ترميم بقايا الكارثة

عن معرض المغربية زينب بشرى

ترميم بقايا الكارثة
TT

ترميم بقايا الكارثة

ترميم بقايا الكارثة

تشكل صدف اللقاء بين التفكير في وقائع منتهية، وبين أحداث مطابقة لها في السياق الراهن، من منظور إعادة الصوغ الفني، عامل نكوص وتحول في الآن ذاته، أولاً بالنظر لما يمثله الحدث المستجد من امتحان لعمق الفكرة ودلالتها، وتوليدها أبعاداً مفارقة لحقيقتها، وثانياً باعتبار أن الزمن يمتحن صدق الرؤى ونفاذها، ومن ثم يختبر الجدوى من نقل مكابدات الحياة إلى التخاييل والصور والأساليب، بقصد تأبيدها، وأخذها من حيز العابر إلى المقيم.

في هذا السياق يندرج اشتغال الفنانة التشكيلية زينب بشرى على «تراث الكارثة» (غاليري كانت بطنجة) وهي المنتمية إلى الجيل الأحدث من الفنانين المغاربة، ممن زاوجوا بين مهارات فن القواعد (في اللوحة أساساً)، والولع بالعمق المفهومي للموضوعات؛ بما تقتضيه المزاوجة من عمل بحثي، تتقاطع امتداداته عبر معارف شتى. من هذا المنطلق يبدو عملها (مع الكثير من فناني جيلها) منحازاً في ظاهره للتاريخ وللذاكرة، وللسرديات المتصلة بها، الموزعة بين أنوية مجتمعية صغرى. بقدر ما يتجلى مُنْجَدِلاً بهواجس الذات الفردية المتشظية، في مواجهتها للتحولات المتسارعة للعالم، وللهويات والجغرافيات والقيم. جيل عاصر في وقت وجيز ما كان يتخلل قروناً من الزمن، عبر محطات متباعدة، من حروب وأوبئة، وزلازل وتغيرات مناخية، منذرة بنهايات مرحلة من تاريخ الكون.

ينهض عمل زينب بشرى على قاعدة الاستعادة التخييلية لحدث مُدمّر، وفاجعة إنسانية، تعود إلى ما قبل خمسة عقود، هو زلزال مدينة أغادير المغربية، في ستينيات القرن الماضي. وينطلق الاستحضار البصري، من سردية عائلية، مدعومة بألبوم صور قديمة توثق اللحظة، ومستندة إلى أرشيف عمومي عن الكارثة، نفذت الفنانة إلى مضامينه عبر رحلة بحث ممتد في الزمن عن بقايا أثرها في الذاكرة الجماعية للمحيط المديني. يُوفَّق البحث الوثائقي في لملمة ملامح الخراب المتصل بمسار خاص، لكن الرحلة في حد ذاتها تجعل انتشار البقايا عبر فراغات الماضي، والسعي إلى تصفيتها من اختراقات المتخيل، تصل إلى تقديم محكية بصرية، بديلة، تؤرخ للحدث، ولا تؤرخ له، أي إنها في النهاية لن تكون إلا ذاتها، تحكي عن علاقة عين وذهن، ووجدان بشيء غائب لا وجود له إلا من حيث هو حقيقة رخوة شديدة العطب.

تنمو مفردات أعمال زينب بشرى، عبر متوالية متباينة الصيغ، في رصدها لهيئة الركام المتآكل، والمختزل إلى أشكال متمردة على الطرز الهندسية المكتملة. يخترقها، في كل مرة، تَعْقِيفٌ وتَقْعِيرٌ لحواف الدوائر والمكعبات والمستطيلات، كيما توحي باقتلاعها من جذر أصلي، لأبنية وعمائر، لم يعد لها أثر، وبقائها في وضع الشاهد على التفكك والزوال... لا تتخايل الكتل الملونة، بصباغة الأكريليك على الورق أو القماش، بدرجات الأحمر والقرمزي والأصفر والأخضر والبُنّي، في وضع متشابه، إذ تراوح بين التضَامّ والتنَائِي، أفقياً ودائرياً، مع تدرُّجٍ في جعل التداخل يكتنز بالسواد؛ كأنما البؤرة المتبقية تتخطى الشظايا الفاقدة لحَدِّيَتِهَا، لتكتسي بالسواد الجهنمي، المختصر لسردية الزلزال في ترحُّلها عبر الذاكرات والأخيلة.

وتتخلل أغلب اللوحات كتلة متكررة للبنة من آجُرّ، سليمة أحياناً، إنما مكسوّة الظاهر أو مبتورة الأطراف أحياناً أخرى؛ وحدها تلك القطعة، تَهدي الناظر إلى خريطة الأصل، حيث يتبدى تدريجياً أن الأمر يتعلق بلملمة ما يفضل على شاشة الذهن، من متناثرات بناء مهدم، يختلط فيه الثوب بالمعدن بقطع الخرسانة الرمادية، بالحجر، بمتلاشيات أغراض شخصية من ملابس ولعب أطفال وأوانٍ منزلية وأدوات مدرسية. تعيد رسمها ذاكرة اليد على مساحة الأبيض أو الرمادي، مصطنعةً لها هالات تحتضن اللون المخضب بالجروح السوداء.

والظاهر أن التكوين البصري للأشياء على الحامل، يعارك رهبة تسطيح الهشاشة، في الخطوط والسمات، لإنفاذ كناية عن تساوي جوهر العمائر خارج أحوالها العادية، حين تخرج منها الحركة والأنفاس، فتتحول إلى مجرد سقط متاع. وعندما تلتمع الكتل اللونية مستكينة إلى فراغها، ولاجداوها، وإلى إشراقتها المجتثة من امتدادها، فلبيان مفارقة الواقعة المرعبة لأثرها المحايد، واكتفائها بهيكلها الصلب والوظيفي، وبنائها لماهية مغتربة عن أصولها. لذا تَبرزُ مفردات الركام الملوّن، بما هي تمثيل لالتباس المأوى، في نهوضه وانهياره، وما يتخلل الحالين معاً من تشوهات.

وتصل ذروة الاستعادة البصرية لواقعة الزلزال في أعمال تتلاشى فيها تدريجياً تقاسيم الكتل، في إيقاع تصاعديّ، تتغلغل داخله قطع الهشيم في الحلكة، وتلوّح بما هي مجرد سديم مظلم، تتخلله تدرجات زرقة مموهة، أو فيما يشبه قطع بيضاوية قُدَّت من فحم، يجلل سوادَها لمعانٌ معدنيٌّ. هل هي الانكفاءة النهائية للشظايا في خلايا الذهن؟ حيث تفقد ظاهرها وحسيتها ولونها وترابطاتها، لتكون فقط ما توحي به من إحساس بالفناء؟ هو احتمال من احتمالات شتى، لعل من أقربها أيضاً أن الصلابة خدعة مرهونة بالوقت، وأن هشاشة الأشياء جزء من جبلَّتِها، يتساوى في ذلك الحجر والشجر والجسد والماء؛ الماهيات التي تستوطن قشرة الأرض، قبل أن تغور في عمقها، بفعل الزلازل والحروب والإرادة العبثية للبشر.

في الأيام الأخيرة من عمل زينب بشرى على لوحات معرضها، المستوحى من ذاكرة الزلزال التاريخي لأكادير، وقع الزلزال المدمر لمساحات شاسعة من منطقة الحوز بالمغرب، قبل أن يستيقظ العالم على وقع «طوفان الأقصى»، وما تلاه من عدوان إسرائيلي مدمِّر على قطاع غزة، ليَلْتَهِمَ الخَطْبَانِ الجَلَلَانِ المحكية العائلية القديمة من جذورها. لحسن الحظ أن الأعمال كانت شبه جاهزة للعرض، لكن ما جرى، من دمار في مئات القرى، وما تلاه من تدفق صور تُطل كل ثانية من الإعلام ووسائط التواصل، للمدفونين تحت الأنقاض، وللخراب القيامي، جعل المحكية تَسْطَعُ عبر امتدادات رؤيوية مختلفة، واحتمالات تأويلية مضافة، لتتلوها عشرات الأسئلة التي تحاصر الاشتغال: هل ما يرى الآن بكثافته الفجائية وحِدَّتِه وطغيان تفاصيله، يفكك السردية الشفوية القادمة من أرشيف عائلي؟ أيفقدها طزاجتها، وقدرتها على الاستثارة الفنية للغامض الثاوي في الذاكرة عن العطب القديم؟ لا يمكن الركون إلى قناعة نهائية، بصدد وضع شديد الإلغاز من هذا النوع، بيد أن الشيء الأكيد أن الزمن مرة أخرى، سيضع النوازل الكارثية المستحدثة، في تجاور مع سالفاتها، في أثناء الاسترسال في الاشتغال الفني، كما أن المتلقي لن يكون في معزل عن إيحاءات الماضي القريب والبعيد معاً، لحظة تمثل تحولات التجاور والجدل والانمحاء في الكتل اللونية المطروحة للنظر.

في النهاية يمكن اعتبار المعرض سيرة ذهنية لصاحبته في علاقتها بهروب الوقائع من خاناتها ومراتبها، وقوقعاتها الصورية الثابتة، كما يمكن النظر إليه بما هو عينة عن تعلق الأعمال الفنية بقَدَرِ الاستئناف، في التقنية والأسلوب، واكتساب المرئي أبعاداً غير متوقعة، ومفارقة لسياقاتها الأصلية، تتجلى من حيث هي دليل على هشاشة العالم والفكر والنظر، وسرعة عطب لحظات الاكتمال في الأعمال الفنية.


مقالات ذات صلة

أندرو موشن: الكتابة سبيلي للخطو خارج الزمن

ثقافة وفنون أندرو موشن

أندرو موشن: الكتابة سبيلي للخطو خارج الزمن

تكتسب كتابات الشعراء عن تجربتهم الشعرية قيمة خاصة قد لا تتوافر في كتابات النقاد المحترفين وأساتذة الأدب الأكاديميين.

د. ماهر شفيق فريد
ثقافة وفنون تجليات الطبيعة في الرواية العربية

تجليات الطبيعة في الرواية العربية

يشير الباحث الدكتور محمد عبد الله سرحان في كتابه إلى أن المقصود بالنقد «الإيكولوجي» هو ذلك النقد الذي يركز على النص الأدبي الذي يصور الطبيعة في حركتها وتأثيرها

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون يوميات أب يصارع الخذلان

يوميات أب يصارع الخذلان

تدفُّق السرد على نحو بالغ الحميمية والمهارة في التقاط مفارقات الواقع مع مسحة من السخرية هو أبرز ما يميز نصوص كتاب «جيوب ممتلئة بالبهجة وأقلام الرصاص».

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
ثقافة وفنون الكاتب الآيرلندي بول لينش أثناء حصوله على جائزة «بوكر» لعام 2023 في لندن 26 نوفمبر 2023 (إ.ب.أ)

الآيرلندي بول لينش يفوز بجائزة «بوكر» عن رواية مستوحاة من الأزمة السورية

فاز الكاتب الآيرلندي بول لينش بجائزة «بوكر» الأدبية البريطانية العريقة عن روايته «بروفِت سونغ» (أغنية نبي)، في احتفال أقيم مساء الأحد في لندن.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون محمد علي شمس الدين

صور الطفولة المغدورة في الشعر المعاصر

لطالما كانت الطفولة في بعدها العميق تجسيداً بالغ الدلالة، لا لما يتصل ببداية الكائن الفرد فحسب، بل لما يتصل في الوقت ذاته ببداية التكوين وتفتح العناصر.

شوقي بزيع

أندرو موشن: الكتابة سبيلي للخطو خارج الزمن

أندرو موشن
أندرو موشن
TT

أندرو موشن: الكتابة سبيلي للخطو خارج الزمن

أندرو موشن
أندرو موشن

تكتسب كتابات الشعراء عن تجربتهم الشعرية قيمة خاصة قد لا تتوافر في كتابات النقاد المحترفين وأساتذة الأدب الأكاديميين؛ ذلك أن كتابة الشاعر عن فنه تجيء ثمرة معايشة حميمة لهذا الفن، وخبرة شخصية مباشرة بمسالك الشعر وشعابه ومضايقه على نحو يبرأ من التجريد الجاف والتنظير البارد.

