إدغار آلان بو... الكتابة على حافة الجنون!

كان تأثيره كبيراً على الأدبَين الفرنسي والروسي... بالإضافة إلى الأميركي والإنجليزي

ادخار ألان بو
ادخار ألان بو
TT

إدغار آلان بو... الكتابة على حافة الجنون!

ادخار ألان بو
ادخار ألان بو

كان إدغار آلان بو واحداً من أعظم الكُتّاب الأميركيين في القرن التاسع عشر وربما في العصور كلها. فهو المشهور بكتابة القصة القصيرة الخارقة. وهو أول مَن دشّن كتابة الرواية البوليسية، رواية الرعب والتشويق والإثارة، في الآداب الأميركية والعالمية. وهو شاعر فذ لا يشق له غبار. وهو ناقد أدبي من أعلى طراز. وهو منظر للشعر والنثر. فمَن هو هذا الشخص النكرة التعيس الذي تحوّل إلى أسطورة لاحقاً؟

وُلد إدغار آلان بو عام 1809 في مدينة بوسطن، ومات عام 1849 في مدينة بالتيمور عن عمر لا يتجاوز الأربعين إلا قليلاً. ومع ذلك فقد ملأ الدنيا وشغل الناس. ومعلوم أن الشاعر الفرنسي الشهير بودلير كان يعدّه من أعظم الكُتّاب ولا يحلف إلا باسمه، وقد أمضى عمره في ترجمة أعماله إلى اللغة الفرنسية. ولا تزال ترجمته مستخدمة ومعتمدة حتى الآن. وهي من أرقى وأعظم الترجمات الأدبية. شاعر عبقري يترجم شاعراً عبقرياً آخر! كان بودلير يستغرب ويستهجن، بل ويستنكر؛ لأن جل المثقفين الفرنسيين لا يعرفونه أو لم يسمعوا به. كان عندما يدخل المقهى يسأل أحدهم: ما رأيك بإدغار آلان بو؟ فيجيبه الآخر: مَن هو هذا الشخص؟ بحياتي لم أسمع به. فيستشيط غضباً ويكاد يهدده أو حتى يضربه بالعصا بسبب ذلك.

هذا، وقد فقد إدغار الآن بو أمه وأباه بعد سنة أو سنتين من ولادته. وبالتالي فهو يتيم الأم والأب ولا يتذكر شيئاً عن عائلته. وهو من هذه الناحية يشبه جان جنيه الذي أمضى حياته كلها في البحث عن أمه الخادمة البسيطة التي ما إن وضعته في أحد المستشفيات حتى اختفت في لجة الحياة. قصة أسطورية من أروع ما يكون. تصوروا لو أنه رأى أمه ولو مرة واحدة فقط! حتى قبل موته بخمس دقائق كان ينتظرها. أما والده فلم يبحث عنه لحظة واحدة ولا يهمه أمره لا من قريب ولا من بعيد. ولكن هذه مسألة أخرى. فلنعد إلى صاحبنا. لقد تبنته عائلة أميركية غنية، وعطفت عليه والتقطته من الشارع تقريباً. وقد درس في أحسن المدارس الأميركية، وابتدأ يهتم بالأدب منذ نعومة أظفاره كما يقال. ولكن والده بالتبني ابتدأ ينزعج منه بسبب شخصيته الفخورة والقوية. يضاف إلى ذلك أنه كان يريد أن يصنع منه تاجراً، أما هو فلم يكن يفكر إلا بالشعر والأدب. وعلى هذا النحو ابتدأت الخلافات بينهما.

