كيف صوّر الفنانون السعوديون الطاقة في أعمالهم؟

تناولهم لموضوعاتها جاء مختلفاً عن تناول فناني الدول الأخرى

«حلوى النفط» لمها الملوح
«حلوى النفط» لمها الملوح
TT
20

كيف صوّر الفنانون السعوديون الطاقة في أعمالهم؟

«حلوى النفط» لمها الملوح
«حلوى النفط» لمها الملوح

عند تناول مصطلح الطاقة بمعناه الواسع، يمكننا القول إن الفن أو المنتجات الفنية هي أحد أشكال الطاقة الإبداعية للإنسان، لكن مفهوم الطاقة في الاقتصاد والصناعة يختلف عنه في الفن بطبيعة الحال؛ فالطاقة هي المصدر الذي يعتمد عليه الإنسان المعاصر لتأمين احتياجاته الرئيسية وزيادة رفاهيته، وتوفُّرُها يُسهم في تأمين احتياجات الإنسان من تدفئة، وغذاء، وتنقل، ووقود، وكهرباء، وغيرها؛ لذلك تعتمد عليها الحكومات والمجتمعات بوصفها وسيلة للنمو والتطور.

(محمد والنفط) مجموعة إذا نسيتك فلا تنساني – منال الضويان
(محمد والنفط) مجموعة إذا نسيتك فلا تنساني – منال الضويان

هذا الارتباط الوثيق والاعتماد على الطاقة لدى الإنسان المعاصر، وما يمكن أن تُحدثه من تأثير عليه على المستويات كافة، وما يرتبط بتوفيرها من تكاليف أو تأثيرات اجتماعية وبيئية، يجعل الطاقة من أهم الموضوعات التي تتم دراستها وتحليلها وتداولها عالمياً، في الأخبار السياسية والاقتصادية والبيئية على حدٍّ سواء. كما يتم التعبير عنها أحياناً من خلال أشكال الفنون المختلفة، ومن ذلك الفنون البصرية والتشكيلية.

ولعل تناول الفنان لموضوعات الطاقة يختلف بشكل كلي عن تناول المحلل الاقتصادي والسياسي لها، فالفنان بحساسيته واختلاف نظرته لطبيعة الأشياء يميل للجوانب الإنسانية والثقافية المرتبطة بالطاقة، فكيف عبّر الفنان التشكيلي عن الطاقة؟

ضد النسيان

ولأن المملكة العربية السعودية إحدى الدول الرئيسية الكبرى في إنتاج وتوفير الطاقة عالمياً، فقد كان من الطبيعي والمتوقع أن يعبر الفنانون التشكيليون عن هذا الموضوع فنياً، وأن تبرُز تأثيراته الثقافية والاجتماعية في أعمالهم. ومن بين هؤلاء نذكر الفنانة منال الضويان، التي تناولت في أحد أعمالها الفنية مجموعة من النساء والرجال العاملين في قطاع البترول في المملكة، وتحديداً شركة «أرامكو السعودية»، وذلك لتوثيق جيل كامل من العاملين في هذا القطاع القادمين من خلفيات بيئية مختلفة، من مدن وقرى المملكة، وجمعهم مكان واحد انطلقوا منه للمستقبل.

«تطور الإنسان» لأحمد ماطر
«تطور الإنسان» لأحمد ماطر

وقد عنونت الضويان هذه المجموعة باسم «إذا نسيتك فلا تنساني»، وتمثل توثيقاً للذاكرة الجماعية لذلك الجيل العامل في البترول، والذي كان منه والدها، فتاريخ الشركة العالمية قد يكون معروفاً وموثقاً، إلا أن تاريخ هؤلاء العاملين في الشركة قد يكون مغيباً، وهو ما حرصت الفنانة على توثيقه، وإظهار الجانب الإنساني والحميم فيه.

ذاكرة البترول في المجتمع السعودي

ومن الفنانين السعوديين الذين أشاروا إلى الطاقة (البترول) تحديداً، بوصفها جزءاً مهماً في تاريخ المجتمع السعودي، الفنان أحمد ماطر، الذي تتبّع تاريخ المجتمع المحلي منذ بدء الدولة السعودية الثالثة عام 1932، مروراً بالستينات والسبعينات الميلادية، التي تمثل سنوات الطفرة البترولية وما أحدثته من تغيير، وانتقال في شكل الحياة والعمران والمباني الخرسانية، وذلك من خلال شرائح من الصور الفوتوغرافية الأرشيفية التي عثر عليها الفنان، وأعاد تركيب صور أخرى عليها، لصنع كولاج فوتوغرافي جديد؛ ليُخرج هذه الصور من طابعها الأرشيفي والتوثيقي، ويضيف تساؤلات جديدة عليها حول العلاقة بين هذه العناصر والمعاني التي تحتملها، في صور فنية كان البترول حاضراً فيها داخل ذاكرة المجتمع المحلي، وأساساً في تغيره.