وأحدث شهادة من هذا القبيل يقدمها كتاب صادر في هذا العام (2023) عنوانه «النوم على الجزر: حياة في الشعر» (Sleeping on Islands: A Life in Poetry). صدر عن دار «فيبروفيبر» للنشر بلندن، من تأليف الشاعر والروائي والناقد الإنجليزي أندرو موشن (Andrew Motion) الذي شغل في الفترة 1999- 2009 منصب شاعر البلاط في المملكة المتحدة، وهو أحد مؤسسي «محفوظات (أرشيف) الشعر» على الشبكة العنكبوتية الدولية. ويعيش حالياً في مدينة بولتيمور بالولايات المتحدة الأميركية، وذلك منذ تعيينه أستاذاً للفنون بجامعة جونز هوبكنز في 2015.

وموشن غزير الإنتاج، له عدد من الدواوين الشعرية. وفي أدب السير والتراجم: «فيليب لاركين: حياة كاتب» و«كيتس». وفي أدب المقالة والسيرة الذاتية والتأملات: «في الدم: مذكرات عن طفولتي». وفي النقد الأدبي: «شعر إدوارد توماس» و«فيليب لاركين». كما حرر قصائد مختارة للشعراء وليم بارنز وتوماس هاردي وجون كيتس وشعراء الحرب العالمية الأولى.

غلاف الكتاب

يتخذ كتاب «النوم على الجزر» شكل فقرات قصار تفصل بينها خطوط وتنتقل في الزمان والمكان جيئة وذهاباً في الفترة ما بين 1970 - 2021، فقد تبدأ إحدى الفقرات مثلاً في عام 2000 ثم ترتد إلى الوراء رجوعاً إلى عام 1976، وهكذا، مما يولد شعوراً بتدفق الزمن وجريانه وآليات الذاكرة التي تربط بين الماضي والحاضر وتعتمد على تداعي الأفكار واتصال تيار الشعور.

في مقدمته، يقول موشن إن كتابه هذا امتداد لكتابه السابق: «في الدم: مذكرات عن طفولتي»؛ إذ إن ذلك الكتاب سجل طفولته حتى سن السابعة عشرة. وهو هنا يواصل القصة ابتداء من ذلك العمر؛ أي إننا نلتقي به هنا شاباً يافعاً ورجلاً في منتصف العمر وشيخاً. وتتوقف القصة عند ربيع 2020. والفارق بين الكتابين أن «في الدم» كان مكتوباً باستخدام الفعل المضارع من وجهة نظر الطفل، محملاً بطزاجة الرؤية وطرافتها، أما «النوم على الجزر» فمكتوب باستخدام الفعل الماضي من وجهة نظر الراشد، كما أنه أميل إلى الانتقاء من تفاصيل الحياة؛ فهو يركز على مسيرته الشعرية ولقاءاته وصداقاته وعلاقاته بسواه من الشعراء، وأغلبهم الآن قد طوته يد المنون، ومن ثم كان بناء الكتاب أقرب إلى الطابع الشذري أو إلى جزر متناثرة في محيط الحياة. وهذا ما يفسر عنوان الكتاب: «النوم على الجزر».

حين منح موشن إجازة من التدريس بجامعة جونز هوبكنز لمدة عام، أغلق على نفسه باب مكتبه وقرر أن يستعرض ماضيه، فكان هذا الكتاب. وزاد من عزلته ظهور وباء «الكوفيد» وتوقف عجلات الحياة عن الدوران وانتشار الشعور بالحزن والإحباط في الحياة العامة والحياة الخاصة على السواء.

وفيما بين بداية الكتاب ونهايته نلتقي بموشن في مواقف مختلفة ولحظات تتراوح بين السعادة والشقاء، والنجاح والإخفاق، ولكنها كلها تجتمع على رسم صورة لحياة شاعر أثناء العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقدين الأولين من الألفية الجديدة، حياة يشتبك فيها العام والخاص. وتقوم الأحداث الخارجية – سياسية وغيرها - في مؤخرة الصورة، ولكن البؤرة دائماً هي فن الشعر محور حياة موشن، بل مبرر وجوده ذاته.

وأهم علامات الطريق في حياة موشن، كما يسجلها، هي ما يلي: في الفترة الفاصلة بين انتهائه من المرحلة الثانوية والتحاقه بـ«كلية الجامعة» بجامعة أكسفورد التقى بفتاة تدعى جوانا صارت زوجته وهما ما زالا طالبين جامعيين. انتهى الزواج بالطلاق وأعقبته زيجتان أخريان. وبعد حصول موشن على الليسانس شرع في كتابة رسالة للماجستير عن الشاعر الإنجليزي إدوارد توماس تحت إشراف الشاعر والمحاضر جون فولر.

ومن الأحداث الشخصية التي يذكرها موشن أيضاً أن أباه أصيب بالسرطان في العظام (كان قد تزوج بعد وفاة الأم). وكما بدأ الكتاب بوفاة الأم فإنه ينتهي بوفاة الأب.

هذا عن الجوانب الشخصية من حياة موشن. أما عن الجوانب العامة ونشاطه الأدبي والوظائف التي تقلدها، فإنه يخبرنا بأنه بدأ ينشر قصائده في عدة مجلات ودوريات. وحصل على وظيفة محاضر في الأدب الإنجليزي بجامعة «هل»، وكان أمين مكتبتها هو فيليب لاركن لأكثر من عشرين عاماً. وفيما بعد استقال موشن من وظيفته في جامعة «هل» وعاد للعيش في أكسفورد، وتولى رئاسة تحرير مجلة «بويتري رفيو»، وغدا مشرفاً على برنامج للكتابة الإبداعية في كلية «هولواي الملكية» بجامعة لندن، واختير شاعراً للبلاط الملكي، ثم منح لقب «سير».

بدأ اهتمام موشن بالكتابة حين تعرف على مؤلف كتاب متواضع موضوعه ثعلب صغير، وبدأ يفكر في الموضوعات التي يمكن أن يكتب عنها، فكان أول ما تبادر إلى ذهنه هو حادثة موت أمه، مما قاده إلى التفكير في الموت بعامة وموت المحيطين به في الأسرة والمدرسة والمعارف بخاصة.

وبدأ ينظم الشعر – إلى جانب قراءته - وهو طالب في المدرسة الثانوية. وكان ناظر المدرسة، لحسن الحظ، محباً للشعر ومهتماً بصفة خاصة بشعر الحرب. واستهوته قصائد إدوارد توماس وإميلي دكنسن، لكن لماذا الشعر بوجه خاص؟ لمَ لا يختار شيئاً أكثر إدراراً للربح المادي؟ تراكمت هذه الأسئلة في ذهنه، ثم كان الجواب: «الشعر لأنه صوت المعاناة؛ لأنه قد يحفظ ذكرى أمي في كلمات؛ لأنه فرار من الماضي وإعلان استقلال؛ لأنه ذو سحر خاص وجمال لا يقاوم؛ لأن أشكاله دعوة إلى شعور أشد عمقاً وفكر أكثر دقة؛ لأنه يمثل التكثيف والاستقطار؛ لأنه ينتمي إلى كل إنسان؛ لأنه ابن عمومة للامعنى، وهو مع ذلك يقول الحقيقة بطريقة غير مباشرة؛ لأنه منعزل؛ لأنه يجعل العزلة سبيلاً للتواصل؛ لأنه - بتعبير بايرون - (شعور بعالم سابق ومستقبل)؛ لأنه لا يحوجه إلى أسباب أو أعذار؛ لأنه ليس شكلاً من أشكال المعنى وإنما هو طريقة للوجود».

سؤال آخر كان يطارده: كيف يغدو شاعراً حديثاً؟ كيف يحب عظماء الشعراء الموتى ويترك كلماتهم تتغلغل في مسامه ومع ذلك لا يكون مجرد صدى مردد لأصواتهم؟

صدر أول ديوان لموشن (وكان ديواناً صغيراً في خمسين صفحة) عن دار نشر «كاركانت» التي يشرف عليها الناقد مايكل شميت في 1978. كان الديوان مؤلفاً من ثلاثة أقسام: الأول قصائد متفرقة، والأوسط قصيدة قصصية طويلة نال عنها جائزة «نيودجيت» للشعر بجامعة أكسفورد، والثالث قصائد عن أمه.

ماذا كانت محركاته للكتابة؟ يقول: «كانت الكتابة كما يراها ذهني سبيلاً لرسم خريطة للزمن، لدوائره وخطوطه المستقيمة على السواء، وكانت الكلمات على الصفحة سبيلاً لقول: إني هنا». ويقول: «بدأت أكتب لأن الكتابة موقع يوفر لي الخصوصية؛ لأنها أعانتني على تعميق ما أشعر به (وأحياناً على فهم ذاتي بطريقة أفضل)»، فالقصائد «طريقة لتقبل ما هو محتوم، وأيضاً لإيقاف الزمن أو الخطو خارج الزمن».

ويعبر عن الصعوبات التي يواجهها الشاعر فيقول: «كانت الكلمات التي أريد أكثر ما أريد أن أستخدمها في قصائدي وراء متناولي دائماً»، إلى أن كان يوم شرع فيه في كتابة قصيدة عن ثياب أمه الراحلة (ظل أبوه عدة سنين يحتفظ بثياب زوجته، على سبيل الوفاء لذكراها، في علية البيت)، فإذا بالكلمات تواتيه وتستجيب لما يريد أن يقوله وكأنها استرجاع لذكرى.

وطموحه تعبر عنه الكلمات الآتية: «في ممارستي الشعرية كنت أطمح إلى توسيع نطاق العقيدة الغنائية، وأن أقاوم إغراء النظم حين أرتطم بخبرة شخصية حميمة كالحب أو الأسى أو الوحدة بحيث لا تعدو القصيدة أن تكون صرخة إيقاعية. وبدلاً من ذلك أردت أن أصطنع مقاربة أكثر موضوعية: أن أكتب قصائد قصصية يبدو على السطح أنه لا صلة لها بظروف حياتي الشخصية، مما يكفل أن تخرج واسعة النطاق متنوعة الاهتمامات، ولكنها تظل في الوقت ذاته مستلهمة من مشاعر شخصية قوية. أردت بمعنى آخر أن أكون انطوائياً وانبساطياً في آن، أن أوفق بين الغنائي والقصصي».

بدأ اهتمام موشن بالكتابة حين تعرف على مؤلف كتاب متواضع موضوعه ثعلب صغير... وبدأ يفكر في الموضوعات التي يمكن أن يكتب عنها

ومن الأجزاء الممتعة في كتاب موشن ما يرويه عن شعراء عصره الذين تعرف عليهم، وملاحظاته عن شخصياتهم ومظهرهم وسلوكهم، وصلاته بهم. من هؤلاء الشعراء و.هـ. أودن، وروبرت لويل، ووليم إمبسون، وشيمس هيني، وفيليب لاركن، وتد هيوز.

إن شهادة موشن في هذا الكتاب إضافة عصرية إلى شهادات سابقة عبر القرون. فنحن نتذكر؛ إذ نقرأه، القصائد التي نظمها هوراس اللاتيني وبوالو الفرنسي عن «فن الشعر». وفي الأدب الأميركي نسترجع مقالة للقاص والشاعر والناقد إدجار آلان بو، عنوانها «فلسفة الإنشاء» وصف فيها نظمه لقصيدته المسماة «الغراب»، وفي القرن العشرين شرح هارت كرين في بعض رسائله كيف نظم قصيدته «الجسر». وكتب أرشيبولد ماكليش قصيدة عنوانها «فن الشعر» ختمها بقوله: «على القصيدة أن تكون، لا أن تعني». وعربياً، كتب عدد من الشعراء من زوايا مختلفة عن حياتهم في الشعر: عبد الوهاب البياتي، ونزار قباني، وأدونيس، وصلاح عبد الصبور، ومحمد إبراهيم أبو سنة، وغيرهم. وفي كتاب أستاذ علم النفس الدكتور مصطفى سويف عن الإبداع الفني، في الشعر بخاصة، شهادات عدد من الشعراء والكتاب عن طرقهم في الكتابة، ومراحل تطورهم، والمؤثرات الذهنية والوجدانية والحياتية التي دخلت في تكوين أعمالهم.