قال له في عز الشجار: والله لن أتخلى عن مهنة الأدب حتى ولو منحوني كل ذهب كاليفورنيا! لن أتخلى عن أنبل وأشرف مهنة في العالم. ما علاقة البيزنس والأدب! فرق بين السماء والأرض. كانت العرب تقول: أدركته حرفة الأدب: أي انتهى وأصبح فقيراً جائعاً. وهل الأدب يطعم خبزاً؟ ما هذه السخافة؟ أين هو أبو حيان التوحيدي الذي مزّق كتبه في آخر حياته لأنه مات جائعاً؟ واحد من أعظم كتاب النثر العربي على مرّ العصور لا يجد لقمة خبز. عالَم مختل. عالَم مجنون. متى سيخرج العالَم من الظلمات إلى النور؟ وفي هذه اللحظات بالذات يكاد يجن جنون العالم. لكن لنعد إلى صاحبنا المنحوس. لقد ابتُلي بالمصائب والويلات منذ نعومة أظفاره. فأخوه الشقيق مات وأخته المقعدة كذلك. وكل مَن حوله يتساقط وينهار... والفقر والجوع... وفي الوقت ذاته رفضته خطيبته بعد أن أقنعها والدها بالزواج من رجل غني لا من متسكع فقير لا مستقبل له. قال لها ما معناه: «والله أنتِ مجنونة! مَن يتزوج شاعراً؟ وما معنى الشعر؟ ما معنى كل هذه السخافات والخربشات والتفاهات؟». وهكذا انسدت الأبواب في وجهه وابتدأت المصائب تنهال على رأس كاتبنا الكبير المقبل من كل حدب وصوب. وهي التي ستجعل منه أكبر كاتب في عصره. شكراً للمصائب والفواجع! أكاد أقول شكراً للكوارث والنكبات! فلولاها لما كانت هناك كتابات عبقرية ولا من يحزنون. وهذا الشيء ينطبق على الشعوب أيضاً وليس فقط على الأفراد. فالشعوب التي تعذبت وعانت أكثر من سواها تتحول إلى جبابرة، وهي التي تصنع التاريخ وتقود العالم لاحقاً. وعلى غرار «عظة الجبل» الشهيرة للسيد المسيح يمكن أن نقول: «طوبى للمظلومين المفجوعين المتناثرين أشلاء فإن لهم ملكوت السماوات».

في عام 1827 نشر أولى مجموعاته الشعرية وهو في الثامنة عشرة فقط. ولكن لم يُطبع منها إلا خمسون نسخة. ولم ينشرها باسمه الشخصي وإنما باسم مجهول هو: «شخص من بوسطن». ولم يهتم بها أحد. وهذا ما يحصل لعباقرة عديدين في الواقع. ففي البداية نادراً أن تعرف الناس قيمتهم. إنهم يجيئون قبل الأوان. بعد أن يموتوا نحتفل بهم ونقيم لهم المهرجانات وننصب لهم التماثيل. بل ونشتري لوحاتهم بمئات الملايين من الدولارات كما حصل لذلك المجنون الكبير الآخر: فينسنت فان غوخ! هل تعلمون أن هذه المجموعة الشعرية الأولى لإدغار آلان بو بيعت أخيراً في نيويورك بمبلغ 662500 دولار. فما بالك بقصيدة «الغراب» الأشهر بما لا يقاس؟ ما بالك بالنصوص الأخرى العبقرية؟ لو أنها أُعطيت له في حياته لما عاش على حافة الفقر المدقع طيلة حياته كلها.

لقد أصبح إدغار آلان بو رمزاً للشاعر الملعون أو المنحوس أو المنبوذ، سمه ما شئت... ولهذا السبب كان يعجب بودلير كثيراً لأنه رأى نفسه فيه. ومعلوم أن بودلير كان من أكبر الهامشيين المتسكعين في شوارع باريس. وعن تلك التسكعات اللانهائية نتجت أعظم قصائد الشعر الفرنسي. هو أيضاً كان يعيش على حافة الهاوية.

أصبح إدغار آلان بو رمزاً للشاعر الملعون أو المنحوس أو المنبوذ سمه ما شئت... ولهذا السبب كان يعجب بودلير كثيراً لأنه رأى نفسه فيه

