«نورس هامبورغ»... سرد دائري يجد القارئ نفسه عند نهايته قد عاد إلى البداية

يبرز السعودي الوصالي في روايته الأخيرة سارداً عليماً يتجاوز دوره وسيطاً

«نورس هامبورغ»... سرد دائري يجد القارئ نفسه عند نهايته قد عاد إلى البداية
TT

«نورس هامبورغ»... سرد دائري يجد القارئ نفسه عند نهايته قد عاد إلى البداية

«نورس هامبورغ»... سرد دائري يجد القارئ نفسه عند نهايته قد عاد إلى البداية

تزعم هذه المقالة أنها ليست مقاربة تحليلية للتقنية السردية في رواية «نورس هامبورغ» للروائي والقاص السعودي عبد الله الوصالي، فقط، ولكن تتطرق أيضاً إلى الصعوبة التي اصطدمتُ بها قبل وفي بداية كتابتها. الحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها هي أنني دائماً أواجه صعوبة في الكتابة عن أي نص أدبي؛ ويغدو الأمر أشدَّ صعوبةً وتعقيداً عندما يتجلى النص إضمامة من مواضيع يستحق كل منها الكتابة عنه. وفي كل الحالات، لا يكون الاختيار سهلاً، خصوصاً عندما تتساوى وتتقارب تلك المواضيع، أو تكاد، في الأهمية والجاذبية. هذا ما حدث أثناء تفكيري في الكتابة عن الرواية «نورس هامبورغ».

راودتني في البداية فكرة مناقشة العلاقات العاطفية والجنسية للشخصية الرئيسية في الرواية «يزيد»، لاستقراء واستجلاء بواعثها ودلالاتها، وما تلقيه من تأثيرات على علاقاته بمن حوله، وكذلك تأثير المرأتين «طيف» و«عذاري» عليه ودورهما في التغير في شخصيته الذي يلمسه القارئ في نهاية الرواية.

اختار «الروائي الوصالي»، أو «الوصالي الضمني»، أن يقدم في روايته «زير نساء»، أو ما يسمي في الإنجليزية «ladykiller» (حرفياً، قاتل السيدات) شخصية «يزيد» صاحب العلاقات المتكررة والقصيرة، التي ينهيها بطريقة خاصة حالما يشعر ببلوغه الارتواء العاطفي والجنسي؛ ارتواء عابر وقصير الأمد مثل كل علاقاته، لينخرط بعد ذلك في البحث عن امرأة أخرى يُخْمِدُ الرغبة دائمة التجدد والتدفق في شرايينه. هذا ملخص قصة «يزيد» من البداية إلى ما قبل النهاية.

فكرتُ جدياً في الكتابة عن هذا الموضوع إلى حد أنني صغت على سبيل الدعابة عنوانا مؤقتاً: «إغواءات نساء يزيد (الوصالي) في رواية (نورس هامبورغ)» لمقالة لم أشرع في كتابتها. لسبب غامض لم أشعر بالندم لمّا تلاشى هذا الموضوع من شاشة ذهني بطريقة «الفيد أوت»، لتحل محله ثيمة الغياب، غياب الأم والأب في حياة يزيد. موضوع هو، في رأيي، أشد إثارة وإغراء للكتابة عنه من الموضوع السابق، ومن المحتمل أن تأخذني مقاربته ومناقشته في مسار يجعلهما تتقاطعان مع موضوع «إغواءات نساء يزيد...» فربما يتكشف خلال معالجة هذا الموضوع أن حياة يزيد العبثية وعزلته واغترابه عمن حوله وانغماسه في الملذات لإسكات ضجيج غرائزه هي من نتائج غياب والديه في حياته، الأب بسبب اغتياله المبكر في بيروت إبان الحرب الأهلية حيث كان يعمل سكرتيراً أول في السفارة السعودية، والأم اللبنانية المسيحية لسفرها مُكرهةً لتنضم إلى أهلها في فرنسا، بعد تعذر استمرارها في الإقامة والعيش مع أسرة زوجها في مدينة الخبر.

