة أقامتها رابطة الأدباء. 30 مرَّت وها هي الكويت وقد عاودت ممارسة دورها التاريخي في النهوض العربي. في معرض الكتاب لهذا العام رأيت تلك الممارسة تتبلور أكثر من أي عام مضى، وقد رأيت القائمين على المؤسسات الثقافية المختلفة، في «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» وفي «المكتبة الوطنية»، يسعون سعياً حثيثاً لتعزيز هذه المسيرة المباركة لا لكي تستعيد الكويت نشاطها السابق، بل لكي تصعد إلى ما هو أعلى منه.

عرس الكتاب في «معرض الرباط»

قبل الدخول إليه تستقبلك حدائق الحسن الثاني الغنّاء الفسيحة الأرجاء. إنها من أجمل الحدائق والبساتين…