ثم ألقى إدغار آلان بو محاضرة مهمة جداً عن «مبدأ الشعر» أو عن «الفن الشعري». كان ذلك أمام جمهور ضخم يصل إلى ألفي شخص! وعندئذٍ تألقت عبقريته وتوهجت. وفيها يلخص نظريته العامة عن الشعر. ومعلوم أنه كان، ككل شاعر كبير، ناقداً كبيراً أيضاً، أي فيلسوفاً (فلسفة الشعر، جوهر الشعر!). انظروا بودلير أو ريلكه أو رامبو أو رينيه شار... إلخ. كان يقول ما معناه: الوعظ الأخلاقي شيء والإبداع الشعري شيء آخر مختلف تماماً. وهذا ما قاله الأصمعي عندنا قبله بمئات السنين: «الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل في باب الخير فسد». عبارة قاطعة مانعة لا تناقش ولا ترد. العرب هم أصل النقد الأدبي والعبقرية الشعرية والفكرية. ثم كان شاعر الأميركان الأكبر يقول هذا الكلام المهم: الكون كله عبارة عن قصيدة إلهية متقنة الصنع والجمال. ولكن بما أن الإنسان أعمى عن رؤية بديع خلق الله فإن الشاعر، بحدسه النفاذ وخياله الخلاق، هو المسؤول عن تعريف البشرية بجمال هذه القصيدة الكونية.

من أكثر الأشياء التي تدل على عظمة إدغار آلان بو هو أنه حزن حزناً شديداً على وفاة زوجته «فرجينيا» التي ذهبت في الرابعة والعشرين من عمرها فقط. لقد قبضوا عليه أكثر من مرة وهو جالس إلى جانب قبرها بعد منتصف الليل. لم يكن هناك شيء يعزيه عن رحيلها. كان يتساءل: هل سيلقاها في العالم الآخر يا ترى؟ هل هناك حياة أخرى بعد الموت؟ كتب إلى عمته قائلاً: لا أستطيع أن أتحمل الحزن عليها. هذا فوق طاقتي. لا أريد أن أعيش ساعة واحدة بعدها. قد تقولون: وما الغرابة في ذلك؟ شخص يتفجع على زوجته... وأجيبهم: أعرف أشخاصاً فرحوا فرحاً شديدا (في عبهم طبعاً!) عندما ماتت زوجاتهم لكي يعرسوا بسرعة البرق فيما بعدها.

أخيراً، لقد كان تأثير إدغار آلان بو على الآداب العالمية كبيراً، خصوصاً على الأدبَين الفرنسي والروسي، هذا ناهيك عن الأميركي والإنجليزي. ويعترف بودلير ومالارميه بتأثيره عليهما، وكذلك يعترف دوستويفسكي وآخرون كثيرون. ويبدو أنه كان يكتب على حافة الهاوية، على حافة الجنون. وهل هناك فرق بين العبقرية والجنون؟ أليس العالم كله مجنوناً؟ مَن يستطيع أن يكتب الآن نصاً خارقاً يستطيع أن يرتفع إلى مستوى جنون العالم؟!


مقالات ذات صلة

اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا يكرّم ورثة مبدعين ومفكرين

يوميات الشرق اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا يكرّم ورثة المبدعين (إدارة الاتحاد)

اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا يكرّم ورثة مبدعين ومفكرين

تحت عنوان «أبناء وأحفاد»، أطلق اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية مبادرة تهدف إلى تكريم نماذج مختارة من أبناء وأحفاد كبار الأدباء والعلماء والمفكرين.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
ثقافة وفنون أرنست رينان

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أثار المفكر المرموق أنور عبد الملك في حينه (1962) موضوعاً مهماً، وهو يعرض لأزمة الاستشراق.

د. محسن جاسم الموسوي
ثقافة وفنون جوهر التاريخ وروح الأسطورة في منعطفات النص

جوهر التاريخ وروح الأسطورة في منعطفات النص

منذ رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، وحتى أعمال إلياس خوري، وقبلهما التوحيدي والجاحظ، هناك أنواع متعدّدة من السرد.

قاسم حداد
ثقافة وفنون «المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثالان من متحف البحرين الوطني بالمنامة (مقبرة الحجر الأثرية)

سيّدتا الحجر تحافظان على سرّ هويتهما الفنية

كشف أثري بمقبرة في بلدة بالبحرين، تم العثور فيها على تمثالين أنثويين في مدفن فارغ من أي عظام بشرية، ويتميّزان بأسلوب فني فريد من نوعه.