وُلد موشن في لندن عام 1952 لأب حارب في الحرب العالمية الثانية وكان من الجنود الذين هبطوا على شاطئ نورماندي في 1944، وأم تدعى جيليان، وكان له أخ أصغر يدعى كيت التحق بكلية الزراعة، ثم اشتغل تاجر بذور. وتلعب الأم دوراً مهماً في هذه الذكريات، وكانت قد لقيت حتفها من جراء حادثة سقوط عن صهوة جواد ارتطم حافره المعدني برأسها، مما أحدث لها نزيفاً في المخ كانت فيه نهايتها بعد أيام قضتها في المشفى. وستخلف هذه الحادثة أثراً باقياً في وجدان موشن وفي قصائده.


تجليات الطبيعة في الرواية العربية

تجليات الطبيعة في الرواية العربية
TT

تجليات الطبيعة في الرواية العربية

تجليات الطبيعة في الرواية العربية

يشير الباحث الدكتور محمد عبد الله سرحان في كتابه «الرواية العربية - دراسة نقدية إيكولوجية» إلى أن المقصود بالنقد «الإيكولوجي» هو ذلك النقد الذي يركز على النص الأدبي الذي يصور الطبيعة في حركتها وتأثيرها النفسي الإيجابي أو السلبي على البشر، وذلك من خلال تناول عناصر بيئية «طبيعية» من صنع الخالق، كالبحر والشمس والليل والقمر والصحراء وغيرها، أو عناصر بيئية «مكانية» من صنع البشر كالمنازل والأمكنة المختلفة.

وظهرت «الإيكولوجيا» بوصفها فرعاً علمياً من البيولوجيا في أواخر القرن التاسع عشر حيث يعبِّر مفهوم «إيكولوجي» عن العلاقة بين الكائن الحي والبيئة. وأصبح النقد «الإيكولوجي» اتجاهاً رئيساً في الدراسات الأدبية والثقافية بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ولم يتفق النقاد بسبب حداثة المصطلح على مفهوم باتّ ونهائي للنقد الإيكولوجي لكنه في مضمونه يشير إلى عقد ترابطات نصية وخطابية بين الأدب والطبيعة والأرض والمكان والبيئة في ضوء قراءات متنوعة قد تكون ثقافية أو تفكيكية أو تأويلية أو نفسية أو اجتماعية أو تاريخية أو جمالية أو تخييلية.

أرض النفاق

ويورد المؤلف في كتابه الصادر عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» بعض نماذج الرواية العربية التي تناولت تجليات الطبيعة ومفردات البيئة. ومن تلك الأعمال رواية «أرض النفاق» للكاتب المصري يوسف السباعي (1917 - 1978) حيث يتضمن العنوان أحد المكونات البيئة الطبيعية الأساسية، وهي الأرض التي يأمل الإنسان منها دائماً أن تُخرِج له الخير المتمثل في الزرع والثمار والماء العذب وما تكتنزه بطونها من معادن ونفائس. ولكن يصدمنا الكاتب بتغير الأرض إلى النقيض، حيث لا يخرج منها إلا النفاق الذي يمثل كل نقيصة في السلوك الإنساني. وتذهب الرواية إلى أن الأزمة الأخلاقية المتمثلة في غياب الصدق والوضوح وهيمنة الرياء والأكاذيب أدَّت إلى وجود أزمة بيئية حادة تتجسد في تلوث مياه نهر النيل حيث أصبح النفاق خطراً يهدد الطبيعة ولا يكتفي بتلويث الأرواح.

وفي رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للكاتب السوداني الطيب صالح (1929 – 2009) تلعب الطبيعة دوراً مهيمناً على المستويات البيئية والنفسية. يعود الراوي في مستهل العمل إلى قريته التي تقع عند منحنى النيل بعد غيبة 7 أعوام قضاها في أوروبا. ورغم مظاهر الحياة الأوروبية، وما تمتاز به من مغريات مادية فإن الراوي دائم الحنين إلى قريته الصغيرة ذات المكانة الكبيرة في قلبه. ويصف الراوي دفء المشاعر في قريته وتأثيرها عليه؛ فقد أذابت الثلوج من حوله وفي داخله، تلك الثلوج التي تحيط بأوروبا وتجعل مشاعر أهلها كأنها قالب من ثلج لا حرارة فيه.

يعود الراوي إلى مكانه الأثير عند جذع شجرة الطلح على ضفة النهر التي قضى عندها أوقاتاً طويلة في طفولته. إنه يجلس تحت ظلها وينظر إلى النهر المارّ أمامه في وداعة وهدوء، يمسك بقطع من الحجارة الصغيرة ويرمي بها في النهر ويشرد بخياله في الأفق البعيد المنبسط أمامه.

يستعير بطل الرواية من الطبيعة عنصر الماء، ذلك العنصر الحيوي اللازم لاستمرار وبقاء الحياة، حيث يجعل وجه أمه مثل صفحة الماء بصفائه وغموضه في الوقت نفسه، فالأم تحملت مسؤولية وليدها بوعي وفهم ممتزج بالكبرياء بعد موت زوجها، مما جعل تعابير وجهها غامضة لمن يراها، وكذلك النهر يجري في كبرياء.

تلعب الطبيعة دوراً مهيمناً على المستويات البيئية والنفسية في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للكاتب السوداني الطيب صالح

سردية الشمس

وتبدأ رواية «بيروت 75» للكاتبة السورية غادة السمان بداية إيكولوجية بمفردة من مفردات الطبيعية وهي الشمس. إنها ملتهبة شرسة تلقي أشعتها الحارة على الشاب «فرح» المرتحل من وطنه سوريا إلى لبنان، حيث الحلم والشهرة والثروة، لتكشف عما بداخله من نزعات ورغبات مكبوتة وتعرية أمام نفسه. وكما يتجنب «فرح» الشمس، فهو أيضاً يتجنب تلك الفتاة الجالسة بجواره رغم جمالها وفتنتها. إنها مثل الشمس يخشى أن تحاول النفاذ إلى أعماقه أو اجتذابه إلى هدف بعيد عن غايته. أما «ياسمينة» بتلقائيتها وحبها للحياة ووضوح سريرتها فتبدو على النقيض في موقفها من الشمس: «الشمس! كم هي حارة وممتعة. إنها تزيدني التهاباً وشوقاً للرحيل. أحب لسعها فوق وجهي!».

وتصف الكاتبة الطريق من دمشق إلى بيروت والسيارة تغادر المدينة وتمضي في طريق الربوة والهامة، قبل أن تخلف الصخرة الشاهقة على مدخل دمشق. لقد ترك الراحلون «الربوة - الهامة - الصخرة الشاهقة»، وهي مفردات تدل على الرفعة وعلو الشأن، كما تدل الصخرة على الثبات والرسوخ في الأرض، في إشارة إلى القيم الرائعة التي تركها المرتحلون وراءهم ثم سيتنبهون إلى أهميتها بعد فوات الأوان، ويندمون حين لا ينفع الندم.

أما ياسمينة، فتشعر بأنها «غابة برية» تهزها الموسيقى، مثلما تهز الرياح مفردات الغابة. تحرك مشاعرها البريئة ورغباتها المكبوتة في آن واحد. تقول الكاتبة: «تشعر ياسمينة بأنها غابة والموسيقى رياح تتخللها وتهز أشجارها وأغصانها وتطلق صياح عصافيرها وتوقظ ثعابينها. أما قلبها فقد تحول لطائر جائع للتحليق والطيران في الأفق الممتد؛ طائر يريد أن يبتعد عن وطأة التقاليد والقيود، طائر جائع ونهم يريد أن ينهل ويغترف من الجمال الذي يسبح فيه».


يوميات أب يصارع الخذلان

يوميات أب يصارع الخذلان
TT

يوميات أب يصارع الخذلان

يوميات أب يصارع الخذلان

تدفُّق السرد على نحو بالغ الحميمية والمهارة في التقاط مفارقات الواقع مع مسحة من السخرية هو أبرز ما يميز نصوص كتاب «جيوب ممتلئة بالبهجة وأقلام الرصاص» التي صدرت منه طبعة جديدة للكاتب محمد محمد مستجاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. يضم العمل يوميات حول هموم الأبوة والعمل والأزمات المالية حد الإفلاس ومطاردة أشباح الإلهام مع قوس واسع من تعدد مصادر الخذلان في الحياة عموماً. يستفيد المؤلف من نشأته في بيئة أدبية، وتتنوع أعماله ما بين القصة والرواية والمسرح ومنها «قمر تعابثه بنات الحور» و«عتبات سلم قديم» و«هشاشة عظام» و«أحلام منتصف النهار». بعض اليوميات في الكتاب حملت تفاصيل وحالة من الاستطراد مثل «شوال قديم متحرك» و«لمّ الغسيل قبل نهاية العالم». والبعض الآخر جاء قصيراً للغاية أشبه بومضة أو برقية مثل «تبرير» و«حب» و«قرص طعمية للبهجة».

حول تجربة اكتشاف الأبوة لأول مرة، يقول المؤلف تحت عنوان «يوم في حياة جندي بدرجة أب»:

«كل أجراس العالم لم تفلح في إيقاظي أنا المشهور بالنوم الثقيل إلا أن أي همسة من صوت ابنتي الرضيعة يجعلني أستيقظ فوراً وأهبط من الفراش وأتجه إلى فراشها الذي يبدو كقوقعة محار بها لؤلؤة صغيرة ما زالت تجهل هذا العالم».

ويتناول الكاتب ثنائية الحب وهموم الواقع في مفارقة تتسم بالشجن والسخرية في رسالة موجهة إلى حبيبته، حيث يقول:

«أحب أن أخبرك يا حبيبتي أنني لا أستطيع أن أكون بطلاً مثل توم كروز في (مهمة مستحيلة) أو أكون قاسي القلب مثل مارلون براندو في (الأب الروحي) أو قاتلاً بارد الأعصاب مثل روبرت دي نيرو في (هيت)، ولن أستطيع أن أكون رجلاً خارقاً أنقذ العالم وأحلّق بك من بلد لبلد مثل سوبرمان. إنما أنا رجل يرتدي في قدميه حذاءً ضيقاً مقاسه أربعون!

الألم يضغط عليّ دائماً من قدميّ اللتين تدوران ليل نهار بحثاً عن لقمة العيش واللتين أعود بهما إليك وإلى أبنائك، حيث أضع على وجهي ابتسامة وأسفل إبطي بعض المجلات والجرائد وكيساً من البرتقال وأرغفة خبز وفي جيبي قطعاً من الشيكولاتة رخيصة الثمن. نعم، لست بطلاً مثل الذين تشاهدينهم في التلفزيون ليل نهار يا حبيبتي. لا أستطيع أن أشتري لنفسي حذاءً جديداً منذ فترة حتى أستطيع أن آتي لك ولأبنائك بالخبز والحب والابتسامة».

وحول هموم الكتابة وصعوبة أن تجد الوقت المناسب لها يقول:

«لأيام أحاول أن أصالح نفسي، أشعر بضيق شديد، فاقد الحركة والاستمتاع، مشدود كحبل غسيل ينتظر الملابس كي تجف، محاصر بدفتر الحضور والانصراف في العمل وغمزات الجيران وثرثرة الزملاء العبثية والأوامر والطلبات المنزلية. أظل أتجول وأنا متوتر تحت أشعة الشمس، أو جالسا في الظلام الدامس أبحث عن ركن أختبئ فيه كي أكتب بعض الكلمات. القصة تدور في عقلي وتريد أن تقفز، تصرخ أن تخرج، تتحرش بي وتشتبك معي أثناء النوم والحركة والتجوال. أرتب أفكاري لإنجاز كل الطلبات وسداد جميع الالتزامات. المنزل فارغ وهادئ ومع ذلك لم تأت الكتابة، هي في عقلي حاضرة وفور جلوسي تهرب. كلمات لا تكمل جملة، أصوات الشارع أصبحت ديناصورات، تحوّل الجميع مصاصي دماء وأرواحاً. أسمع ليل نهار موسيقى، لا شيء مبهجاً ولا شيء يدفعني إلى الأمام. وضعت الوسادة على رأسي والغطاء على جسدي وتمنيت أن أنام أو أموت ولم يتحقق أحدهما!».


