تجليات الطبيعة في الرواية العربية

لم يتفق النقاد بسبب حداثة المصطلح على مفهوم باتّ ونهائي للنقد الإيكولوجي

تجليات الطبيعة في الرواية العربية
TT

تجليات الطبيعة في الرواية العربية

تجليات الطبيعة في الرواية العربية

يشير الباحث الدكتور محمد عبد الله سرحان في كتابه «الرواية العربية - دراسة نقدية إيكولوجية» إلى أن المقصود بالنقد «الإيكولوجي» هو ذلك النقد الذي يركز على النص الأدبي الذي يصور الطبيعة في حركتها وتأثيرها النفسي الإيجابي أو السلبي على البشر، وذلك من خلال تناول عناصر بيئية «طبيعية» من صنع الخالق، كالبحر والشمس والليل والقمر والصحراء وغيرها، أو عناصر بيئية «مكانية» من صنع البشر كالمنازل والأمكنة المختلفة.

وظهرت «الإيكولوجيا» بوصفها فرعاً علمياً من البيولوجيا في أواخر القرن التاسع عشر حيث يعبِّر مفهوم «إيكولوجي» عن العلاقة بين الكائن الحي والبيئة. وأصبح النقد «الإيكولوجي» اتجاهاً رئيساً في الدراسات الأدبية والثقافية بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ولم يتفق النقاد بسبب حداثة المصطلح على مفهوم باتّ ونهائي للنقد الإيكولوجي لكنه في مضمونه يشير إلى عقد ترابطات نصية وخطابية بين الأدب والطبيعة والأرض والمكان والبيئة في ضوء قراءات متنوعة قد تكون ثقافية أو تفكيكية أو تأويلية أو نفسية أو اجتماعية أو تاريخية أو جمالية أو تخييلية.

أرض النفاق

ويورد المؤلف في كتابه الصادر عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» بعض نماذج الرواية العربية التي تناولت تجليات الطبيعة ومفردات البيئة. ومن تلك الأعمال رواية «أرض النفاق» للكاتب المصري يوسف السباعي (1917 - 1978) حيث يتضمن العنوان أحد المكونات البيئة الطبيعية الأساسية، وهي الأرض التي يأمل الإنسان منها دائماً أن تُخرِج له الخير المتمثل في الزرع والثمار والماء العذب وما تكتنزه بطونها من معادن ونفائس. ولكن يصدمنا الكاتب بتغير الأرض إلى النقيض، حيث لا يخرج منها إلا النفاق الذي يمثل كل نقيصة في السلوك الإنساني. وتذهب الرواية إلى أن الأزمة الأخلاقية المتمثلة في غياب الصدق والوضوح وهيمنة الرياء والأكاذيب أدَّت إلى وجود أزمة بيئية حادة تتجسد في تلوث مياه نهر النيل حيث أصبح النفاق خطراً يهدد الطبيعة ولا يكتفي بتلويث الأرواح.

وفي رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للكاتب السوداني الطيب صالح (1929 – 2009) تلعب الطبيعة دوراً مهيمناً على المستويات البيئية والنفسية. يعود الراوي في مستهل العمل إلى قريته التي تقع عند منحنى النيل بعد غيبة 7 أعوام قضاها في أوروبا. ورغم مظاهر الحياة الأوروبية، وما تمتاز به من مغريات مادية فإن الراوي دائم الحنين إلى قريته الصغيرة ذات المكانة الكبيرة في قلبه. ويصف الراوي دفء المشاعر في قريته وتأثيرها عليه؛ فقد أذابت الثلوج من حوله وفي داخله، تلك الثلوج التي تحيط بأوروبا وتجعل مشاعر أهلها كأنها قالب من ثلج لا حرارة فيه.

يعود الراوي إلى مكانه الأثير عند جذع شجرة الطلح على ضفة النهر التي قضى عندها أوقاتاً طويلة في طفولته. إنه يجلس تحت ظلها وينظر إلى النهر المارّ أمامه في وداعة وهدوء، يمسك بقطع من الحجارة الصغيرة ويرمي بها في النهر ويشرد بخياله في الأفق البعيد المنبسط أمامه.

يستعير بطل الرواية من الطبيعة عنصر الماء، ذلك العنصر الحيوي اللازم لاستمرار وبقاء الحياة، حيث يجعل وجه أمه مثل صفحة الماء بصفائه وغموضه في الوقت نفسه، فالأم تحملت مسؤولية وليدها بوعي وفهم ممتزج بالكبرياء بعد موت زوجها، مما جعل تعابير وجهها غامضة لمن يراها، وكذلك النهر يجري في كبرياء.

