«حقائق الحياة الصغيرة»... أننا نعيش في الزمان الخطر وفي المكان الخطر

فضّل الروائي أجواءً شعريّة لا سرديّة ليقدم شهادة عن طبيعة حكم صدام حسين

«حقائق الحياة الصغيرة»... أننا نعيش في الزمان الخطر وفي المكان الخطر
TT

«حقائق الحياة الصغيرة»... أننا نعيش في الزمان الخطر وفي المكان الخطر

«حقائق الحياة الصغيرة»... أننا نعيش في الزمان الخطر وفي المكان الخطر

ربما كان الاستيطيقا (علم الجمال) أصعب العلوم، ولا يعرف أحدنا الجواب عن هذا السؤال: متى يُعدّ العمل أدباً؛ أي فنّاً يشكّل السحر والحياة كيانه وقائمته؟ «إنّ كتاباً يعجبني يشبه امرأةً وقعتُ في حبّها»، لا أتذكّر من قال هذا، هناك سحرٌ يشدّنا إلى الكتاب يشبه غواية المرأة، وكلما تعمّق الكاتب في الأدب، فقد ارتباطه بالواقع، وصارت علاقته بأرضين وسماء مرّ بها آخرون ولم يرَها أحد غيره، ومهمّة الأديب هي نقل تفاصيل العالم الجديد إلى القارئ، وهذا جزء من الجواب بالطبع وليس كلّه...

لعالم اللغة مهدي المخزومي عبارة يحفظها القلب أوّل ما تقع عليها العين: «إذا أردتَ أن تكون مُعاصِراً، فاسكُنْ في القديم»، وأنا أسير على هذا الخطّ منذ زمن طويل، فأقرأ الأدب القديم وأعيد القراءة، ويحصل أحياناً أن ترَدني مؤلّفات عن طريق الإهداء، أو يفوز كاتب بإحدى الجوائز، أو يلمع اسم أحدٍ آخر، وأقول عندها لنجرّب حظّنا مع الجديد في عالم الكتابة؛ في ما يخصّ الكتب المؤلّفة بلغتنا لا تصمد معي أغلب هذه المؤلفات طويلاً، ويكون مصيرها أنها تُركنَ جانباً، ثم تُهمل.

قرأت رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للأديب البصريّ لؤي حمزة عباس في جلسة واحدة، لطلاوة وسحر اللغة، وللجوّ الحميم الذي يسود جلّ الصفحات. وهو يُقدم على تأليف الرّواية، كانت لديه رغبة شديدة في تقديم موعظة مفادها أننا نعيش في الزمان الخطر، وفي المكان الخطر، وأن هلاكنا محتوم؛ لأن القتلة يعربدون بكامل قيافتهم داخلَ الوطن، ويطالون الجميع دون استثناء، وليس هذا فحسب؛ بل إن القتيل يمكنه أن يكون قاتلاً ذات يوم. عندما يصير الفرق بين الخير والشرّ معدوماً، تتلوّن الأرض بالرّمادي القاتم والفاتح، وكذلك السّماء. إن الشّعور بالوجود أمرٌ غامض جدّاً، وإذا كنت من سكّان هذه البقعة من الأرض، يكون الأمر أعقد؛ لأنه لا شيء يوجد غير ضوء النجوم في السماء العُليا، وبريق عيون الجرذان في الأرض السُّفلى، وبين هذين النورين نعيش في عتمة متأصّلة وتمتدّ كأنما إلى الأبديّة. هذا ملخّص رواية «حقائق الحياة الصغيرة» الصادرة في العام الماضي عن «دار المتوسّط». ربما اختار الكاتب قلماً مجعّداً ليكتب به عن هذا الزمن المجعّد، من أجل أن يقول لنا روايته بهذه الصورة... كلّ فصل منها لا يتجاوز الصفحة في الغالب، وتبدو الصفحات مثل رسائل شخصيّة إلى القارئ. رغم الوجع الحامي الذي نتلمّسه في الحروف، فإن الحميميّة في اللّغة المستعملة خفّفت كثيراً من الألم الذي يكابده من يطّلع عليها.