الآيرلندي بول لينش يفوز بجائزة «بوكر» عن رواية مستوحاة من الأزمة السورية

الكاتب الآيرلندي بول لينش أثناء حصوله على جائزة «بوكر» لعام 2023 في لندن 26 نوفمبر 2023 (إ.ب.أ)
الكاتب الآيرلندي بول لينش أثناء حصوله على جائزة «بوكر» لعام 2023 في لندن 26 نوفمبر 2023 (إ.ب.أ)
TT

الآيرلندي بول لينش يفوز بجائزة «بوكر» عن رواية مستوحاة من الأزمة السورية

الكاتب الآيرلندي بول لينش أثناء حصوله على جائزة «بوكر» لعام 2023 في لندن 26 نوفمبر 2023 (إ.ب.أ)
الكاتب الآيرلندي بول لينش أثناء حصوله على جائزة «بوكر» لعام 2023 في لندن 26 نوفمبر 2023 (إ.ب.أ)

فاز الكاتب الآيرلندي بول لينش بجائزة «بوكر» الأدبية البريطانية العريقة عن روايته «بروفِت سونغ» (أغنية نبي)، في احتفال أقيم مساء الأحد في لندن، بحسب «وكالةالصحافة الفرنسية».

و«بروفِت سونغ» هي خامس رواية لبول لينش الذي رُشّح للمرة الأولى لنيل المكافأة الأدبية العريقة. ويتناول الكتاب قصة قاتمة ومؤلمة لأم في آيرلندا تنحدر نحو نظام استبدادي.

الحرب السورية وأزمة اللاجئين

وتسعى رواية لينش الخامسة إلى إظهار الاضطرابات في الديمقراطيات الغربية وعدم اكتراثها بالكوارث، مثل الانهيار الذي حدث لسوريا.

وأكد لينش، أن رواية «أغنية النبي» مستوحاة من الحرب السورية وأزمة اللاجئين.

وقال لينش، الذي كان في السابق كبير النقاد السينمائيين لصحيفة «صنداي تريبيون» الآيرلندية، إنه أراد أن يوضح للقراء الشمولية من خلال تسليط الضوء على الواقع المرير من خلال الواقعية الشديدة في كتاباته.

وأشار الكاتب الآيرلندي في تعليقات نشرت على الموقع الإلكتروني لجائزة «بوكر»، إلى أن الرواية تحاول رصد «الاضطرابات في الديمقراطيات الغربية، انهيار أمة بأكملها مثل سوريا، حجم أزمة اللاجئين، لامبالاة الغرب». وأضاف لينش: «لم أتمكن من الكتابة مباشرة عن سوريا؛ لذلك أحضرت المشكلة إلى آيرلندا كمحاكاة».

وذكر لينش «أردت تعميق انغماس القارئ إلى درجة أنه بحلول نهاية الكتاب، لن يعرفوا هذه المشكلة فحسب، بل سيشعرون بها بأنفسهم».

وقال لينش عقب فوزه بالجائزة المرموقة: «لم تكن كتابة هذا العمل سهلة. كان ينتابني شعور بأنّني سأعرّض مسيرتي المهنية للخطر من خلال كتابته، ولكن كان عليّ إنجازه»، مبدياً «سعادة كبيرة بأنّ آيرلندياً يفوز هذه السنة بالجائزة».

جائزة «بوكر»

وتُعد جائزة «بوكر» من أبرز المكافآت الأدبية في العالم وتُمنَح لأعمال روائية بالإنجليزية، وقد أوصلت إلى الشهرة أسماء لامعة كثيرة في المجال الأدبي، بينهم الفائزون السابقون سلمان رشدي، ومارغريت أتوود وهيلاري مانتل.

ولم يُدرج أي من المتأهلين الستة للتصفيات النهائية لهذا العام، وهم أميركيان وآيرلنديان وكندية وكينية، في القائمة المختصرة من قبل، في حين أُدرج اسم واحد منهم فقط في القائمة الطويلة في النسخ السابقة للمسابقة.

ويحصل الفائز على 50 ألف جنيه إسترليني (نحو 63 ألف دولار)، فضلاً عن دفعة معنوية قوية لمسيرته الأدبية.

وكان لينش كتب أجزاءً من رواية «بروفِت سونغ» أثناء الحجر الصحي خلال جائحة «كوفيد - 19».

لكنّ الفكرة المقلقة المتمثلة في حظر التجول وانتشار الفيروس كانت طرأت في باله من قبل، على ما أكد خلال مؤتمر صحافي. وقال: «كان من الغريب جداً أن أشهد حدوث ذلك في الواقع».

«أغنية نبي»

وتتناول روايته التغيّرات الجذرية التي تطرأ على حياة إيليش ستاك، وهي أم لأربعة أبناء مقيمة في دبلن خلال مرحلة غير محددة، عندما يختفي زوجها المطلوب من قِبل الشرطة السرية الجديدة. ثم تسعى جاهدةً للحفاظ على تماسك عائلتها، في وقت تنحدر بلادها نحو نظام استبدادي.

وبول لينش المولود في ليمريك عام 1977، هو خامس آيرلندي يفوز بجائزة «بوكر». ويقيم لينش في دبلن ومن بين رواياته «بيوند ذي سي» و«غريس».

ورداً على سؤال في شأن أعمال الشغب التي شهدتها دبلن إثر هجوم بسكين قرب مدرسة، قال لينش: إنه شعر بـ«الذهول»، مشيراً إلى أنّ «هذا النوع من الأجواء حاضر دائماً، ولكنّه مستتر».

وشدّد الكاتب على أن العمل «لا يتضمّن أي استشراف»، لكنّه «يردد أصداء (مع الواقع) للقراء الذين يتعمّقون به».

روايته «بروفِت سونغ» (أغنية النبي) للكاتب الآيرلندي بول لينش 26 نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

رياضة الاسكواش ومهمّشون

وأكدت الروائية الكندية التي ترأست لجنة التحكيم إيسي إدوغيان، أنّ «رواية (بروفِت سونغ) تجسّد المخاوف الاجتماعية والسياسية في عصرنا».

وأشارت إلى أنّ «القراء سيجدونها مؤثرة وحقيقية، وستبقى التحذيرات الواردة فيه في بالهم».

واختيرت الروايات الست المشاركة في المنافسة النهائية من قائمة طويلة تضم 13 رواية اختيرت من بين 158 عملاً أدبياً منشوراً في المملكة المتحدة أو آيرلندا في الفترة ما بين 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2022 و30 سبتمبر (أيلول) 2023، ضمتها القائمة الأولية.

ومن بين الأعمال التي تنافست أيضاً، الرواية الأولى المؤثرة للكاتبة الكينية شيتنا مارو بعنوان «ويسترن لاين» (الخط الغربي)، وهي قصة عن الأسى والعلاقة بين شقيقات تتمحور على فتاة مراهقة تجد معنى لحياتها من خلال رياضة الاسكواش.

أما رواية «ذي بي ستينغ» (لدغة النحل) للمؤلف الآيرلندي بول موراي، فهي ملحمة تراجيدية كوميدية تنظر إلى دور القدر في متاعب إحدى العائلات الآيرلندية.

وتدور أحداث رواية «إف آي سورفايف يو» (إذا نجوت منك) للكاتب الأميركي جوناثان إيسكوفري، حول أفراد عائلة جامايكية وحياتهم الجديدة الفوضوية في ميامي خلال سبعينات القرن العشرين.

وشارك أيضاً في المنافسة المؤلف الأميركي بول هاردينغ، الذي يروي كتابه «ذي آذر إيدن» (ذيس آذر إيدن) المستوحى من أحداث تاريخية، قصة جزيرة أبل، وهو جيب قبالة السواحل الأميركية يتوافد إليه المهمشون في المجتمع ويختارونه دياراً جديدة لهم، في ظل تضييق متزايد من السلطات.

أما رواية «ستَدي فور أوبيديينس» (دراسة من أجل الطاعة) للكندية سارة بيرنشتاين، فتستكشف موضوعَي السلطة والشعور بالذنب من خلال قصة امرأة شابة تذهب لتعتني بأخيها الأكبر، وتواجه سلسلة من الأحداث المقلقة.

وفاز بجائزة «بوكر» العام الفائت الكاتب السريلانكي شيهان كاروناتيلاكا عن روايته «ذي سيفن مونز أوف معالي ألميدا» (أقمار معالي ألميدا السبعة). وتستعيد هذه الرواية الماضي الدموي الذي شهدته الجزيرة خلال حربها الأهلية ضمن قالب من الفكاهة السوداء.


«معرض بيروت للكتاب»... زوّاره يبحثون عن فلسطين


نشاط في أحد الأجنحة
نشاط في أحد الأجنحة
TT

«معرض بيروت للكتاب»... زوّاره يبحثون عن فلسطين


نشاط في أحد الأجنحة
نشاط في أحد الأجنحة

في ظل أجواء الحرب على غزة، انطلقت أعمال «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» الذي ينظمه «النادي الثقافي العربي» منذ 65 عاماً. وإذ جاءت الهدنة وتوقف القتال، ليعطي دفعة غير منتظرة للمعرض، فإن الأيام الأولى تشي بحماسة وإقبال غير متوقعين، أسرّتا قلوب الناشرين.

«منذ يوم الافتتاح الخميس الماضي، بدا واضحاً أن الجمهور آتٍ ليشتري، هذا لاحظناه على رواد جناحنا»، تقول لنا رنا إدريس مديرة «دار الآداب». عطلة نهاية الأسبوع بحيويتها كانت مفرحة للناشرين، والإقبال على الأنشطة، زاد المنظمين إحساساً بالرضا.

ومن حسن الحظ أنه بالتزامن مع هدنة غزة، هدأت جبهة الجنوب اللبناني أيضاً، وكأنما شيء من الارتياح خيّم على البلاد.

ما يحدث خالف كل التوقعات. فمع أحزان الحرب، وتعلق الناس بشاشاتهم، أكثر من انشغالهم بحاجاتهم الثقافية، وبسبب أن «نقابة الناشرين اللبنانيين» كانت قد نظّمت «معرض لبنان الدولي للكتاب» قبل شهر فقط، وحشدت له حملة إعلامية كبيرة، وأقامته في «فوروم دو بيروت» حيث المساحة فسيحة والتقسيمات أنيقة؛ بدا أن هذا المعرض التقليدي الذي صار عمره أكثر من ستة عقود، قد ضُرب في مقتل، لكن المفاجأة السعيدة، أن الرواد بدوا مخلصين لمعرضهم المعتاد، أكثر مما تصوره البعض. مساحة المعرض الحالي صغيرة، في «سي سايد أرينا» الواجهة البحرية، المكان الذي نال منه انفجار المرفأ عام 2020، ولا يزال استرجاع المساحة السابقة مستعصياً، لكنها ليست مشكلة على ما يبدو. «نحن معتادون على هذا المعرض، وله تاريخ وعراقة، وصغر حجمه لا يعيبه، بل يبدو لنا دافئاً وحنوناً. المعرض السابق كان تنظيمه أفضل، لكننا شعرنا فيه بشيء من الغربة»، تشرح رنا إدريس.

رغم الوقت الضيق بين المعرضين، حرصت «دار الآداب» على الإتيان بكتب جديدة، لعل أقربها إلى قلب صاحبة الدار هو كتاب شريكها وشقيقها الأديب الراحل سماح إدريس. وهو رواية «قمر» التي كتبها قبل وفاته، ولم تبصر النور قبل اليوم. وأطلق الكتاب بحفل يشبه صاحبه الذي كان شغوفاً بفلسطين. ومن إصدارات الدار الجديدة لمواكبة المعرض: «عام واحد من العزلة» لإيمان اليوسف، و«الكلمة الأجمل» لأودور آفا أولافسدوثير، و«النكبة المستمرة» لإلياس خوري.

بالمناسبة توضح إدريس، أن إقبالاً لافتاً جداً تلاقيه كل إصدارات الدار عن فلسطين، وكأنما الناس تعود من جديد لتقرأ عن القضية التي نسيتها لفترة طويلة. هناك طلب كبير على كتب إدوارد سعيد، وإلياس خوري خاصة كتابه الجديد عن فلسطين «النكبة المستمرة»، و«حكاية جدار» للأسير الفلسطيني ناصر أبو سرور، وكذلك مؤلفات جبرا إبراهيم جبرا خاصة كتابه «البئر الأولى» الذي يروي فيه سيرة حياته وطفولته في القدس، و«صناعة الهولوكوست» لنورمان غاري فنكلشتاين، وبالطبع رواية عدنية شبلي «تفصيل ثانوي» بعد حرمانها من جائزة معرض فرانكفورت للكتاب. وهناك إقبال أيضاً على رواية «قناع بلون السماء» لباسم خندقجي، أسير في السجون الإسرائيلية، صدرت حديثاً.

