ما عناصر التطرّف التي تنطوي عليها الهويّات الجماعيّة؟

ليست كتلةً صلبةً من الحقائق والتصوّرات والمضامين المكتملة الجاهزة

ما عناصر التطرّف التي تنطوي عليها الهويّات الجماعيّة؟
TT

ما عناصر التطرّف التي تنطوي عليها الهويّات الجماعيّة؟

ما عناصر التطرّف التي تنطوي عليها الهويّات الجماعيّة؟

هل الهويّة الجماعيّة متطرّفةٌ بحدّ ذاتها؟ إذا كان الأمر صحيحاً، بَطَلت كلُّ إمكانات الانتماء الجماعيّ. المنهجيّة الأنسبُ تقتضي أن نستخرج من الهويّة العناصرَ التي تنطوي على قابليّات التطرّف. ولكن هل نستطيع أن نتفحّص العناصر التأسيسيّة في الهويّة الذاتيّة تفحّصاً نقديّاً سلميّاً من غير أن نجرّ علينا وعيدَ الآخرين وحُكمَهم الإقصائيّ؟ لا بدّ أوّلاً من التذكير الوجيز بالعناصر الأساسيّة التي تتكوّن منها الهويّة الجماعيّة: العرق؛ الأرض وموقعها وبيئتها ومناخها؛ اللغة ومبانيها ومقولاتها ومعانيها؛ التصوّرات الثقافيّة المرتبطة بالاختبارات الوجدانيّة الدِّينيّة والفكريّة والأدبيّة والفنّيّة؛ التاريخ الذي يحتضن اختبارات الوجدان الجماعيّ المعتني بتدبّر المعيّات الإنسانيّة المتواجهة.

ذكرتُ العناصر التكوينيّة هذه وفق ترتيبها المنطقيّ؛ إذ إنّ الجماعات الإنسانيّة أدركت ذاتَها أوّلاً في رباطٍ أصليٍّ، جعلها تعتقد أنّ لها عرقاً خاصّاً يفصلها عن الأعراق الأخرى. غير أنّ الأبحاث الأنتروبولوجيّة أظهرت أنّ العرق مفهومٌ ملتبسٌ لا يُعبّر عن حقيقةٍ تاريخيّةٍ موثوقةٍ، لا سيّما حين اتّضح للجميع أنّ اقتران الجماعات بالأوضاع الجغرافيّة، والأحوال المناخيّة السائدة في الأرض المستوطَنة، جعل التطوّر البيولوجيّ ينحو منحى التمايز والتفرّد. لو نشأ اليابانيّون في الصحراء العربيّة، لاكتحلت عيونهم بضياء السماء المرصّعة بنجوم الليل الساكن. وعليه، يمكن القول إنّ العرق مقترنٌ بطبيعة الأرض والبيئة والمناخ، وما ينجم عن هذا كلّه من آثار التغيير البيولوجيّ الحاسم.

من الطبيعيّ إذن أن تحتلّ الأرض المرتبة الثانية؛ إذ إنّ الجماعات الإنسانيّة غالباً ما تنحت هويّاتها بالاستناد إلى اختبارات الانتماء الجغرافيّ الأصليّ. أعتقد أنّ الجغرافيا عنصرٌ حاسمٌ في تعيين الهويّة الجماعيّة؛ إذ يشعر الإنسانُ بأنّ احتضان الأرض أشبهُ برحم الأمّ، منه تنبثق الكائناتُ انبثاقاً عفويّاً. بيد أنّ الأرض ليست ملكَ الناس الذين يستوطنونها، بل الحضنُ الرؤوف الذي يجمع ولا يُفرّق. إذا شاءت مصادفاتُ الدهر أن تحلّ هذه الجماعة أو تلك في هذه الأرض أو تلك، فهذا لا يعني أنّ الأرض أصبحت خاضعةً لمشيئة القوم المستوطِنين. كلّنا ضيوفٌ على الأرض، ولا أحد منّا في مقام المالِك المطلق.