محمود الزيباوي

بيير بايل... مثقف بروتستانتي في فرنسا الكاثوليكية

 بيير بايل
بيير بايل
TT

بيير بايل... مثقف بروتستانتي في فرنسا الكاثوليكية

 بيير بايل
بيير بايل

أكبر خطيئة نرتكبها نحن المثقفين العرب هي إقامة المقارنة بين مجتمعاتنا العربية الإسلامية الحالية ومجتمعات الغرب المتطورة التي تجاوزت كلياً مشكلة الأصولية الدينية الطائفية. هذا ما يدعوه المؤرخون بالمغالطة التاريخية. ينبغي أن نقارن ما تمكن مقارنته، لا ما تستحيل مقارنته. بمعنى آخر، وبالعربي الفصيح، ينبغي أن نقارن أوضاعنا الحالية بأوضاعهم قبل 300 سنة حتى 400 سنة عندما كانوا لا يزالون يتخبطون في صراعاتهم الطائفية والمذهبية... عندئذ تصبح المقارنة ممكنة ومشروعة. ففي القرن السادس عشر أو السابع عشر، كانوا يعانون مما نعاني منه نحن حالياً؛ أي الحروب الطائفية والأحقاد المذهبية والذبح على الهوية. وأكبر دليل على ذلك سيرة حياة المفكر الفرنسي البروتستانتي بيير بايل الذي عاش في نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر (1647 - 1706). في ذلك الوقت كانت فرنسا كاثوليكية في غالبيتها الكبرى. ولكنها كانت تحتوي على أقلية بروتستانتية لا يستهان بها وتحاذي 20 بالمائة. وقد شاء له الحظ العاثر أن يولد في أحضان الأقلية لا الأكثرية. ولذلك هرب من الاضطهاد الطائفي من بلد إلى بلد حتى استقرت به الأمور في بلاد بروتستانتية مثله، هي هولندا. لقد عانى هذا المفكر الكبير من التعصب الديني إلى درجة أنه أمضى حياته كلها في مكافحته وتحليله وتفكيكه بغية الخلاص منه. فمن هو بيير بايل يا ترى؟ إنه الرائد الأول الذي سبق فلاسفة التنوير الكبار وأرهص بهم. فقد جاء قبلهم بقرن من الزمن. لقد مات عام 1706 في حين أن فولتير ولد عام 1694، أي قبل 10 سنوات من وفاته أو أكثر قليلاً. ومعلوم أنه كان يحبه كثيراً ويستشهد به كمرجعية فكرية كبرى بالنسبة له. ولكن الشهرة ذهبت لفولتير، لا إلى بيير بايل. فمن يعرف اسم بيير بايل في العالم العربي؟ لا أحد تقريباً. لقد كان بيير بايل مع الفيلسوف الإنجليزي جون لوك أحد المفكرين الكبار الذين ساهموا في انبثاق فكرة التسامح الديني وتجاوز الطائفية والمذهبية في أوروبا. وكان ذلك إبان احتدام الصراعات المذهبية بين البروتستانتيين والكاثوليكيين. وكان أول منظر يدعو إلى التسامح مع الجميع، بل كان يدعو إلى التسامح مع غير المتدينين، أي الأشخاص الذين لا يلتزمون بالطقوس والشعائر المسيحية. وبالتالي، فقد كان سابقاً عصره كثيراً. ومعلوم أن الرواد يجيئون قبل الأوان لكي يشقوا للآخرين الطريق. ولكنهم يعانون كثيراً بسبب ذلك ويدفعون الثمن غالياً.