«دار الآداب» ليست استثناء، فقد عملت غالبية الدور على إبراز كتبها عن فلسطين في أجنحتها، وعن الشخصيات الفلسطينية المعروفة، بسبب الطلب عليها، منها كتاب «استشهاد شيرين أبو عاقلة» الذي كانت قد أصدرته «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» العام الماضي. أما الكتاب الأكثر مبيعاً في المؤسسة فهو «التطهير العرقي في فلسطين» للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه. هكذا ربما يأتي المعرض في وقت يحتاج فيه القراء للعثور على إجابات لأسئلة عادت لتطفو على السطح من جديد، بعد صدمة الحرب على غزة ومجازرها الصادمة.

يحتفي مدير المعرض عدنان حمود، بعودة الحياة إلى هذا الحدث السنوي، فدورة العام الماضي كانت ظروفها الاقتصادية أشد وطأة. «الآن البلد أموره تسير، ونحن حالنا كما الآخرين. نعم شعرنا بوطأة الحرب ونحن ننظم المعرض، وبالطبع هناك صعوبات، لكننا تعودنا. وقد عاش هذا المعرض طوال الحرب الأهلية، ولم ينقطع، وخلال الاجتياح الإسرائيلي ولم يحتجب»، يشرح لنا حمود أنه منذ بدء التنظيم تصرف وكأن الوضع عادي، وقرر أن المعرض سيقام بمن حضر. «نعم ثمة من قرر تصغير مساحة جناحه للتوفير، وهذا يفهم، وبعض الدور قررت ألا تشارك، ولكنها ليست كثيرة»، يعد حمود أن العوائق لم تعد لبنانية فحسب، «بمقدوركم سؤال الناشرين وسيخبرونكم أن كل المعارض العربية تغيرت أحوالها، وخفتت مبيعاتها. لم تعد القراءة كما كانت، ولا الإقبال كالسابق. هذا الأمر ليس حكراً علينا»، ويروي حمود أن هذا المعرض الذي هو الأقدم في المنطقة، مديرو المعارض العربية هم الذين أطلقوا عليه عام 1992 اسم «عميد المعارض العربية» وليس نحن؛ لمكانته وأهميته، عادّاً أن الناشر اللبناني لا يزال متميزاً؛ «لأنه هو الذي يقرأ المخطوطة، ويطبع ويشرف على النشر، وهو الذي يحمل كتابه بنفسه ويسوقه في كل مكان، ولا يعهد به لأي أحد آخر». ورأت سلوى بعاصيري رئيسة «النادي الثقافي العربي» أن «إقامة المعرض في هذا الظرف العصيب ليست مغامرة في غير أوانها ولا تغريدة خارج هموم الناس وأولوياتهم، بل هو نوع من أنواع النضال».

ثمة ارتياح عام لدى الناشرين أن يروا «معرض بيروت للكتاب» كما عرفوه يعود إليه الزخم بعد فترة انقطاع بسبب وباء «كورونا» من جهة، والأزمة الاقتصادية من جهة أخرى، ومن ثم عودته المتعثرة قبل أن ينتعش هذه المرة. «الكلمات هي ذاتها يكررها الناشرون الذين سألناهم: (هو معرضنا الذي تعودنا عليه)»، هذا ما تقوله نسرين كريدية، المديرة التنفيذية لـ«دار النهضة العربية»، متأسفة لغياب دور نشر وازنة مثل «الرافدين» و«الراتب» و«نوفل»، و«التنوير»، بسبب الانقسام بين منظمي المعرضين المتتاليين زمنياً، لكنْ هناك سبب آخر لغياب بعض الدور اللبنانية، بحسب ما يشرح لنا مدير المعرض حمود، هو أن «اتحاد الناشرين العرب» برمج «معرض كتاب الكويت» في نفس الوقت؛ لأنه تعامل مع المعرض الذي عُقد الشهر الماضي على أنه الأساسي، ويضيف حمود: «رغم أن تعاوننا مع (اتحاد الناشرين) يمتد إلى عشرات السنين، فكيف يشطبون موعدنا بهذه الطريقة؟!».

هذه الخلافات لا تنغص فرحة الناشر سليمان بختي صاحب «دار نلسن» الذي يعد أن عودة الرواد إلى هذا المعرض تؤكد أن «من يصنع معرض الكتاب هم الناس، وليست نقابة (اتحاد الناشرين)، ولا (النادي الثقافي)، ولا التمويلات السخية. الكتاب ليس حكراً على أحد. هو نتاج المجتمع والناس، وهو لهم ومن أجلهم. والنشاطات الثقافية الغنية المصاحبة، بتنوعها، وبنوعية الحضور وطبيعة الحوارات، تظهر بوضوح دور بيروت، وكيف أنها صدى لكل ما يحدث في العالم العربي». ويعد بختي أن «بيروت أكبر من هذا الكباش الذي يدور بين الطرفين، ولا يليق تصغيرها على هذا النحو. وسأبقى - مع محبتي للجميع - مع معرض موحد فعّال، يحفظ لبيروت دورها». هذا المطلب تصرّ عليه رنا إدريس أيضاً التي تطالب بأن «تمارس دور النشر ضغطاً، باتجاه العودة إلى معرض واحد. ما حصل بشع ومزعج، وهو ليس لمصلحة الناشر ولا القراء». لنسرين كريدية الرأي عينه، عادة «أننا مع بعض الدور الأخرى على علاقة جيدة بالطرفين، وسنلعب دور حمامة السلام. فمن جهة هناك نقابتنا، ومن جهة أخرى النادي الذي لنا علاقة تاريخية معه، وعلينا أن نسعى معهما لتوحيد المعرض، فليس منطقياً ما يحدث».

البداية الطيبة للمعرض الحالي، شجعت على إعلاء الصوت لإنهاء الانقسام، وإن كان الناشرون يعدون أن الصيغة الحالية لمعرض بيروت بحاجة إلى تطوير مستمر.

ويتميز المعرض في دورته الحالية، بكثافة الأنشطة. فقد خُصص العديد من الندوات لمناقشة الكتب الجديدة. وثمة جلسة للاحتفال بمئوية كتاب «النبي» لجبران خليل جبران، وأخرى لقراءات في شعر نزار قباني بمناسبة مرور مائة عام على ولادته. كذلك هناك «احتفالية بيروت عاصمة الإعلام العربي»، وندوة حول «المفاعيل القانونية والأخلاقية للذكاء الاصطناعي»، ويتحدث عبيدو باشا عن كتابه الجديد «مئوية ولادة عاصي الرحباني»، وندوة حول «الخيار الاقتصادي البديل». ثمة يومياً ستة أنشطة في قاعتي المحاضرات وحدهما، فضلاً عن التواقيع والبرامج التي تنظمها الدور في أجنحتها.

وبما أن فلسطين هي موضوع الساعة، فقد نُظمت أمسية شعرية بعنوان «فلننصر غزة بالشعر والموقف»، شارك فيها الشعراء: جهاد الحنفي، وجمانة نجار، ووجدي عبد الصمد، وعماد الدين طه، وميراي شحادة، ومردوك الشامي، وعصمت حسان. وقد ألقيت مجموعة من القصائد التي تُحاكي فلسطين وجراحها ومعاناتها وبطولات مقاوميها والجرائم التي ارتكبها الاحتلال بحق أبناء غزة.

وضمن الأنشطة أربعة معارض، بينها معرض لأغلفة كتب تخص أنيس منصور ونجيب محفوظ وخيري شلبي، رسمها الفنان المصري التشكيلي حلمي التوني، وجمعها اللبناني عبودي أبو جودة، ومعرض آخر للفنان معتزّ الصواف، وثالث لطلاب الجامعات الذين فازوا بمسابقة لرسم أجمل لوحة تجسد علاقتهم بالكتاب، ورابع للفنان كميل حوّا.

يستمر المعرض حتى الثالث من الشهر المقبل، وحركة الزوار مرهونة بهدوء الحال.


«سدهارتا»... جسر بين الشرق والغرب

«سدهارتا»... جسر بين الشرق والغرب
TT

«سدهارتا»... جسر بين الشرق والغرب

«سدهارتا»... جسر بين الشرق والغرب

تتيح طبعة جديدة لرائعة هرمان هسه «سدهارتا- قصيدة هندية» تأمُّل هذا العمل الروائي الذي أودع فيه الأديب الألماني صاحب «نوبل» تأملاته في الوجود وفلسفة الحياة، وذلك من خلال سيرة بطله «سدهارتا» الذي يقطع رحلة روحية شاقة؛ ليس بهدف حيازة ترقية في مراتب الكهنة الدينيين، بقدر ما كانت رحلة طوعيّة في دروب «الأنا» و«المُنتهى»، فيتكشّف له بين شقوق متاهاتها وشِعابها، كثير من الشعرية والحكمة، لتكون حياته - بتعبير هسه نفسه - «قصيدة»، ما جعل تلك الرواية واحدة من أبرز أعماله الأدبية، وأكثر الأعمال الألمانية تأثيراً في العالم، بعشرين مليون نسخة، وأربعين لغة مُترجمة.

أنجز الترجمةَ العربية لـ«سدهارتا» عن «دار الكرمة» في مصر، المترجم المصري المُقيم ببرلين سمير جريس، الذي أرفق بترجمته كلمة توقّف فيها عند ملابسات كتابة هرمان هسه (1877 - 1962) للرواية، التي شرع في كتابتها عام 1919 بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، بكل ما خلفته تلك الحرب من دمار غير مسبوق، بما فيها من انهيارات واكبت القيم، علاوة على ارتباط هسه وتعرفه المبكر على الأفكار الهندوسية والبوذية من خلال عائلته، وتحديداً الجد والأب والخال، ووجد هسه في تلك الأفكار اقتراحات لحل مشكلات أوروبا المادية، ما جعل النقاد عبر التاريخ يَعدّون «سدهارتا» جسراً بين الثقافتين الشرقية والغربية، وعزَّز هذا الارتباط سفر هسه إلى الهند حيث وُلدت أمه، وهي رحلة ربما نمَّت بها بذرة «سدهارتا»، وفقاً للمترجم، وبعد عودته إلى ألمانيا وجد نفسه في مرمى أزمات كبيرة، ما بين مرض أفراد مقرَّبين من عائلته، وتعاسات شخصية في زواجه، وبدأ، في هذا الوقت، رحلته مع العلاج النفسي وكتابة «سدهارتا».

ورغم استلهام «سدهارتا» الثقافة الهندية، وقصة حياة بوذا (557 - 476 ق.م)، فإن المترجم يشير، في كلمته، إلى أن هسه كان يراها رواية «أوروبية تماماً».

الذي بلغ هدفه

يحمل اسم «سدهارتا» معنى «الذي بلغ هدفه»، في حين تبدو المفارقة في أن حياته برُمّتها تجسيد للتيه والقلق البالغ حيال تساؤلاته التي لم تبلغ مُنتهاها، فقد وجد نفسه فرداً بين «البراهمة» من طبقة رجال الدين، ورغم نبوغه المُبكر بين أقرانه في أداء تمرينات التأمل، وممارسة التعاليم، وسط نبوءات بأنه لن يصبح من البراهمة العاديين، لم يكن هذا كله يمثل مصدر نشوة لـ«سدهارتا» الذي أدرك مبكراً أن غايته ليست في شعائر الاغتسال اليومي في حمام التطهر من الذنوب، أو تقديم القرابين في غابات المانجو، والاستمتاع بحب أبيه وأمه وصديقه المخلص جوفيندا، فكانت «تزوره الأحلام وقلق الروح»، فالحكمة التي صبَّها والده ومعلموه من البراهمة الحُكماء في وعاء معرفته لم تجعل عقله يكتفي ولا القلب يرتوي، ولم تدل الروح إلى سكينتها.