من الضروريّ أن يتذكّر الناسُ هذه الحقيقة؛ إذ إنّ مصير الأرض مقترنٌ بالوهم التملّكيّ الذي أفضى إلى المنازعات والاقتتال. أمّا الوجه المشرق في ذلك، فالقولُ بارتباط اللغة الوثيق بما يختبره الإنسانُ من علاقة حميمةٍ بالإيحاءات المنبعثة من جماليّة الأرض المسكونة. يجمع علماء اللسانيّات على أنّ خصائص اللغة تقترن جزئيّاً باختبارات الانتماء إلى الأرض. ومن ثمّ، تتجلّى اللغة حاملةً اختبارات الوجدان الفرديّ والجماعيّ في سكنى الأرض. من صميم هذه الاختبارات تنعقد التصوّراتُ الوجدانيّةُ الجماعيّةُ، يُعبّر عنها الناسُ تعبيراً ثقافيّاً، يتناول جميع حقول الإفصاح، سواءٌ في الجماليّة الأدبيّة، وفي الصوغ المفهوميّ الفكريّ، وفي الرمزيّة الفنّيّة، وفي الروحيّة الدِّينيّة.

أمّا العنصر التأسيسيّ الأخير، فينعقد في مسار التاريخ الذي يختزن اختبارات المعايشة المتطلّبة بين الذات والآخر، سواءٌ على مستوى الفرد، ومستوى الجماعة، ومستوى القوم. لا عجب، والحال هذه، من أن ينطوي التاريخ على عناصر الاختبار الإيجابيّ والسلبيّ، وقد طبعت الوعيَ الإنسانيَّ وفرضت عليه نمطاً معيّناً من التفكير والتعبير والمسلك. لذلك أعتقد أنّ خصائص الهويّة الجماعيّة لا تكتمل إلّا حين نُمسك بجميع هذه العناصر، فنستجلي أثرها في مسار نشوء الوعي الذاتيّ الفرديّ والجماعيّ نشوءاً مُقترناً بما اختزنه التاريخ من اختباراتٍ حاسمةٍ.

من الممكن الآن أن نبحث في العناصر التأسيسيّة هذه عن قابليّات التطرّف الكامنة في الهويّة الجماعيّة. لا أعتقد أنّ العناصر الخمسة هذه تحمل في حدّ ذاتها خطرَ التطرّف، بل الخطر يأتي من بناء الوعي الجماعيّ الذي يتصوّر العرقَ مدعاةً للافتخار والاستكبار، والأرضَ تسويغاً للتملّك الأنانيّ، واللغةَ سبيلاً إلى الهيمنة على وقائع الحياة، والثقافةَ مبرّراً للتفوّق النوعيّ، والتاريخَ بُرهاناً على عظمة الذات الجماعيّة. ولكن من أين يأتي الانحرافُ الخطيرُ هذا في التصوّر الجماعيّ؟ من الواضح أنّ الأصل في ذلك كلّه وعيُ الناس، الذي نحتته التأويلاتُ التضليليّةُ المتراكمةُ في حياة الجماعة. أمّا هذه التأويلات فتقترن في قدرٍ ضئيلٍ منها بتراكمات التاريخ، وفي قدرٍ عظيمٍ بمصالح الأنظومة المقتدرة الحاكمة، سواءٌ في حقل السياسة والاقتصاد والآيديولوجيا الدِّينيّة والقوميّة، وكذلك الفكريّة والعلميّة والإعلاميّة.

من المستحيل أن توحي لنا أرضُنا بالتطرّف. ومن الخلف أن تنطوي لغتُنا على عبارات العنف والإقصاء والدينونة. ومن السخف أن يُسخّر الناسُ الثقافةَ أو الفنَّ أو الدِّين لمناصرة تواطؤاتهم المنفعيّة. العلّة الأصليّة كامنةٌ في تأويل العناصر التأسيسيّة التي منها تنبثق هويّة الجماعات الإنسانيّة، وفق ما تَرسمه لها مصادفاتُ الزمان. لذلك من الضروريّ أن يعتصم الجميع بتواضع الكائنات الهشّة التي تستضيفها الأرضُ استضافةً مجّانيّةً مُطلقةً. ليس لأيّ إنسانٍ من حقٍّ كيانيٍّ شرعيٍّ أصليٍّ، يُخوّله الاستحواذَ على الأرض والبيئة والسماء والفضاء والكون. أمّا هويّاتنا الجماعيّة فثمرةُ تفاعلاتنا التاريخيّة الممهورة بانطباعاتنا البشريّة البنيويّة.