تلعب الطبيعة دوراً مهيمناً على المستويات البيئية والنفسية في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للكاتب السوداني الطيب صالح

سردية الشمس

وتبدأ رواية «بيروت 75» للكاتبة السورية غادة السمان بداية إيكولوجية بمفردة من مفردات الطبيعية وهي الشمس. إنها ملتهبة شرسة تلقي أشعتها الحارة على الشاب «فرح» المرتحل من وطنه سوريا إلى لبنان، حيث الحلم والشهرة والثروة، لتكشف عما بداخله من نزعات ورغبات مكبوتة وتعرية أمام نفسه. وكما يتجنب «فرح» الشمس، فهو أيضاً يتجنب تلك الفتاة الجالسة بجواره رغم جمالها وفتنتها. إنها مثل الشمس يخشى أن تحاول النفاذ إلى أعماقه أو اجتذابه إلى هدف بعيد عن غايته. أما «ياسمينة» بتلقائيتها وحبها للحياة ووضوح سريرتها فتبدو على النقيض في موقفها من الشمس: «الشمس! كم هي حارة وممتعة. إنها تزيدني التهاباً وشوقاً للرحيل. أحب لسعها فوق وجهي!».

وتصف الكاتبة الطريق من دمشق إلى بيروت والسيارة تغادر المدينة وتمضي في طريق الربوة والهامة، قبل أن تخلف الصخرة الشاهقة على مدخل دمشق. لقد ترك الراحلون «الربوة - الهامة - الصخرة الشاهقة»، وهي مفردات تدل على الرفعة وعلو الشأن، كما تدل الصخرة على الثبات والرسوخ في الأرض، في إشارة إلى القيم الرائعة التي تركها المرتحلون وراءهم ثم سيتنبهون إلى أهميتها بعد فوات الأوان، ويندمون حين لا ينفع الندم.

أما ياسمينة، فتشعر بأنها «غابة برية» تهزها الموسيقى، مثلما تهز الرياح مفردات الغابة. تحرك مشاعرها البريئة ورغباتها المكبوتة في آن واحد. تقول الكاتبة: «تشعر ياسمينة بأنها غابة والموسيقى رياح تتخللها وتهز أشجارها وأغصانها وتطلق صياح عصافيرها وتوقظ ثعابينها. أما قلبها فقد تحول لطائر جائع للتحليق والطيران في الأفق الممتد؛ طائر يريد أن يبتعد عن وطأة التقاليد والقيود، طائر جائع ونهم يريد أن ينهل ويغترف من الجمال الذي يسبح فيه».


مقالات ذات صلة

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

ثقافة وفنون سانت إكزوبيري

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون «اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)

أم كلثوم وإديث بياف تحت مظلة الشعر

أم كلثوم وإديث بياف تحت مظلة الشعر
TT

أم كلثوم وإديث بياف تحت مظلة الشعر

أم كلثوم وإديث بياف تحت مظلة الشعر

يستحضر الشاعر محمود سيف الدين صورة المغنية الفرنسية إديث بياف، ويسمي بها ديوانه «مرآة جديدة لإديت بياف»، وفي ظلال هذه الصورة المراوغة يتكثف فضاء الشجن والحزن في الديوان، بخاصة أن الحزن كان سمة لافتة في مسيرة هذه الفنانة التي تقلبت ما بين الفقر والتشرّد حتى تربعت على عرش الشهرة والمجد، ولقبت بأيقونة الغناء الفرنسي في ستينيات القرن الماضي، وحفزت أغنياتها روح المقاومة للاحتلال الألماني لبلادها إبان الحرب العالمية الثانية، وبالتوازي يستحضر عبر فصله الثاني «في حب الكوكب» صورة كوكب الشرق أم كلثوم، التي تربعت على عرش الغناء العربي أيضاً، ويتناص مع أغانيها في نسيج أغلب القصائد.

تحضر إديث بياف عبر نص وحيد في الديوان، وفي واقع مضطرب يختلط فيه الحزن بعبثية الحياة، بينما تمرح الذات الشاعرة بطفولة في أجواء أغاني أم كلثوم، وتكاد ترقص على إيقاعها، كأن ثمة فجوةً بين الصوتين، لم تنشغل بها الذات الشاعرة، أو تستثمرها شعرياً، في شكل حوار بينهما، الذي تعززه وتحيل إليه ظروف النشأة والروافد المتشابهة بينهما في الكفاح من أجل الفن، علماً بأن بياف أطلق عليها أحد الكتاب الفرنسيين «أم كلثوم فرنسا».