يخطو «سدهارتا» وراء تمرد عقله وعطش وجدانه، داخل غابات المعرفة المجهولة، بحثاً عن ذاته أو «أتمان»، وفق التعبير الهندوسي، ويبدو مدفوعاً في طريقه هذا بتدفق لا نهائي من الأسئلة التي وظّفها هرمان هسه لتكون عنصراً رئيسياً في بنية الرواية القائمة على فضيلة طرح السؤال في عالم يدّعي بلوغ المعرفة وحصرها، في حين يبدو الفرد الحائر ممثلاً في «سدهارتا» غارقاً في تأملاته إلى حد الألم، يتوجه بتلك الأسئلة إلى مَن حوله، أو يُطورّها في مونولوجاته الذاتية، ويقرر أن يصير «سدهارتا المُرتحل».

صوت النهر

يخوض بطل الرواية، التي تقع في 203 صفحات، دروب المعاناة، فعاش في الغابة وتعلّم الجوع، وفقَد اتصاله بالقيظ والصقيع، مُحيّداً حواسه إلى حد الممات، ووصل إلى مهارات استبطانية مكّنته من التحكم في حركة «أناه»، عبر الألم والتحمل، ليغرق في «اللاأنا»، فأقام في العدم، واستقرّ بذاته وتماهى في جسد حيوان وحجر، مُجاهداً بتدريباته الروحية التي جعلت من حوله يتنبأون له أن يصير قديساً، لكن لم يكن هذا ما يرنو إليه سدهارتا الذي يجيد «الصوم والانتظار والتفكير»، ليجد أن السبيل وراء المنتهى لا تكفيه مهاراته الثلاث تلك فقط، فخاض غمار الحياة بنقيضها الروحي، في ارتحال بعيد عن تعاليم بوذا وتقديس الأبدي، وجرّب أن يتواصل مع الحياة إنساناً عادياً، يعرف العشق ومتاع الدنيا، لتقوده تحوّلاته تلك إلى عذابات جديدة من المعرفة التي ستقوده ببطء إلى بصيرة تتجلى له في مرج واسع يقع بين التعاليم والكهنوت من جهة، والحماقة البشرية والآثام من جهة أخرى، وفي الإنصات السديد لذلك الصوت الداخلي أو «الطائر» الذي ظلّ يناجيه سدهارتا ولم يُفارقه: «الطائر في قلبي لم يمُت»، كما يقول.

وأغرق هرمان هسه روايته بسِحر مُفردات الطبيعة الهندية، وشفافية عوالم الاستبطان، فتبدو الرواية ذات معالم لغوية أقرب للـ«قصيدة» التي أغنت عالم السرد بالروحانية والشعر، فظلال شجر التين تُسدل ستائرها على تأملات سدهارتا الخاشعة، والنهر يتحدث بأصوات كثيرة كما يتأملها سدهارتا: «أليس له صوت ملك، وصوت محارب، وصوت ثور، وصوت بومة، وصوت امرأة عند المخاض، وصوت مُتنهد، وآلاف الأصوات الأخرى؟»، ثم لا يلبث أن يُعرّفه «المراكبي» الذي سيلتقيه في رحلته ويصير أحد معلّميه، على أصوات الخليقة التي تجتمع في صوت النهر، صوت الكينونة وصوت الصيرورة الأبدية.

وتعتني ترجمة الرواية بتقديم هوامش شارحة للمفردات الهندوسية التي تتواتر في متن العمل، ومشتقة من قاموس الكتابات المُقدسة والفلسفة الهندوسية، ومنها كلمة «أوم» التي يظل سدهارتا يسعى، عبر تدريباته التأملية الطويلة وعلى مدار محطات رحلته، للوصول إلى صداها المقدس داخل قلبه، وهي مقطع صوتي يُعدّ رمز الهندوسية وتعني الكمال، لذلك فهي تعد «كلمة الكلمات»، التي ينطق بها البطل صامتاً بكل روحه وذهنه الصافي.


«معرض بيروت للكتاب»... زوّاره يبحثون عن فلسطين

نشاط في أحد الأجنحة
نشاط في أحد الأجنحة
TT

«معرض بيروت للكتاب»... زوّاره يبحثون عن فلسطين

نشاط في أحد الأجنحة
نشاط في أحد الأجنحة

في ظل أجواء الحرب على غزة، انطلقت أعمال «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» الذي ينظمه «النادي الثقافي العربي» منذ 65 عاماً. وإذ جاءت الهدنة وتوقف القتال، ليعطي دفعة غير منتظرة للمعرض، فإن الأيام الأولى تشي بحماسة وإقبال غير متوقعين، أسرّتا قلوب الناشرين.

«منذ يوم الافتتاح الخميس الماضي، بدا واضحاً أن الجمهور آتٍ ليشتري، هذا لاحظناه على رواد جناحنا»، تقول لنا رنا إدريس مديرة «دار الآداب». عطلة نهاية الأسبوع بحيويتها كانت مفرحة للناشرين، والإقبال على الأنشطة، زاد المنظمين إحساساً بالرضا.

ومن حسن الحظ أنه بالتزامن مع هدنة غزة، هدأت جبهة الجنوب اللبناني أيضاً، وكأنما شيء من الارتياح خيّم على البلاد.

ما يحدث خالف كل التوقعات. فمع أحزان الحرب، وتعلق الناس بشاشاتهم، أكثر من انشغالهم بحاجاتهم الثقافية، وبسبب أن «نقابة الناشرين اللبنانيين» كانت قد نظّمت «معرض لبنان الدولي للكتاب» قبل شهر فقط، وحشدت له حملة إعلامية كبيرة، وأقامته في «فوروم دو بيروت» حيث المساحة فسيحة والتقسيمات أنيقة؛ بدا أن هذا المعرض التقليدي الذي صار عمره أكثر من ستة عقود، قد ضُرب في مقتل، لكن المفاجأة السعيدة، أن الرواد بدوا مخلصين لمعرضهم المعتاد، أكثر مما تصوره البعض. مساحة المعرض الحالي صغيرة، في «سي سايد أرينا» الواجهة البحرية، المكان الذي نال منه انفجار المرفأ عام 2020، ولا يزال استرجاع المساحة السابقة مستعصياً، لكنها ليست مشكلة على ما يبدو. «نحن معتادون على هذا المعرض، وله تاريخ وعراقة، وصغر حجمه لا يعيبه، بل يبدو لنا دافئاً وحنوناً. المعرض السابق كان تنظيمه أفضل، لكننا شعرنا فيه بشيء من الغربة»، تشرح رنا إدريس.

رغم الوقت الضيق بين المعرضين، حرصت «دار الآداب» على الإتيان بكتب جديدة، لعل أقربها إلى قلب صاحبة الدار هو كتاب شريكها وشقيقها الأديب الراحل سماح إدريس. وهو رواية «قمر» التي كتبها قبل وفاته، ولم تبصر النور قبل اليوم. وأطلق الكتاب بحفل يشبه صاحبه الذي كان شغوفاً بفلسطين. ومن إصدارات الدار الجديدة لمواكبة المعرض: «عام واحد من العزلة» لإيمان اليوسف، و«الكلمة الأجمل» لأودور آفا أولافسدوثير، و«النكبة المستمرة» لإلياس خوري.

بالمناسبة توضح إدريس، أن إقبالاً لافتاً جداً تلاقيه كل إصدارات الدار عن فلسطين، وكأنما الناس تعود من جديد لتقرأ عن القضية التي نسيتها لفترة طويلة. هناك طلب كبير على كتب إدوارد سعيد، وإلياس خوري خاصة كتابه الجديد عن فلسطين «النكبة المستمرة»، و«حكاية جدار» للأسير الفلسطيني ناصر أبو سرور، وكذلك مؤلفات جبرا إبراهيم جبرا خاصة كتابه «البئر الأولى» الذي يروي فيه سيرة حياته وطفولته في القدس، و«صناعة الهولوكوست» لنورمان غاري فنكلشتاين، وبالطبع رواية عدنية شبلي «تفصيل ثانوي» بعد حرمانها من جائزة معرض فرانكفورت للكتاب. وهناك إقبال أيضاً على رواية «قناع بلون السماء» لباسم خندقجي، أسير في السجون الإسرائيلية، صدرت حديثاً.

«دار الآداب» ليست استثناء، فقد عملت غالبية الدور على إبراز كتبها عن فلسطين في أجنحتها، وعن الشخصيات الفلسطينية المعروفة، بسبب الطلب عليها، منها كتاب «استشهاد شيرين أبو عاقلة» الذي كانت قد أصدرته «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» العام الماضي. أما الكتاب الأكثر مبيعاً في المؤسسة فهو «التطهير العرقي في فلسطين» للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه. هكذا ربما يأتي المعرض في وقت يحتاج فيه القراء للعثور على إجابات لأسئلة عادت لتطفو على السطح من جديد، بعد صدمة الحرب على غزة ومجازرها الصادمة.

يحتفي مدير المعرض عدنان حمود، بعودة الحياة إلى هذا الحدث السنوي، فدورة العام الماضي كانت ظروفها الاقتصادية أشد وطأة. «الآن البلد أموره تسير، ونحن حالنا كما الآخرين. نعم شعرنا بوطأة الحرب ونحن ننظم المعرض، وبالطبع هناك صعوبات، لكننا تعودنا. وقد عاش هذا المعرض طوال الحرب الأهلية، ولم ينقطع، وخلال الاجتياح الإسرائيلي ولم يحتجب»، يشرح لنا حمود أنه منذ بدء التنظيم تصرف وكأن الوضع عادي، وقرر أن المعرض سيقام بمن حضر. «نعم ثمة من قرر تصغير مساحة جناحه للتوفير، وهذا يفهم، وبعض الدور قررت ألا تشارك، ولكنها ليست كثيرة»، يعد حمود أن العوائق لم تعد لبنانية فحسب، «بمقدوركم سؤال الناشرين وسيخبرونكم أن كل المعارض العربية تغيرت أحوالها، وخفتت مبيعاتها. لم تعد القراءة كما كانت، ولا الإقبال كالسابق. هذا الأمر ليس حكراً علينا»، ويروي حمود أن هذا المعرض الذي هو الأقدم في المنطقة، مديرو المعارض العربية هم الذين أطلقوا عليه عام 1992 اسم «عميد المعارض العربية» وليس نحن؛ لمكانته وأهميته، عادّاً أن الناشر اللبناني لا يزال متميزاً؛ «لأنه هو الذي يقرأ المخطوطة، ويطبع ويشرف على النشر، وهو الذي يحمل كتابه بنفسه ويسوقه في كل مكان، ولا يعهد به لأي أحد آخر». ورأت سلوى بعاصيري رئيسة «النادي الثقافي العربي» أن «إقامة المعرض في هذا الظرف العصيب ليست مغامرة في غير أوانها ولا تغريدة خارج هموم الناس وأولوياتهم، بل هو نوع من أنواع النضال».

ثمة ارتياح عام لدى الناشرين أن يروا «معرض بيروت للكتاب» كما عرفوه يعود إليه الزخم بعد فترة انقطاع بسبب وباء «كورونا» من جهة، والأزمة الاقتصادية من جهة أخرى، ومن ثم عودته المتعثرة قبل أن ينتعش هذه المرة. «الكلمات هي ذاتها يكررها الناشرون الذين سألناهم: (هو معرضنا الذي تعودنا عليه)»، هذا ما تقوله نسرين كريدية، المديرة التنفيذية لـ«دار النهضة العربية»، متأسفة لغياب دور نشر وازنة مثل «الرافدين» و«الراتب» و«نوفل»، و«التنوير»، بسبب الانقسام بين منظمي المعرضين المتتاليين زمنياً، لكنْ هناك سبب آخر لغياب بعض الدور اللبنانية، بحسب ما يشرح لنا مدير المعرض حمود، هو أن «اتحاد الناشرين العرب» برمج «معرض كتاب الكويت» في نفس الوقت؛ لأنه تعامل مع المعرض الذي عُقد الشهر الماضي على أنه الأساسي، ويضيف حمود: «رغم أن تعاوننا مع (اتحاد الناشرين) يمتد إلى عشرات السنين، فكيف يشطبون موعدنا بهذه الطريقة؟!».