العرق مقترنٌ بطبيعة الأرض والبيئة والمناخ وما ينجم عن هذا كلّه من آثار التغيير البيولوجيّ الحاسم

هل من سبيلٍ إلى الانعتاق من تأويلات التطرّف العنفيّة الجاثمة على هويّاتنا الجماعيّة؟ رأسُ الحكمة الاعترافُ بأنّ الهويّة الجماعيّة ليست كتلةً صلبةً من الحقائق والتصوّرات والمضامين المكتملة الجاهزة، بل مسارٌ حيٌّ من التكوّن التاريخيّ المتدرّج. مشكلة الهويّة أنّنا لا نعاين أطوار نشوئها الزمنيّة المتعاقبة، بل نتلقّفها في حلّةٍ نظنّ أنّها الهيئة التاريخيّة النهائيّة التي استقرّت عليها. جرّاء المدى الزمنيّ الطويل الذي اختمرت فيه أطوارُ التحوّل والتبدّل والتقويم الذاتيّ، لا يستطيع المرءُ أن يعاين الحركة اللصيقة بالهويّة، بل يكتفي بإدراك الثبات الراسخ فيها. زدْ على ذلك أنّ اختبار الحركة في الهويّة يُقلق الوعي الإنسانيّ الفرديّ، ويجرّده من مُسلّماته ومُستمسكاته ويقينيّاته الاطمئنانيّة. ما من إنسانٍ يرغب في اختبار الاضطراب الكيانيّ حين يعاين التحوّلَ الذي أصاب هويّتَه في معترك الاختمار الثقافيّ المديد الزمن.

السبيلُ الآخر يقضي بأن نميّز ثلاثةً من التصوّرات التي نصوغها من أجل التعبير عن هويّاتنا صوغاً يَحكم وعيَنا التاريخيَّ: التصوّر الثقافيّ الأوّل، منبثقٌ من خصوصيّة الحضارة التي ننتمي إليها انتماءَ التأثّر بالعناصر الخمسة هذه: التصوّر الثقافيّ الثاني، منبعثٌ من التأويلات المتطرّفة التي يحرّضنا عليها أهلُ الاقتدار في السياسة والاقتصاد والآيديولوجيا؛ والتصوّر الثقافيّ الثالث، ناشئٌ من إخضاع حقائق الوجدان الجماعيّ لمحكمة التمييز التي تستند إليها شرعةُ حقوق الإنسان الكونيّة في سعيها الدؤوب إلى تهذيب الإنسان واستنقاذه من بهيميّته المتربّصة به. واجبُنا أن نعتصم بالتصوّر الأوّل مستضيئاً بالثالث، وأن ندين التصوّر الثاني. ذلك بأنّه من أقبح أشكال الحيوانيّة المفترسة هذه، أن تتحوّل الهويّات الجماعيّة إلى مُعتركات الإفناء العبثيّ.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي
TT

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي

لفت الكاتب اللبناني محمد طرزي الأنظار إليه بقوة مؤخراً؛ حيث فازت روايته «ميكروفون كاتم صوت» بجائزتي «كتارا» القطرية و«نجيب محفوظ للرواية العربية» التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وذلك في مدة وجيزة لا تتجاوز 3 أشهر قبل نهاية العام الحالي. ما يضفي على هذه الرواية دلالة خاصة في مسيرته، وطموحه لكتابة نص له طابع اجتماعي ينهل من الواقع الاجتماعي في لبنان، ويرصد المتغيرات المجتمعية من منظور إنساني.

أقام طرزي بعدد من دول شرق أفريقيا، وأعاد اكتشافها روائياً، مستلهماً التاريخ العربي في تلك الأماكن، في ثلاثية بعنوان «الحلم الأفريقي»، ومنها «عروس القمر» و«جزر القرنفل» التي تتناول تاريخ زنجبار خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان.

هنا... حوار معه حول روايته الفائزة وهموم الكتابة.

* تبدو المتناقضات كما لو كانت تشكل جوهر روايتك الأخيرة «ميكروفون كاتم صوت»، بداية من العنوان حتى النهاية. إلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟

- هي رواية المتناقضات بالفعل. العنوان نفسه يجسد التضاد والمفارقات التي لا تلبث أن تظهر مع الصفحات الأولى للكتاب؛ حيث يبرز شاب اسمه «سلطان»، يقيم في بيت متواضع مُطل على المقبرة، يسترزق من زوار القبور، ويطمح أن يصير أديباً. صديقه «حسن» ليس بعيداً عن تلك المفارقات، فهو يهرِّب المسروقات، يتورَّط في قضايا أخلاقية ملتبسة، وفي لحظات أخرى نجده نبيلاً عبثيّاً. أما «عفاف»، فتمتلك ملهى ليليّاً، تستقبل فيه بائعات الهوى، هي أيضاً فنانة تشكيلية، حتى وإن بدت لوحاتها تافهة.