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل أراد الشاعر من وراء ذلك أن يحرر الصورتين معاً من محنة الإطار، ويجعل الغناء بمحمولاته الرمزية المغوية يسبح في هواء الديوان والحياة، تاركاً له حرية تشكيل العلاقة مع صورتيهما، ومع صور أخرى لأغانٍ شهيرة في أفلام سينمائية كلاسيكية يتناص معها الديوان، كأنها روح لحكاية ما، معلقة في فضاء الغرابة التي تشيع دلالتها في أجواء الديوان بطرائق فنية متنوعة تبرز على نحو لافت في بنية الصورة وإيقاع المشهد المسكون دائماً بفعل التذكر والحنين للماضي. فتحت مظلة الغرابة التي تتأرجح بثقلها وخفتها، ما بين الظن واليقين، يتكشف الشعر لنفسه، وتتخفف الأنا اللاهثة بين ضميري المتكلم والمخاطب، من شوائب الاستطراد والتبرير، وتصبح الغرابة مرآة خاصة للذات، ومفتاحاً لطرق أبواب العالم المسكون بها، ما يمنح المشهد الشعري حيوية لافتة في النظر إلى الطبيعة والتعامل مع العناصر والأشياء بإيقاعها اليومي الرتيب المباغت... يطالعنا هذا في نص «مرآة جديدة لإديث بياف»، الذي يمهد له الشاعر بنص يسبقه بعنوان «ضوء مبهم في الكراس» يلعب فيه على وتر الطفولة القصية ومحنة الحلم الدائم بها، فيما يأتي نص «بياف» لطشةً مأساويةً ومرثيةً لمشهد كأنه الأخير على مسرح الحياة... يقول النص الذي وسم عنوان الديوان:

لأنَّ يَدَ الرَّبيعِ مَغلُولةٌ إلى عُنقِهِ

الأيامُ البذيئة تمرُّ من الفتنةِ إلىَ الهَمَجِيَّةِ

وَالأغْنِيَةُ تَنهَارُ بَينَ يَديْنا فِي شِتَاءٍ مَا

المُسعِفُونَ دَائماً فِي الطَّريِقِ

لكنَّهُم لا يَصِلُوُنَ

قلبَانِ فِي نَحِيبٍ يَختَلِطُ مَعَ المطر

هَمْسٌ نَاءٍ وبكاءٌ نَحِيلٌ

وَقتٌ يتقلّصُ

حَيثُمَا نَذهَبُ هُنَاكَ طَوقٌ لأَلعَابِ الهَوَاءِ المَجنُونَةِ

ونَحنُ حَللنَا بهَيئَةٍ تَلعَبُ عَلَى صَخرَةِ اللوْنِ

مُوسِيقَى أخرَى

الأيَّامُ التِي لا نَعرِفُ سِوَاهَا

تُشبهُ فرصةً أخيرةً للوقوفِ على المَسرَحِ.

الحَياةُ ورديّةٌ في الزِّحَامِ المُتلاشْ

الطبيعةُ لا تكفُّ عن الثرثرةِ

الفوضى جُرحٌ هادئٌ في القلبِ

أوَدُّ لو أبصقُ قلبي مرةً

صرخة مُجَرَّدَة

كأنَّ المَدِينةَ ربّةُ الحَربِ

سهمٌ في قبضةٍ هُلامِيَّةٍ

لمَاذا إذن..

نَعتَنِي بالشَّمسِ البَعِيدَةِ عنْ أطرافِ أصَابِعِنَا

عَجينةُ الحبِّ نحنُ والشوارعُ تخبزُ عُيونَنَا

الحبُ الذي نجهلُ ضيَّعَنا

لم يُكلِّف خَاطِراً واحِداً للمُخَاطَرةِ

انْحِنَاءَةُ الطريقِ كاسْتِوَائِهَا

المُجونُ والظُّنونُ

إنها الأرضُ التِي نَظَرَتْ فِي مِرآتِهَا طَوِيل

وشَاهَدتْ فِي كلِّ مرةٍ

شبحاً جميلاً لإديث بياف

عيناً شَاخِصَةً... وحَنجَرةً

تختلط الغرابة باللوعة والأسى والإحساس بالفقد والوحدة، وتبدو إديث بياف التي لم يبق منها سوى «عين شاخصة وحنجرة» كأنها صدى لمرآة الأرض الأكثر اتساعاً ورسوخاً... فيما تومض صورة أخرى خافتة في الظل تبحث فيها الذات الشاعرة عن كينونتها ومرآتها الهاربة في غبار الأيام والفوضى والزحام والجنون، وكأنها تتعثر في حلم مشدود دائماً إلى الماضي، تحاول استعادته بقوة الشعر، وفي الوقت نفسه، تستأنس الغرابة وتلعب معها، كأرجوحة من أراجيح الطفولة والصبا والوجود... يقول في نص بعنوان «مباغتة» تتحول فيه الذات إلى مرآة للآخر:

انظرْ للطَّريقِ بعَينيكَ القَديمَتَينِ

اللَّتينِ تَركتُهُمَا جِوَار كوْمَةٍ منْ ألعَابِ الصِّبَا

تذكرْ؟

كنتَ مُتَعَجِّلاً وَقتَهَا

قَفزتَ إلى القِطَارِ البِلاسْتِيكِي

ولمْ يزَلْ فِي حِجرِكَ

أفلتَّ المَكابِحَ،

وأطلقْتَ نَفيرَ الشَّقَاوَةِ فِي أّذُنِ الأَرضِ

أرقتَها بأظفَارٍ نَبَشَتْ وَجهَ السَّفرِ

وعَبرَ هَذِهِ اللُّعبَةِ القَديمَةِ يَا هَذَا

بَاغَتتَكَ الأيَّامُ....

وجِئتَ إلىَ هُنَا

ببساطة شديدة ولغة سلسلة يتعامل الشاعر مع الغرابة، يرسم صورته وملامحه في ظلالها بلا تعقيدات ومفارقات شاسعة، فالغرابة تتراءى دائماً كصنو للحلم، صنو للأثر والحكاية، تشد الحواس والخيال إلى أفق أبعد وأعمق، مما يساهم في كسر منطق العلاقات التراتبية للزمن والأشياء، بحثاً عما يثير الدهشة وفي الوقت نفسه يثير الغرابة بشكل جديد... فلا بأس أن يرسم الشاعر باسمها هذه الصورة لنفسه التي تطالعنا في نص بعنوان «أحوال» يبدو فيه الشغف والحنين إلى المكان:

رأيتُني بائعَ عرقسوسٍ

في حيٍّ شعبيّ

كلمّا أملتُ الآنيةَ بعيداً عن الأكوابِ

تهدّلت قصائدُ للمِلاءَاتِ اللَّفِ

ونوافذِ العصرِ

والمشربياتِ

رأيتُني ربَابةً فوقَ كَتِفٍ جَنُوبِيِّ

ويداً تلوِّحُ فوقَ حبائلِ الصوتِ

لجدرانٍ تَحكِي مَا فَاتَ

رأيتُني نشيداً سَاحِلياً

على امتدادِ الشاطِئ

تتخفف الأنا اللاهثة في الديوان بين ضميري المتكلم والمخاطب من شوائب الاستطراد والتبرير وتصبح الغرابة مرآة خاصة للذات

الغرابة لا منطق لها، كل ما تفعله رجرجة الجسد وخطف العين إلى ما وراء المشهد، وما يتناثر في طوايا الداخل والخارج، وفي الوقت نفسه توفر فضاءً حيوياً للذات مفتوحاً على براح التخييل، تتصالح في ظلاله مع نفسها وضعفها وهشاشتها، متجنبة الاصطدام بالواقع والعالم الموحش من حولها. هنا تبزغ نقطة التلاقي العصية بينها وبين الشعر، وعلى نحو مكثف ومقطّر في الجزء الثالث الذي يشكل ختام الديوان بعنوان «زفرات معلّقة»، تتسرب كومضات شاردة في أصابع الزمن، وفي لطشات سريعة خاطفة تومض في شكل رسائل برق لا تتجاوز بضعة أسطر، مشكلة ما يمكن تسميته «خلاصة دفتر أحوال الغرابة»، ومنها: أنتيكة، في البدأ، فانوس سحري، لعبة، وفيها يقول:

الهَوَاءُ يَمُرُّ عَبرَ رِئَتِيْ هَذَا المِيزَانِ القَدِيمِ،

الرُّوُحُ فَوقَ كفَّةٍ والجَسَدُ فِي أُخرَىَ

تتأرجَحَانِ بلا وَازِعٍ من إرادَةٍ

وقَفَ أحدُهم فِي قَارِعَةِ السُّوقِ

يَكشِطُ الصَّدأَ مِنْ رَأسِ الزَّمَنِ ويُنَادِي:

مَنْ يَشتَرِي هَذِه الأنتِيكَةَ المُبهِجَة؟

...

الأعينُ الرَّمَادِيَّةُ

التِي سَالتْ منْ أقلامِنَا بيومٍ غَائِمٍ،

كَانتْ فِي البَدءِ عَصَافِيرَ ارتَعَدَتْ

فوقَ أسْلاكِ الكَهربَاءِ.

...

قلبُ الشعرِ فانوسٌ سحريّ

كُلّما مَسَسْتَ جِدَارَه

بلحظةٍ منتحبةٍ

أيقظتَ عِفرِيِتاً

يروي تبدّلَ الأيَّام

هكذا، تقف الغرابة في هذا الديوان الشيق على حافة الحلم بالشعر، بالحب، بالانعتاق من فوضى العالم والاشياء والذكريات، بحثاً عن معنى حقيقي في مرآة الجمال والحرية.