يعيش بطل الرواية خارج المجتمع البصري (نسبة إلى البصرة مدينة المؤلف) مثل راءٍ أو شامان، ينظر إلى كلّ شيء من أعلى وأسفل ومن جميع الجهات، ولديه ذاكرة تسجّل كلّ شيء، وتنقله إلى فصول قصيرة تتكوّن منها الرواية، وتبلغ 82 فصلاً، كلّ منها ينقل لنا صفحة من ذاكرة الرائي الشامان. في البدء نراه صبيّاً جالساً عند حديقة المنزل، يقترب منه جرذ ليلحس أصابع قدميه، فيثيره لسان الحيوان «الرقيق فائق الاحمرار وهو يمسّ الجلد»، ويكتشف الصبيّ عندها حَظوة للجرذ في نفسه، وأخذ «يسحب شهيقاً طويلاً، يملأ صدره بهواء الحديقة... ويتملّى خرزات عينَي الجرذ، وتُبهجه فصوصها الدقيقة اللامعة». يدخل هذا الحيوان في حياة الراوي أخاً وصديقاً وحبيباً، وما يشبه الوالي، يشكو له همّه وغضبه من كلّ ما يدور حوله، وكأن شيئاً من الرقّة والانسجام والعذوبة في لقاء «الحسناء والوحش» في المسلسل الشهير، تنتقل إلى قصّة البطل هنا مع جرذه.إن استعادة الحرب العراقيّة - الإيرانيّة تحتاج إلى مساحة واسعة من الصمت، واختار المؤلّف أن يؤطّر صمتنا بزينة لا تقاوم من الشعر والنثر. الفصول قصيرة للغاية، أقلّ من مائة كلمة أو أكثر بقليل، ومع هذا تنقل صوراً في أزمان مختلفة وأماكن كثيرة، المدرسة والبيت والجامع والنهر وساحة المعركة، وفضّل الكاتب أجواءً شعريّة لا سرديّة في تقديم شهادة تاريخيّة عن تلك الحرب. لا يوجد تتابع في الأحداث، والكاتب لا يقدّم لنا تقنيّة جديدة في العمل الروائي، وإنما يقدم تصوّراً جديداً لها، فهو يشرح طبيعة سلطة الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، الذي «كان يتخلّل حياة العراقيّين كما يتخلّل الخيط خرز المسبحة». الدعاية الواسعة التي شملته في الثمانينات اضطرّت الصبيّ الذي صار شابّاً إلى اللجوء لمنقذه الوحيد من هذه التفاهة الكونيّة؛ وهو الجرذ. يحاول الجميع تقليد الرئيس في ما يقول ويرتدي ويفعل. معاون المدرسة يرتدي بدلة «على عادة الرفاق الحزبيّين ورجال الأمن، كلّ حركة منه تهتف بالرغبة الراسخة في أن يبدوَ شبيها بالرئيس». يُلقي خطاباً في ساحة المدرسة، ولم يكن اليوم يوم رفع العلم، و«الطلّاب يصفّقون كلّما ذُكر الرئيسُ القائد أو جيشُنا البطل، ولم تكن كلمته تحتوي شيئاً غيرهما تقريباً». بسبب الكذب والتزوير الشّديدَين، يلوذ الشابّ بعالم الجرذان الواضح والبسيط. أيّ جمال في هذا اليقين؟! وعندما يكتشف صدام حسين حبّ البطل وقربَه من عالم الجرذان، ولأنّ الرئيس كان شغوفاً بأن يحرم كلّ عراقيّ من أيّ شيء يُدخل البهجةَ إلى قلبه؛ فهو يرى جرذاً يعبر مهبط الطائرات حيث كان يقف مع وزير دفاعه، و«سحب مسدسه (البراونينغ) على نحو مباغت، وأطلق رصاصة واحدة في تصويبة دقيقة، قطعت الذيل، ورمت به بعيداً عن الجرذ الذي مرّ بسرعة خاطفة». لم يقتل الرئيسُ الحيوان، وترك في بدنه علامة تدلّ على أن جهازه الحكومي يرى كلّ شيء مهما صغُرَ، وفي دقّة التصويب هنا إشارة إلى الإمعان في القسوة إلى درجة تبلغ الشّعوذة، كأنه كان يقوم بدور

أن تكون جرذاً... هو الحلّ الذي يقترحه الكاتب للبقاء بعيداً عن عينَي صدام حسين والرؤساء السابقين ومعاونيهم وشرطتهم السريّة والعلنيّة... وكذلك للنجاة من أهوال الحروب

الشامان الضدّ، فهو يصيد البعير والحِمْل والحاديَ، وأراد أن يُطلِعَ الفتى على دقّة السلطة الجبّارة في اصطياد أيّ فكرة وإن دقّت لمن يعارض طريقته في الحكم.

لا يريد المؤلف إعلان قصده جهاراً، وتُسرد الأحداث بعينٍ ترى ولا تتدخّل في المجرى، ويكون الهمّ السياسي عندها معبَّراً عنه بإخفاء مقصود يرتفع به العمل إلى مرتبة الفنّ الرّفيع. يكشف الراوي عن سبب تعلّقه بالجرذ: «لكلّ منّا حياة سابقة عاشها بهيئة أخرى، فكان طائراً أو نمراً...»، الجرذُ إذن هو قرينه الذي اختار أن يفنى فيه، محاولاً الهرب من بطش السلطة في «أنفاق طويلة معتمة، حفرها أسلافه الجرذان، لا يتعب ولا يملّ، يركض عابراً من مدينة إلى أخرى». إن العذاب فينا يمتدّ إلى الماضي السحيق، وأن تكون جرذاً فهو الحلّ الذي يقترحه الكاتب للبقاء بعيداً عن عينَيْ الرئيس الحالي، والرؤساء السابقين، ومعاونيهم وشرطتهم السريّة والعلنيّة، وكذلك للنجاة من أهوال الحروب التي لا تنتهي في هذه الأرض: «في هدأة الفجر، يسمع أصوات القذائف البعيدة تدور بها الريح في سماء البصرة، تنزل بأصدائها المزلزلة إلى الشوارع الخالية». إن آلة الحرب توزّع الموت وأفكار الدمار على الجميع في قِسمة عادلة، وفي النّتيجة تنتقل الرّوح المجرمة لدى الرئيس صدّام حسين للسُّكنى في صدور الجماهير التي تُبَثّ عليهم صوَرُه وخطبه والأناشيد التي تعدّت المليون، فها هم الصبيان في المدرسة يعذّبون القطط ويقضون عليها بطرق يريد الروائي أن ينقل لنا بواسطتها ما كان يجري في مطامير أبنية السلطة للمعارضين للرئيس، وتتوزّع العنجهيّة والوحشيّة والرثاثة في طرق العيش على الجميع بالتساوي، فلا يفلت منها أحد، حتى الصبيّ فهو ابن البلد، ولقاح زهراته من شتلاته في أرضها الواسعة حتماً، وفي المشهد الأخير يقوم بالإجهاز على الجرذ؛ قرينِه وصديقِه وأخيه، لأنه لا مصير لمن كان يعيش في عراق صدّام حسين غير أن تسير خطواته على هذه السّكّة.


مقالات ذات صلة

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

ثقافة وفنون هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً.

ميرزا الخويلدي (الدمام)
ثقافة وفنون «ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».