* استلهمت الرواية من مقولة لنجيب محفوظ، كيف ذلك؟

- قرأتُ مقالة في إحدى الصحف، يتحدَّث فيها الكاتب عن الوطن، واستوقفني اقتباس لنجيب محفوظ: «وطن المرء ليس مكان ولادته؛ لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب». ظل هذا الاقتباس يلاحقني حتى سمعتُ –مصادفة- شابّاً عشرينيّاً، يردِّد، في أحد المقاهي، عبر هاتفه، أنَّ كلَّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل. في اليوم التالي أنهى الشابُّ حياته لأسباب لم يتبيَّنها أحد. ربطتُ الاقتباس بالعبارة التي قالها الشابُّ بصوت متهدِّج، فإذ بفكرة الرواية تتشكَّل في مخيلتي.

* ما علاقتك بأدب نجيب محفوظ عموماً؟

- قرأتُ «محفوظ» في عمر مبكر. اهتممتُ بعدها بالرواية التاريخية، فاطلعتُ على أبرز ما كُتب وتُرجم في التخييل التاريخي، حتى وجدتني أتبنى ذلك النمط الأدبي كاتباً. بعد الانهيار الشامل الذي ألمَّ بلبنان، قررتُ كتابة رواية اجتماعية تتلمَّس حياة اللبنانيين وتقارب بصورة وجدانية ما آلت إليه أمورهم. توجَّستُ من الخطوة؛ لأنني كنت أهم بدخول نمط أدبيٍّ لم أختبره من قبل؛ لكنني ما إن شرعتُ بالكتابة، حتى وجدتني أكتب بأريحية، بتأثير ربما بما قرأته من روايات اجتماعية عظيمة لمحفوظ. فكَّرتُ وقتها أن تلك هي قوة الأدب، تنمو في داخل المرء دون أن يشعر بذلك.

* إلى أي حد يحق للأجيال الجديدة أن تتمرد على محفوظ وتسعى لتجاوزه؟

- لكل جيل اهتماماته وتطلعاته، والأجيال الجديدة لن تصغي لأحد، وستقرر بنفسها من أي معين تنهل، ومن أي نهر تروي عطشها الأدبي والإنساني. أنا شخصيّاً من جيل أولئك الذين تظل مدرسة محفوظ حاضرة في أعمالهم، لما تمثله من نموذج فني فذٍّ، يوغل عميقاً في النفس البشرية برغم الإطار المحلي لرواياته.

* تشكل المقابر -كفضاء درامي- مقبض فكرة أساسية في «ميكروفون كاتم صوت»، ألم تخش هذه الأجواء التي قد ينفر منها بعض القراء؟

- لم أفكر في هواجس القراء من هذه الناحية، فالظروف المحيطة بالرواية هي التي اختارت المقبرة فضاء دراميّاً. وحين قصدتُ أهلَ الشابِّ الذي أنهى حياته، بعد ترديده في المقهى، عبارة أنَّ «كلّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل»، وجدتُ منزله مطلّاً على المقبرة، في زمن يعيش فيه شعبي على حافة الموت، فلم أجد حيّزاً مكانيّاً أفضل، أعبِّر من خلاله عمَّا حل بأولئك الذين لا ينشدون سوى الهروب من وطن غدا أشبه بالمقبرة.

* يرى البعض أن الرواية تقدم وجهاً صادماً غير متوقع للبنان... هل تعمدت ذلك؟

- هي رواية عن المهمَّشين الذين يعانون من النظام اللبناني القائم على تبادل الخدمات، بين الزعيم الطائفي والنخب الاقتصادية التي تدور في فلكه. نسجت تلك النخب علاقات مالية مشبوهة مع زعماء الطوائف، ما فتئت تتسبب في هدر المال العام، وإعاقة تشريع قوانين عصرية. بالرغم من كل ما يحصل، وجه لبنان المشرق موجود؛ لكن تجاهل إرادة الشعب في ظل الزبائنية الحزبية والطائفية، يشوِّه وجه وطني المشرق ويهدِّده بالتلاشي.