كان بيير بايل ينتمي إلى الأقلية البروتستانتية الفرنسية. بل كان أبوه رجل دين، أي قساً بروتستانتياً. ولكن بايل الشاب غيّر مذهبه عام 1669 عندما أصبح طالباً في المعهد اليسوعي الكاثوليكي بمدينة تولوز. وذلك لكي يلتحم بالأغلبية الكاثوليكية وينجو من الاضطهاد والاحتقار الطائفي الذي تمارسه عادة الأغلبية على الأقلية. ثم اكتشف بعدئذ أنه أخطأ، لأن المذهب البروتستانتي كان أكثر تقدمية واستنارة من المذهب الكاثوليكي آنذاك. فعاد إلى مذهبه الأصلي بعد 18 شهراً فقط من اعتناقه للكاثوليكية البابوية. وهكذا خاطر بنفسه، لأن الملك لويس الرابع عشر كان يرفض أي ارتداد عن الكاثوليكية التي تشكل المذهب الرسمي للبلاد. وبالتالي، فقد أصبح الرجل مرتداً لأنه عاد إلى حضن «الهرطقة والزندقة» من جديد. وويلٌ لمن يفعل ذلك في فرنسا الكاثوليكية. سوف يباح دمه مباشرة.

ينبغي العلم أن صاحب المذهب البروتستانتي كان يعدّ زنديقاً مهرطقاً في ذلك الزمان، على الرغم من إيمانه بالمسيح والإنجيل كالكاثوليك. ولكن كانت هناك بعض الخلافات اللاهوتية التفصيلية الهامة مع الكاثوليك. علاوة على ذلك، فقد كان تفسيره للدين المسيحي أكثر عقلانية واستنارة، كما ذكرنا. ولذلك كانوا يكفرونه ويكفرون أتباعه ويحلّون دمهم. وقد عانوا من المجازر ما عانوه، ثم اضطروا إلى الفرار بمئات الألوف إلى الدول البروتستانتية المجاورة كإنجلترا وألمانيا وهولندا... ينبغي العلم أن جميع ملوك فرنسا كانوا يعتلون العرش، ويتم تنصيبهم الرسمي والشرعي في كاتدرائية مدينة «رانس» الشهيرة، التي طالما مررت أمامها وتأملت بمعانيها وشموخها، عندما كنت أقيم في تلك المدينة الصغيرة الوديعة التي تبعد عن باريس مسافة 45 دقيقة بالقطار. كانوا جميعاً يحلفون القسم التالي أمام الجمهور الكبير المحتشد داخل الكاتدرائية: «أقسم بالله العظيم سوف أستأصل الأقلية البروتستانتية المهرطقة الكافرة عن بكرة أبيها. سوف أنظف أرض المملكة الفرنسية الكاثوليكية الطاهرة من رجسهم وضلالهم». بهذا المعنى. كان آخر من أقسم هذا اليمين هو لويس السادس عشر، الذي أطاحت به الثورة الفرنسية عام 1789. وعندئذ أخذ البروتستانتيون حقوقهم كمواطنين لأول مرة في التاريخ الفرنسي. عندئذ نصّ الإعلان الشهير لحقوق الإنسان والمواطن على ما يلي: ممنوع بعد اليوم منعاً باتاً أي تمييز بين إنسان وآخر على أساس طائفي. ممنوع إقلاق أي شخص أو إرعابه بسبب انتماءاته الدينية أو المذهبية. ممنوع تعييره واحتقاره لأنه لم يولد كاثوليكياً. الجميع أصبحوا مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، بمن فيهم البروتستانتيون، حتى اليهود. هذا ربيع حقيقي، هذا ربيع أنواري وتنويري. هذه ثورات حقيقية تقذف بك إلى الأمام، لا كذلك الربيع العربي القرضاوي التكفيري، الذي أوشك أن يعيدنا قروناً إلى الوراء.

لكن لنعد إلى بيير بايل وقصته. بعد أن تراجع عن المذهب الكاثوليكي وعاد إلى مذهبه الأصلي البروتستانتي عرف أنه أصبح مهدداً بالقتل فهرب إلى هولندا البروتستانتية مثله، واستقر في مدينة روتردام. وهناك وجد وظيفة كمدرس لمادتي الفلسفة والتاريخ. وراح ينشر مجلة أيضاً تحت عنوان «أخبار جمهورية الآداب». ومعلوم أن هولندا كانت في ذلك الزمان أكثر بلدان أوروبا تسامحاً وحرية، بالإضافة إلى إنجلترا. وإليها كان يلجأ الفلاسفة لكي يعبروا عن أفكارهم وينشروا كتبهم، كما فعل ديكارت مثلاً. نقول ذلك على الرغم من أنه كان كاثوليكياً ينتمي إلى مذهب الأغلبية، ولا يعاني في فرنسا من الاضطهاد الطائفي الذي أصاب بيير بايل وبقية أبناء الأقليات. ولكن ما كان يستطيع أن يتنفس بحرية ويبلور فلسفته الجديدة داخل جدران المملكة الفرنسية الكاثوليكية البابوية، التي كانت ظلامية متزمتة جداً في ذلك الزمان.