ومثل سابقها، غابت ثيمة الغياب؛ لم تصمد أمام تقدم الفكرة التي كانت الأولى ولكن أشحت بتفكيري عنها، باحثاً عن غيرها، بيد أن غيرها الذي عثرت عليه سرعان ما تلاشى أيضاً أمام إصرارها على استرداد أولويتها المفقودة وموقعها في بؤرة تفكيري واهتمامي. تحليل التقنية السردية في «نورس هامبورغ» كان الفكرة الأولى؛ أي تحليل الخطاب السردي، فما التقنية السردية سوى الأداة أو الأدوات التي يتشكل بها الخطاب، أو يشاد بها المبنى الحكائي في أي نص سردي. والتقنية بأبسط تعريف هي الراوي/ السارد، أو مجموعة السُرّاد. وفي «نورس همبورغ» أكثر من سارد كما سيتضح خلال التحليل، وإن كان صوت السارد العليم هو الطاغي، ولكن وجود أصوات أخرى يحد من طغيانه/ سلطته، فثمة من يشاركه ولو بشكل بسيط في نسج الخطاب، وحتى سرد السارد العليم نفسه يختلف من موقف سردي إلى آخر.

يبدأ الخطاب السردي (الفصل الأول) من قبل نهاية القصة/ الحكاية، أي أن السرد يأخذ مساراً دائرياً يجد القارئ نفسه عند نهايته وقد عاد إلى البداية. يتجلى خلال قراءة استهلالية الخطاب حرص المؤلف الضمني على شد انتباه القارئ، والإمساك به من اللحظة الأولى، من الجملة الأولى: «من مكانه في فرندة الدور الثاني كان ينتظر، في أي لحظة، وميض أضواء مصابيح عربة الإسعاف الخاطفة، فقد انقضت العشرون دقيقة التي أخبرته عذاري أنها الزمن الذي ستستغرقه العربة من مكان انطلاقها» (ص9).

جملة واحدة قمينة بإثارة أسئلة عدة في ذهن القارئ، وبأن تُولِّد فيه التوتر والفضول للمعرفة، معرفة ذلك الشخص المجهول الذي ينتظر في الفرندة، وفي أي مدينة، وسبب انتظاره سيارة الإسعاف، ومن الشخص الذي ستأتي السيارة لتأخذه أو تحضره، ومن «عذاري» التي أخبرته عن الزمن الذي ستستغرقه السيارة للوصول إليه من مكانها. هذه الأسئلة وأسئلة أخرى قد تثيرها الجملة الأولى لا سبيل إلى الإجابات عنها سوى بالتقدم في القراءة، وهذا ما يهدف إليه الوصالي الضمني مصمم هذه الجملة الاستهلالية والمبنى الحكائي كله.

تدريجياً تتكشف المعلومات/ الأجوبة وينجلي الغموض الذي غُلِّفَتْ به البداية، ويظل اسم وهوية الشخص المنتظر في فرندة الدور الثاني مجهولين إلى ما قبل نهاية الفصل، حيث يرد اسمه على لسان «عذاري» المجهولة في البداية وهي تقدمه لصديقتها «طيف». لكن «طيف» ذاتها تهمس بعبارة هي لغز أيضاً لا بد أن يثير التساؤل عن علاقة «نورس... أيها الوغد!» بيزيد.

يبدأ الفصل بجملة تثير الأسئلة في القارئ، وينتهي بلغز يخفي السارد جوابه تواطؤاً ضد القارئ، الذي لا بد له من الانتظار إلى لحظة انكشاف قصة ما همست به «طيف»؛ إحدى ضحايا يزيد كان قد تعرف عليها عبر تطبيق المواعيد، الذي يخفي نفسه فيه وراء الاسم المستعار «نورس هامبورغ».