* فازت الرواية بجائزة «كتارا» قبل فوزها بجائزة «نجيب محفوظ» بفترة متقاربة للغاية؛ كيف استقبلت الجدل والانتقادات التي أثارها البعض حول تلك الجزئية؟

- شرَّفتني «كتارا» بضمِّي إلى لائحة الفائزين بها، وكذلك فعلت جائزة «نجيب محفوظ» للأدب. لعلَّ ذلك يحصل للمرة الأولى، ما لفت الانتباه وأثار التساؤلات، ولكنْ حقيقة أن ذلك يمثِّل سابقة، لا يعني أن لا حقَّ للرواية في نيل جائزتين، ما دامت تلك إرادة أعضاء لجنتي التحكيم، وفي سياق عدم مخالفة شروط الترشُّح؛ لأن رواية نجيب محفوظ لا تشترط عدم فوز العمل المقدم إليها بجائزة أخرى. الأهمُّ بالنسبة إليَّ، وسط هذا الجدل، أن الجائزتين العريقتين ساهمتا في منح الرواية صوتاً قويّاً، يتردَّد صداه حالياً لدى كثير من القرّاء.

* كيف ترى جدل الجوائز الأدبية في الثقافة العربية عموماً؟

- أُدرجتْ أعمالي على قوائم الجوائز المختلفة، وفازت بأربعٍ منها، ما ساهم في إيصالها إلى نقَّاد وقرَّاء جدد، بعضهم أصبحوا أصدقاء. بهذا المعنى، خدمت الجوائزُ مشروعي، وأرى أنها تخدم غيري من الكُتَّاب، وتساهم في تعزيز المشهد الثقافي العربي. الجدل وسط الكُتَّاب حول الجوائز مردُّه اعتقاد طبيعي لدى الكاتب أن كتابه جدير بالفوز. أتفهَّم هذا الشعور، فالكتابة عمل معقَّد، تستنزف طاقة الكاتب، ما يشعره أو يوهمه بأنه بصدد نصٍّ استثنائي، ليجيء تقييم اللجان مغايراً لرغبته. في نهاية المطاف، تقييم الأعمال الأدبية يعتمد على ذائقة لجان التحكيم، ما يعقِّد النقاش حول أحقية فوز هذه الرواية أو تلك.

* هل استطاع الأدب اللبناني التعبير عما تعيشه البلاد من تحولات عنيفة اقتصادياً واجتماعياً؛ فضلاً عن اشتعال المواجهة مع إسرائيل؟

- لم يعبِّر الأدب اللبناني بما يكفي عما تعيشه البلاد من تحوُّلات، ربما لأن الحدث لا يزال قائماً. ما يحملني على الظنِّ بأن ثمة أعمالاً في طور الكتابة أو النشر. لاحظتُ أن الأدب اللبناني يدور اليوم في فلك «الديستوبيا»، أو يتمحور حول القيم العالمية المتمثلة بالنسوية. بعض الأعمال أشارت إلى انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020. بالنسبة إلى المواجهة مع إسرائيل، فإن الأعمال الأدبية التي تناولت هذا الصراع القائم منذ أكثر من 75 عاماً، قليلة جدّاً، إذا ما قورنت بروايات الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وهو أمر مستغرب.

* هل يمكن أن تشهد الثقافة اللبنانية ازدهاراً لما يسمى «أدب الحرب»؟

- ازدهر أدب الحرب الأهلية اللبنانية وسط الأدباء، كما لم يزدهر أي نمط أدبي آخر. استوقفني إصرارهم على التركيز على تلك المرحلة من تاريخنا، برغم كل الحروب والأزمات التي مررنا بها. حرب يوليو (تموز) 2006 -على سبيل المثال- لم تترك بصمة قوية في الأدب اللبناني. لذلك، من الصعوبة التكهُّن حول دور الحرب الأخيرة في المشهد الأدبي.