هذه الخلافات لا تنغص فرحة الناشر سليمان بختي صاحب «دار نلسن» الذي يعد أن عودة الرواد إلى هذا المعرض تؤكد أن «من يصنع معرض الكتاب هم الناس، وليست نقابة (اتحاد الناشرين)، ولا (النادي الثقافي)، ولا التمويلات السخية. الكتاب ليس حكراً على أحد. هو نتاج المجتمع والناس، وهو لهم ومن أجلهم. والنشاطات الثقافية الغنية المصاحبة، بتنوعها، وبنوعية الحضور وطبيعة الحوارات، تظهر بوضوح دور بيروت، وكيف أنها صدى لكل ما يحدث في العالم العربي». ويعد بختي أن «بيروت أكبر من هذا الكباش الذي يدور بين الطرفين، ولا يليق تصغيرها على هذا النحو. وسأبقى - مع محبتي للجميع - مع معرض موحد فعّال، يحفظ لبيروت دورها». هذا المطلب تصرّ عليه رنا إدريس أيضاً التي تطالب بأن «تمارس دور النشر ضغطاً، باتجاه العودة إلى معرض واحد. ما حصل بشع ومزعج، وهو ليس لمصلحة الناشر ولا القراء». لنسرين كريدية الرأي عينه، عادة «أننا مع بعض الدور الأخرى على علاقة جيدة بالطرفين، وسنلعب دور حمامة السلام. فمن جهة هناك نقابتنا، ومن جهة أخرى النادي الذي لنا علاقة تاريخية معه، وعلينا أن نسعى معهما لتوحيد المعرض، فليس منطقياً ما يحدث».

البداية الطيبة للمعرض الحالي، شجعت على إعلاء الصوت لإنهاء الانقسام، وإن كان الناشرون يعدون أن الصيغة الحالية لمعرض بيروت بحاجة إلى تطوير مستمر.

لا تزال الكتب القديمة ملجأ

ويتميز المعرض في دورته الحالية، بكثافة الأنشطة. فقد خُصص العديد من الندوات لمناقشة الكتب الجديدة. وثمة جلسة للاحتفال بمئوية كتاب «النبي» لجبران خليل جبران، وأخرى لقراءات في شعر نزار قباني بمناسبة مرور مائة عام على ولادته. كذلك هناك «احتفالية بيروت عاصمة الإعلام العربي»، وندوة حول «المفاعيل القانونية والأخلاقية للذكاء الاصطناعي»، ويتحدث عبيدو باشا عن كتابه الجديد «مئوية ولادة عاصي الرحباني»، وندوة حول «الخيار الاقتصادي البديل». ثمة يومياً ستة أنشطة في قاعتي المحاضرات وحدهما، فضلاً عن التواقيع والبرامج التي تنظمها الدور في أجنحتها.

وبما أن فلسطين هي موضوع الساعة، فقد نُظمت أمسية شعرية بعنوان «فلننصر غزة بالشعر والموقف»، شارك فيها الشعراء: جهاد الحنفي، وجمانة نجار، ووجدي عبد الصمد، وعماد الدين طه، وميراي شحادة، ومردوك الشامي، وعصمت حسان. وقد ألقيت مجموعة من القصائد التي تُحاكي فلسطين وجراحها ومعاناتها وبطولات مقاوميها والجرائم التي ارتكبها الاحتلال بحق أبناء غزة.

وضمن الأنشطة أربعة معارض، بينها معرض لأغلفة كتب تخص أنيس منصور ونجيب محفوظ وخيري شلبي، رسمها الفنان المصري التشكيلي حلمي التوني، وجمعها اللبناني عبودي أبو جودة، ومعرض آخر للفنان معتزّ الصواف، وثالث لطلاب الجامعات الذين فازوا بمسابقة لرسم أجمل لوحة تجسد علاقتهم بالكتاب، ورابع للفنان كميل حوّا.

يستمر المعرض حتى الثالث من الشهر المقبل، وحركة الزوار مرهونة بهدوء الحال.


صور الطفولة المغدورة في الشعر المعاصر

محمد علي شمس الدين
محمد علي شمس الدين
TT

صور الطفولة المغدورة في الشعر المعاصر

محمد علي شمس الدين
محمد علي شمس الدين

لطالما كانت الطفولة في بعدها العميق تجسيداً بالغ الدلالة، لا لما يتصل ببداية الكائن الفرد فحسب، بل لما يتصل في الوقت ذاته ببداية التكوين وتفتح العناصر وبراءة الخلق. وإذا كان الجريان السريع للزمن يدفع البشر الشبيهين بالأنهار بعيداً عن مساقط رؤوسهم، معرضاً نفوسهم لمختلف أنواع الأدران، فإنهم يتلفتون بالقلب إلى زمن البدايات، حيث تتحول الينابيع التي تركوها وراءهم إلى فراديس مفقودة، لا قبَل لهم باستعادتها. ولأنها كذلك فقد رأى فيها الكتاب والمبدعون الصورة الأبهى للحياة في انبثاقها التلقائي، الذي لم يكن العقل قد تدخل بعد لإفساده، وفق نيتشه. وفيما عدها فرانز هيلينز «الكنز الأكثر حياةً والدم الجديد في دمنا القديم»، هتف الشاعر الفرنسي هنري بوسكو من جهته «وسط المساحات التي عراها النسيان، كانت تبرق باستمرار تلك الطفولة الرائعة، التي طالما بدا لي بأنني اخترعتها».

محمود درويش

كان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي الشعراء بالطفولة، باعتبارها منجم اللغة البكر والحديقة الخلفية للتخييل، كما كان من الطبيعي بالمقابل أن تشكل الطفولة المغتالة والمبتورة في أوجها مادة غنية للأدب والفن. ومع أن الرغبة في قتل الأطفال قد اتخذت وجوهاً متباينة عبر الزمن، فهي قد بدت في بعض مناحيها محاولة يائسة لتأبيد الاستبداد ولمنع التاريخ من التقدم. وهو ما عكسه بشكل جلي قرار فرعون قتل الأطفال الذكور، ونجاة موسى بأعجوبة من موت محتم بعد وضعه في اليم، وصولاً إلى قرار هيرودس قتل أطفال أورشليم وجوارها، منعاً لظهور المسيح المخلص، الذي بشّر بولادته الرعاة المجوس.

أدونيس

وإذا كان الكثير من الأطفال قد رزحوا وما زالوا يرزحون، خصوصاً في المجتمعات التي لا تقيم وزناً يذكر لمفاهيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان، تحت وطأة التجويع والتجهيل والتعنيف والتشريد، فإن الحروب على أنواعها تختزل بوجهها الكالح كل هذه الوجوه مجتمعة. وقد تكون الحرب الكارثية الدامية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة وأهلها وأطفالها منذ أسابيع إحدى أكثر الحروب وحشيةً وعنفاً وانتهاكاً لبراءة الأطفال وحقوقهم، في التاريخ الحديث. ومع أن قصيدة نازك الملائكة «مأساة الأطفال» تعود إلى عقود عديدة سابقة، إلا أنها بدت أشبه بقصيدة استباقية تمنت فيها الشاعرة على ملائكة العالم الصغار أن يعبوا من مباهج الحياة قدر ما يستطيعون، قبل أن تطيح حروب الكبار وضغائنهم بهذه المباهج:

امرحوا الآن في ظلال أبٍ يشقى وأمٍّ جنَتْ عليها الحياةُ

فغداً تحملون أنتم هموم العيش إذ ذاك تُسفر المأساةُ

تتشفى بكم يدُ القدر القاسي وتلقي عليكمُ بالرزايا

وتبيع الشبابَ بالأدمع الحرّى وتلهو على رفات الضحايا

وقد لا تكون قصيدة بدر شاكر السياب «الأسلحة والأطفال» هي الأولى من نوعها في مجال التنديد بفظاعات الحروب وأهوالها الكارثية، وما تتركه في أعماق البشر من شروخ وتصدعات. ولكن ميزتها الأهم تكمن في التركيز على خواء الحضارة المعاصرة، وعلى الطبيعة اللاأخلاقية للرأسمالية المتوحشة، التي تنحصر اهتماماتها في تسويق ما تنتجه مصانعها من أسلحة فتاكة، دون أن تبدي اهتماماً يُذكر بآلاف الضحايا المحتملين، وبالأطفال الأبرياء الذين يسقطون على مذبح الجشع والاستبداد والأنانيات المتفاقمة. والسياب الذي يجعل من قصيدته سردية مطولة يتعقب فيها الحروب الكابوسية للقرن المنصرم، ما يلبث أن يهتف متسائلاً:

حديدٌ، لمن كلّ هذا الحديدْ

لنصلٍ على حلْمةٍ أو وريدْ؟

وأصغي إلى الصبْية الضاحكينْ

وكالجرح إذ ينزفُ

أرى الفوّهات التي تقصفُ

تسدّ المدى، واللظى والدماءْ

ومع أن تجربة أدونيس كانت تتمحور على نحو عام حول قضايا كبرى متعلقة بأسئلة الوجود والرفض والحرية، والبحث عن أفق مغاير للفكر واللغة والحياة، فإن ذلك لم يمنعه من التفاعل مع ما شهده العالم العربي عبر عقود، من حروب وأهوال وتحولات سياسية دراماتيكية. وقد تكررت صور الحرب وفظاعاتها في أعمال صاحب «أغاني مهيار الدمشقي»، الذي عاين خلال إقامته في بيروت الفصول الأكثر دمويةً للحرب الأهلية اللبنانية، فضلاً عن الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة للوطن الواقع على خط التماس الدائم مع الزلازل.

ولا بد لمن يتفحص أعمال أدونيس أن يلاحظ احتفاءه المتواصل بالطفولة، بحيث إنها تتغلغل ببعديها الواقعي والرمزي في نسيج قصائده ونصوصه النثرية، وتشكل أحد المفاتيح الأهم للولوج إلى عوالمه النفسية والإبداعية. ومع ذلك فإن الكائن الجنيني الذي يستعجله الشاعر في كتابه «مفرد بصيغة الجمع» للخروج، عبر قوله «اخرج إلى الضوء أيها الطفل»، ما يلبث أن يصطدم حين يكبر بميل البشر المتعاظم إلى العنف الوحشي، وصولاً إلى ارتكاب المذابح اللاأخلاقية بحق الأطفال، الأمر الذي لم يتوان الإسرائيليون الغزاة عن القيام به في فلسطين ولبنان وغيرهما من بلاد العرب. غير أن ذلك الدم الطفولي النازف لن يلبث أن يصبح وفق أدونيس لقاحاً للربيع القادم، ونسغاً لضوء الصباحات الوليدة:

أحمدُ، مريمٌ، كريمٌ

نزل الموت في حيّهمْ

يتصيد آخر ما يتوالد في ماء أحلامهمْ

وأقول، أنا الراوية

إنه اللعب - الطفل، نرد الرياحْ

ولهم ما يلقّح جذع المساء بنسغ الصباحْ

ومن يتتبع تجربة محمود درويش لا بد له أن يلاحظ أنه كان واحداً من أكثر الشعراء العرب احتفاءً بالطفولة، بأبعادها الواقعية والرمزية. فهي لم تعد بالنسبة له مساحة زمنية تقتصر على السنوات الأولى من الحياة فحسب، بل هي خزان الذكريات، بقدر ما هي خط التماس اليومي مع طراوة العيش وبراءة اللغة وصفاء النظرة إلى العالم. وهي قهوة الأم وجغرافيا الروائح التي لا تنفذ، وبرعم الحنين إلى الماضي الذي يكبر في داخله «يوماً على صدر يوم». ومع تحوُّل الحنين في الحالة الفلسطينية إلى شكل من أشكال المقاومة والدفاع عن الهوية الجمعية، فقد رأى درويش أن سعي جنود الاحتلال إلى قتل محمد الدرة، اللائذ دون جدوى بجسد أبيه، هو في عمقه الأخير محاولة اغتيال مزدوجة، للعودة إلى الجذور المتمثلة بالأب وبروح الأسلاف، كما للحلم بالحرية، ممثلاً بصورة الابن. والأرجح أن الخشية مما سيصيره الطفل فيما بعد هو الذي يقف وراء ضغط الجندي الإسرائيلي على زناد الكراهية والقلق والخوف مما سيكونه الدرة الابن في المستقبل، وهو ما يعكسه الشاعر:

كان في وسع صياده أن يفكر بالأمر ثانيةً،

ويقول: سأتركه ريثما يتهجى فلسطينهُ

دونما خطأ،

سوف أتركه الآن رهن ضميري

وأقتله في غدٍ حينما يتمردْ

محمدْ

يسوعٌ صغيرٌ ينام ويحلم في قلب أيقونةٍ

صُنعت من نحاسٍ

ومن غصن زيتونةٍ

ومن روح شعبٍ تَجدَّدْ

أما الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين، فتتكرر صور الطفولة المغدورة في نصوصه ومقطوعاته، كما لو أنها واحدة من سمات تجربته أو علاماتها الفارقة. وهذه الميزة في شعره لا تعود إلى الصدفة المجردة، بل تجد تفسيرها في تعلق الشاعر بمسرح طفولته الريفية في الجنوب اللبناني، تلك الطفولة التي ما لبثت الحروب المتلاحقة أن كسرت هناءتها الفردوسية، دافعة المكان إلى التشظي، والشاعر إلى الترحل. وإذ يلح شمس الدين على تظهير صورة الطفل مقتولاً، فلأنه يريد أن يدفع المفارقة إلى ذروتها، حيث الموت يقصف الحياة لحظة انبلاجها، وحيث المسافة بين الولادة والموت لا تتعدى السنوات القليلة. والواقع أن تركيز الشاعر على إلباس أطفاله الموتى لبوس النوم أو النعاس، ما هو إلا إذكاء مضاعف للشعور بهول الحدث، الذي يستعصي لشدة فظاعته على التصديق. ويصب في الخانة نفسها استحضار الألعاب والرسوم والأزهار والدمى إلى مسرح الموت، كما في قصيدة «نوم هشام»، التي يقول فيها:

لهشامْ

غنت أزهار الحقل طويلاً

لكنّ الأزهار المرسومة في دفتره ناحتْ

وبكى القلم المكسورْ

وبكت لعبتهُ..

وفي قصيدته «أغنية كي تنام زينب»، التي كتبها الشاعر في رثاء الطفلة التي قضت نحبها في إحدى المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ذات اجتياح سابق للجنوب اللبناني، لا يبتعد شمس الدين، صوراً وإيقاعاً وحقلاً معجمياً، عن مناخات القصيدة السابقة، بل تبدو إحداهما استكمالاً للأخرى، وتنويعاً على عوالمها ومناخاتها المؤثرة. والأرجح أن لجوء الشاعر إلى استخدام إيقاع الخبب في القصيدتين معاً، ناجم عن رغبته في محاكاة الإيقاع السريع والمرح لحركات الأطفال من جهة، وفي محاكاة الطقوس المتداخلة لثنائية الجنازة - الكرنفال:

زينبْ

جرسُ المدرسةِ - الخوفُ

الكتبُ - الخوفُ

القلم المكسورُ الممحاةُ، لماذا؟

من ألبسكِ الثوب الأسودَ؟

من قصَّ ضفيرتكِ الشقراءَ وقصّ الشفةَ المرجانة؟

قومي نلعبْ

قبل رحيل الأشجارْ


يورغن هابرماس... الذاكرة المثقوبة

هابرماس
هابرماس
TT

يورغن هابرماس... الذاكرة المثقوبة

هابرماس
هابرماس

قد يبدو بيان الفيلسوف يورغن هابرماس حول أحداث غزة غرائبياً، ومثيراً للجدل حول علاقة الأفكار بالحقائق، والأخلاق بالوقائع، والوعي بالأناسة، فما تضمنه البيان من مواقف وتصورات يكشف عن إشكالية تشوهات الوعي، أو توظيفه بشكلٍ قصدي خارج السياق العمومي للفلسفة، فالفلسفة لا تحمي من الخطيئة، بل إن توظيفها في تغذية أفكار الكراهية والعنصرية والشوفينية والعصابية يجعلها أكثر خطراً من ممارسات «النازية والفاشية» لأنها ستذهب بالمعرفة إلى تغذية صناعة العنف، وإلى تسويغها بوصفها جزءاً من آليات الدفاع عن النوع الأوروبي، أو النوع الغربي.

رهانات الخطاب الأخلاقي في فلسفة هابرماس ارتبطت بأفكاره عن «الخطاب التواصلي»، والقطع بينهما يعكس خللاً في معرفة علاقة الأفكار بتلك الأخلاق، وبكلِّ قيم الحق والسلام والعدالة، حتى بالعلاقة مع «الحداثة المتواصلة» التي دأب هابرماس على الترويج لها، بوصفها حداثة «الإنسان الأخلاقي» والدفاع عن وظائفها التي يمكن أن تؤديها في سياق تبنيها لقيم المجتمعات الحديثة، أي مجتمعات الديمقراطية والسلام الأهلي والتنوع و«المجال العمومي».

هذا الاستهلال لا يعني طرح جدل حول أطروحات الفيلسوف يورغن هابرماس، ولا البحث عن علاقة أفكاره بالحقيقة، بقدر هو تعريف بـ«الخطيئة المعرفية» التي سقط فيها الرجل ذو العمر التسعيني في بيانه الغريب، الذي يشي بموقفٍ يعكس هشاشة «المعرفة التاريخية» بما يجري بكثير من الصراعات التي تجري في العالم، وعن ضحايا ما تصنعه الرأسمالية والعنصرية من حروب، وبطبيعة تلك الحروب البشعة التي لها مغذياتها السياسية والثقافية.

البيان الذي أصدره هابرماس مع نيكولا ديتلهوف وكلاوس غونتر ورينر فورست حول أحداث العدوان الإسرائيلي على غزة، أعادنا إلى فكرة الثقافة المرآوية التي يطرحها الغربُ حول نفسه، إذ صنع مرآة ضخمة متخمة بالأنوية وبفلسفات التعالي، حيث لا ترى فيها الآخرين، وبما يجعل الرؤية قاصرة، وتتمحور حول مركزية ذلك الغرب، وحول خطابه الأخلاقي، وحول نظرياته البراغماتية التي تجعل الأخلاق في خدمة المصالح، ومن «العقل التواصلي» مجالاً لتمثيلِ نخبٍ ينتقي التواصل معها، بعيداً عن أنسنة المفهوم، وعن أطروحات «جماعة فرانكفورت» بنزعات فلسفاتها العقلانية والنقدية واليسارية وعقدة «الطرد» النازية التي صنعت مهجرها الأميركي، فنقلتها من الحضن الماركسي إلى الحضن الرأسمالي.

تجزئة ما يجري في غزة، وإخراجه عن سياقه التاريخي، يُعدُّ مثلبة في توصيف هابرماس لـ«الحرب» التي قال عنها غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة إنها لم تأتِ من فراغ، والاكتفاء بربطها بحادث هجوم «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) على المستوطنات، التي هي مناطق احتلال حسب القانون الدولي.

موقف هابرماس يتقاطع مع كل مرجعياته حول الخطاب الأخلاقي والمبادئ الإنسانية

تضامن هابرماس مع الهجوم البشع لقوات الاحتلال الإسرائيلي لا يكشف عن موقف خلافي، بل عن ذاكرة مثقوبة، موقف ينشقُّ ويتقاطع مع كل مرجعيات هابرماس حول الخطاب الأخلاقي، والمبادئ الإنسانية، وكأنها فعلاً توكيد لما كتبه الناقد السعودي محمد العباس حول «هابرماس... الوعي المنشق على نفسه»، إذ يبدو هذا الانشقاق «هروباً من الزمن السياسي إلى الفراغ»، ونقضاً لما ينبغي أن يعرفه فيلسوف «تنويري» مثل هابرماس عن تلازم هذا التنوير مع الفضيلة ومع حق الآخرين بالحياة، وعن علاقته بقيم النقد والعقل والشرط الإنساني، وأن ما طرحه في البيان حول «المبادئ» و«التضامن» كان تعامياً عن تلك الحقائق، فبدا كأنه نوع من الكوميديا السوداء، التي تقوم على بنية درامية مأزومة ومفارقة، وعلى شخصيات مسكونة بالعدمية، فالعدوان في غزة لا علاقة له بـ«الدين» كما يريد هابرماس أن يصوره كنوعٍ من «معاداة السامية»، بل إنه جزء من صراع تاريخي بين كيان محتل، وشعب يعيش رهابات الحصار والعنف والقتل اليومي والطرد من أرضه.

إن تسويغ هابرماس للعدوان الإسرائيلي بعد أكتوبر تغافلٌ عن رؤية الحقيقة، مثلما هو ليس بعيداً عن عُقد بعض المثقفين الألمان المسكونين برعب معاداة السامية، كما حدث مع غونتر غراس ومارتن هيدغر، حيث تحولت هذه المعاداة الموهومة إلى فوبيا ثقافية عالقة بذاكرة «الهولوكوست»، وإلى حساسية مفرطة جعلت من الفيلسوف التواصلي «الخائف» يسرع للتضامن مع «إسرائيل» دون أيّ مراجعة، أو توازن في النظر إلى تاريخية الصراع الفلسطيني ضد الاحتلال «الإسرائيلي» وإلى ما كان يدافع عنه، وهو يُفلسف ويدافع عن أغطية أخلاقية لأطروحات شائعة حول الحداثة والتنوير والتقديم والمجتمع الدولي والليبرالية وغيرها.

دفاع هابرماس عن الوجود الإسرائيلي، وعن سياساته، وعن أنموذجه العصابي يأتي في سياق الوعي المتعالي لنزعة «الأوربة» الغربية، التي جعل «إسرائيل» مثالاً لسياقها كـ«نتاج حضارة أوروبية، كما وصفها في محاضرته في قاعة المحاضرات في الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات في القدس عام 2012». وهذا ما يجعل «بيانه الجديد» الفاضح تتمةً لتلك المواقف السابقة التي تصبُّ في تأييد الصناعة المثيولوجية لـ«الدولة العبرية» بمرجعيات خطابها الديني الذي يناقض في جوهره أفكار هابرماس التنويرية والأخلاقية والنقدية، حتى أطروحاته حول الدولة المدنية والتعايش العمومي في فضائها الإنساني.


أطفال الألعاب النارية!

أطفال الألعاب النارية!
TT

أطفال الألعاب النارية!

أطفال الألعاب النارية!

شكراً لكم!

احتفالاتكم كانت باهرة

ألعابكم النارية ملأت الفضاء ألواناً

تسلى بها أطفالنا كثيراً،

فرحوا واستمتعوا جداً

حتى أن دموعهم صارت غيوماً وقوس قزح

ذابوا حباً حتى صاروا عسلاً

واختفوا في شقوق الأرض

قد يظهرون غداً وروداً أو نحلاً يقطر مرارة

اليوم نبتت لهم أجنحة وطاروا إلى السماء

ملوحين ممتنين لكم ولنا

فنحن أيضاً

صنعنا المسرح، جلبنا المهرج،

وبعنا فراشات الحقل للعطارين!

كرمكم كان هائلاً

أرهقتم أنفسكم

الأطفال لا يحتاجون طائرات فانتوم للعبهم

تكفيهم طائرات ورقية، وحفنة حلوى

لكن خزائن البنوك عندكم تفيض دائماً

يا لهذا السيرك!

أفلتت فيه الأسود والنمور من أقفاصها وداعبت الأطفال برفق عظيم

لطفكم فاق تماسيح الأوحال

أغرق الشاشة بوجوه قادتكم

يرقصون في وليمة لا يعرفون

لمن لحمها وعظامها ونبيذها!

أطل العالم عليكم كعجوز ترى ذئباً يراقص قبرها

شكراً لكم

اعتصرتم لأطفالنا زيت قناديل المعابد القديمة

لتبق النار مشتعلة وهم يصعدون

نحن آباؤهم لا نعرف إلى أين يصعدون

الآن نغط في نوم عميق

لن نجوع، ولن نبرد بعد الآن

أبد الدهر سنظل نضحك بأسنان سوداء دون شفاه

جوف الأرض، رحم آخر

وقد نولد مرة أخرى

سنوفر جمراً كثيراً لمن سيأتي

شكراً لكم

صنعتم أطفال الألعاب النارية

حتى نحن لا نعرف كيف سيردون لكم هذا الجميل!