يظهر السارد العليم في الفصل الأول قريباً من يزيد، المبئر لمعظم ما يحتويه الفصل، والموقف السردي فيه يختلف عن الموقف السردي في الفصل الثاني الذي يشكل الاسم «يزيد» قنطرةً للانتقال إليه: «تنحدر أسرة يزيد...» (ص17). يتحرر السارد العليم، في الفصل الثاني، من ارتباطه بيزيد الذي يحدد كونه مبئراً اتجاه ومسار السرد وما يُسرد، فيبدأ السارد بسرد ما لا يعرفه يزيد، أو حتى لا يكترث بمعرفته مثل تاريخ أسرته وأصولها: «تنحدر أسرة يزيد الكبيرة من هضبة نجد في وسط شبه الجزيرة العربية. أسرة سكنت ساحل المنطقة الشرقية منذ أمد بعيد» (ص17). ويتخطى السارد حدود السرد إلى امتياز آخر من امتيازاته، ليعلق على إصرار أفراد أسرة يزيد، القادمة من نجد، على التمسك بقدر من التعصب بتقاليدهم، وحتى لهجتهم، في سعيهم إلى تأكيد تميزهم واختلافهم عن سكان المنطقة. يقول السارد معلقاً ومبدياً رأيه: «كان ثمة أمر اجتماعي يسند ادعاءها ذاك فهي تنتمي للمنطقة التي منها الأسرة المالكة، وربما تطرف بعض أفرادها بالادعاء بصلة نسب مع الدماء الملكية» (ص17).

في «نورس همبورغ» أكثر من سارد، وإن كان صوت السارد العليم هو الطاغي، ولكن وجود أصوات أخرى يحد من طغيانه

يوظف الوصالي الضمني في «نورس هامبورغ» سارداً عليماً يتجاوز دوره وسيطاً إلى التعليق على ما يسرد وإبداء آرائه وإطلاق تعميماته. سارد ذو ثقافة واسعة ومعرفة غير محدودة، لا يتردد في عرض معرفته أو الاستعراض بها. سارد من النوع المتدخل، الذي لا يحاول التخفي، ويظهر جلياً، مثلاً، عندما ينهمر بالكلام بمباشرة وتقريرية عن الوضع في الخليج بعد اكتشاف النفط: «منذ اكتُشف فيه ذلك المخزون الهائل من النفط، يعيش الخليج ومدنه ازدواجية مرهقة بين الحداثة المصاحبة لصناعة النفط وبين قيم تقليدية محافظة متجذرة...» (ص31)، أو عندما يتحدث عن رفع الحظر عن قيادة المرأة للسيارة: «أمر تأخر كثيراً حتى شعرت النساء أنه لن يأتي أبداً. كان لا بد من قرار ملكي يحسم الجدل الاجتماعي الذي طال في ذلك الأمر وبات يتسبب في حرج كبير للدولة بقدر ما يسبب أذى للفتيات وهدراً لموارد الأسر المالية» (55)، أو عندما يتحدث عن الحرب الأهلية في لبنان.

يشعر القارئ أثناء قراءة تلك الفقرات والمقاطع كأن السارد يقرأ في مقالة أو كتاب، في لحظات يصل فيها عرضه لمعرفته ذروته، كما يسهم في إبطاء إيقاع السرد مثلما يحدث عند توقفه وتدخله للتعليق. لكن فيما يبدو محاولة للحد من انفراد وهيمنة السارد العليم على الخطاب السردي، ولغاية تحقيق التعددية الصوتية في السرد كما يبدو، يدفع الوصالي الضمني السارد العليم للانزواء جانباً، في مواضع معينة، ليتولى السرد بعض الشخصيات مثل أم يزيد غريس بطرسيان التي يأتي سردها في شكل رسالة إلكترونية من فرنسا، تروي فيها تفاصيل علاقتها بأبيه سليمان وزواجهما، وقصة مقتله في بيروت، كما يكون لـ«طيف» نصيبها من السرد، لغاية أن ترتق هذه الأصوات الثغرات في سرد السارد العليم، ولتتقاسم بذلك ولو جزءاً صغيراً من السُلطة السردية. يجمع بين سرد المرأتين، غريس وطيف، تحول يزيد إلى مسرود له، يقرأ ما كتبته أمه، ويستمع لـ«طيف» وهي تحكي قصة حياتها وحكايتها معه وتحذيرها إياه من التلاعب والتغرير بقريبتها «عذاري».


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.