* ما السر وراء أعمالك المتوالية عن شرق أفريقيا؟ وهل استطعت اقتناص جوهر القارة السمراء من الداخل؟

- لم أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في شرق أفريقيا، قبل سفري إليها منذ أقل من عقدين. شكَّل اكتشافي الإرث العربي هناك صدمة ثقافية. فعمدتُ إلى التنقُّل بين دول المنطقة التي مثَّلت إمارات عربية لقرون من الزمن. ثم مع انكبابي على قراءة الكتب والدراسات التاريخية ذات الصلة، لاحظتُ أن لا وجود لروايات عربية حول تلك الحقبة، بخلاف الاهتمام الذي أولاه الأدباء العرب للأندلس. عددتُ شرق أفريقيا أندلساً منسيّاً. كان ذلك عام 2012، حين شرعتُ بكتابة «جزر القرنفل»، وهي رواية عن زنجبار، خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان، أعقبتُها بثلاث روايات عن أماكن أفريقية أخرى، نالت نصيبها من الحضور العربي. بهذا المعنى، ليست الغاية من الكتابة عن أفريقيا اقتناص جوهر القارة السمراء، بقدر ما هي مسح الغبار عن الزمن العربي المنسي هناك.

* ألم تخشَ عند كتابتك عن أفريقيا أنك لست مواطناً أفريقياً لا تعرف المجتمعات المحلية جيداً، وبالتالي يمكن أن يفتقد النص العمق المطلوب؟

- بعد عشرين عاماً من الإقامة في أفريقيا، أشعر أنني أفريقي بقدر ما أنا لبناني عربي، ومع ذلك فإنني لم أكتب عن المجتمعات المحلية؛ بل كتبتُ عن تاريخ العرب في تلك المنطقة. بمعنى آخر: لم أبتعد كثيراً عن المجتمعات العربية، وإن كان الإطار المكاني للروايات أفريقيا السمراء.

* هل لديك فلسفة معينة في اختيار عناوين رواياتك؟

- بديهياً يجب أن يعبِّر العنوان عن كُنه الرواية، ولا ألجأ لعنوان لافت لجذب اهتمام القارئ، إلا إذا وجدته يعبِّر أكثر عن روح النصِّ وجوهره. مع الشروع بكتابة أي رواية أضع عنواناً مؤقتاً، على الأقل لحفظ الملف في الكومبيوتر، ولكنْ مع مواصلة السرد، تختار الرواية عنوانها بنفسها، وتفرضه عليَّ. في رواية «ميكروفون كاتم صوت»، لم أختر العنوان حتى الصفحات الأخيرة، حين وجدتْ «عفاف» نفسها محاصرة بالظلام، تخنقها روائح النفايات، بينما المكبرات تزعق بقوة حولها، مانعة إياها من التفكير أو الصراخ. في تلك اللحظة الدرامية، اكتشفنا سرَّ الميكروفونات معاً، وانفعل كلانا لاكتشافنا المتأخر.

* كيف ترى الانتقادات التي يوجهها البعض إلى الرواية التاريخية، من أنها تعكس نوعاً من الاستسهال لدى المؤلف؛ حيث إن معظم عناصر العمل متوفرة، وبالتالي تعد «خياراً آمناً»؟

- لعلَّ العكس هو الأصحُّ. كتابة الرواية التاريخية أصعب من كتابة الرواية الاجتماعية المستقاة من أحداث معاصرة، بحيث تكون شخصياتها تجسيداً لشخصيات حقيقية ومرئية. كما أن الرواية التاريخية تعود إلى حقبة زمنية أخرى، ما يحتِّم على الكاتب البحث عنها والتمحيص فيها، فضلاً عن تكبيله بحقائق تاريخية لا يمكن التملُّص منها. وقد تغدو المهمة أكثر تعقيداً في الرواية التي تتناول شخصيات تاريخية؛ لأن حرية الكاتب تصبح محدودة للغاية في رسم تلك الشخصيات، وتحديد مساراتها.

* كيف ترى علاقتك بالأجيال السابقة في الأدب اللبناني؟ وهل ترفع شعار: أنا أديب بلا أساتذة؟

- قدَّم لبنان أديبات وأدباء كباراً، عرفتُ بعضهم شخصيّاً، ورحل بعضهم قبل أن أحظى بهذه الفرصة. من الأعمال الأدبية البارزة التي تأثرتُ بها روايات جبور الدويهي، وأمين معلوف، وحنان الشيخ... للحق، إن كان لا بدَّ من شعار أرفعه، فإنني أرفع شعاراً معاكساً لما ذكرتِه في سؤالك.