إن تجربة بيير بايل الشخصية في تغيير مذهبه واعتناق المذهب المعادي ثم العودة إلى مذهبه من جديد برهنت له على عبثية الإكراه في الدين. فالإنسان يعتقد أن دينه أو مذهبه هو وحده الصحيح، ولكنه لو ولد في الدين الآخر أو المذهب الآخر لاعتقد ذات الشيء أيضاً. المسيحي لو ولد في الهند لكان بوذياً أو هندوسياً براهمانياً، ولو ولد في الصين لكان كونفشيوساً... إلخ. ولهذا السبب عدّ بيير بايل أن الأمور نسبية وراح يتبنى مبدأ التعددية وحرية الضمير فيما يخص المعتقد الديني.

لقد ألف بيير بايل عدة كتب، شهرته وجعلته مقروءاً بكثرة طيلة القرن الثامن عشر، أي عصر التنوير الكبير. فقد راح فلاسفة التنوير من أمثال فولتير وديدرو وجان جاك روسو والموسوعيين يستشهدون بها لدعم مواقفهم المضادة للتعصب الديني والأصولية الكاثوليكية البابوية. نذكر من بين مؤلفاته كتاباً بعنوان «ما معنى فرنسا الكاثوليكية المتعصبة في عهد لويس الكبير؟» أي لويس الرابع عشر أعظم ملوك فرنسا وباني قصر فرساي الشهير. وفي هذا الكتاب يشنّ بيير بايل حملة شعواء على هذا الملك الجبار، الذي حاول استئصال البروتستانتيين عن بكرة أبيهم... كما انتقد بعنف التعصب المذهبي الذي كان سائداً في فرنسا آنذاك. وصبّ جام غضبه على الإخوان المسيحيين الكاثوليكيين الذين كانوا يكفرون الآخرين في كل أرجاء المملكة الفرنسية التوتاليتارية الإرهابية، التي تجبر الناس كلهم على اعتناق مذهب واحد غصباً عنهم. ثم نشر كتاباً آخر بعنوان «مرافعة من أجل الدفاع عن حقوق الضمير التائه» أي الضمير الحرّ في الواقع... إلخ. ولا ننسى كتابه الأكبر والأهم «القاموس التاريخي والنقدي» الذي فكّك فيه كل العصبيات الطائفية والفتاوى التكفيرية بشكل فلسفي دقيق ومقنع. وقد مارس هذا الكتاب الضخم تأثيراً كبيراً على جميع فلاسفة الأنوار اللاحقين.

كل هذه الكتب أزعجت الملك الكاثوليكي والسلطات الكنسية أيما إزعاج. فانتقموا منه عن طريق قتل أخيه «يعقوب بايل» في السجن، لأنهم كانوا عاجزين عن الوصول إليه هو شخصياً بسبب التجائه إلى المنفى الهولندي البعيد الخارج عن إرادتهم. والواقع أنهم عرضوا على أخيه اعتناق المذهب الكاثوليكي في آخر لحظة قبل تصفيته لكي ينجو بجلده، ولكنه رفض وعندئذ قتلوه. كانت الحزازات المذهبية على أشدّها آنذاك في فرنسا. ولكنها اختفت الآن نهائياً، ولم يعد لها أي وجود. وكل ذلك تم بفضل جهود الأنوار وفلاسفة الأنوار، وعلى رأسهم بيير بايل الذي سيستلم فولتير الشعلة منه، ويشنّ حرباً ضارية على الأصولية الكاثوليكية والتعصب الطائفي الأعمى كما هو معلوم.