«حلوى النفط»

ومن الفنانات التشكيليات اللاتي عبّرن عن موضوعات الطاقة الفنانة مها الملوح، حيث تناولت في عملها الفني «حلوى النفط» الدور الذي أحدثه البترول في التغيرات الحضارية في المملكة، واستخدمت في ذلك براميل الزيت الملونة، التي كانت تشكل أحد المشاهد البصرية في المملكة العربية السعودية، في الحاضرة والبادية، في سبعينات القرن العشرين.

هذه البراميل الملونة التي أعادت الفنانة تشكيلها لتكون أشبه بتغليفات الحلوى الملونة، قد تحمل دلالات مختلفة، منها تشبيه النفط بالحلوى وما يرتبط بها من رفاهية وبهجة، فكان التعبير من خلال أحد المدركات الشكلية التي كانت سائدة في المجتمع في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، مع إعادة تشكيله وتقديمه في سياق جديد ومختلف، لإتاحة تأمل هذه العناصر بشكل مختلف، وإدراك ما يرتبط بها من مفاهيم، إضافة لما تبعثه هذه العناصر من تعلق وحنين، وتذكير بحقبة زمنية ماضية.

ويلاحظ في هذه النماذج الفنية المتنوعة للفنانين السعوديين، تركيزها على النفط بشكل مباشر بدلاً من أشكال الطاقة الأخرى، إضافة إلى جانب الحنين إلى الماضي، وما يرتبط بذلك من مشاعر حميمة، من خلال العودة للوراء وتأمل الماضي والصور والعناصر الأولى التي وجدت لها مستقراً في الذاكرة الجماعية.

«لتظل بارداً»

إلا أن التعبير عن الطاقة كشكل نهائي يحصل عليه الإنسان ويرتبط به، بشكل مباشر، لا نجده سوى في أعمال قليلة، منها تجربة مميزة للفنانة مها الملوح بعنوان «لتظل بارداً»؛ حيث يركز هذا العمل على استهلاك الكهرباء في بيئة صحراوية جافة، وما يترتب على ذلك من مشكلات بيئية تتطلب حلاً. وقد أنشأت الفنانة العمل من خلال إعادة تدوير لأجهزة المكيفات الصحراوية التي سبق استخدامها في موسم الحج، كما يمكن مشاهدتها في البيوت القديمة، وأعادت تركيب هذه الأجهزة على هيئة مكعب الألغاز «روبيك»، في مقاربة بين الموضوعين، فالكهرباء ومشكلاتها تتطلب حلاً كمكعب الألغاز الشهير.

وفي هذه التجربة للفنانة مها الملوح، وتجاربها الأخرى، يُلاحظ إعادة تدويرها لخامات وأدوات مستهلكة، ترتبط بالبيئة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في المملكة، وبعضها يرتبط بحقب زمنية ماضية، وكأنها تؤرخ التغيرات المجتمعية من خلال الأدوات المستخدمة في كل حقبة زمنية. هذه الأدوات التي تتغير وتأخذ أشكالاً جديدة، وبعضها لم نعد نراها حالياً، هي إشارة للتغيرات السريعة جداً في المجتمع. وبذلك تنفتح هذه الأعمال الفنية على عدة تأويلات وتفسيرات، فيمكن إحالتها لدور الطاقة في المجتمع وتأثيرها الكبير عليه، كما يمكن أن تُعد هذه الأعمال رصداً للتغيرات الثقافية والاجتماعية السريعة والكبيرة في البيئة المحلية السعودية. وكذلك تشير هذه الأعمال الفنية إلى النزعة الاستهلاكية التي سادت المجتمع، وتوجّهه نحو استبدال الجديد بالقديم.

«تطور الإنسان»

من الأعمال الفنية الأخرى المميزة التي تناولت موضوع الطاقة في المملكة، ومارس فيها الفنان دوره الاجتماعي، ودوره بوصفه طبيباً يشخص حالة مرضية، عمل فني أنتجه الفنان الطبيب أحمد ماطر بعنوان «تطور الإنسان» عام 2010. في هذا العمل استخدم ماطر الأشعة السينية لتصوير مضخة بنزين تتحول إلى إنسان يوجه السلاح على رأسه، والعكس، في عملية انتحار مستمرة، فكان العمل يشكل هاجساً لتلك المرحلة، من المخاطر الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المحتملة للاعتماد الكلي على البترول.

هذا الهاجس تراجع كثيراً إلى حد الانتفاء الآن، بعد رؤية المملكة 2030، وهي رؤية لمستقبل المملكة، واستثمار مكامن قوتها وموقعها الاستراتيجي المتميز، وقوتها الاستثمارية، وعمقها العربيّ والإسلاميّ، لتنويع اقتصادها بدلاً من الاعتماد الكلي على البترول.

التعبير عن الطاقة كشكل نهائي يحصل عليه الإنسان ويرتبط به، بشكل مباشر، لا نجده سوى في أعمال قليلة.

اختلاف الفنان السعودي

قد يكون تناول الفنان السعودي لمواضيع الطاقة مختلفاً عن تناول فناني الدول الأخرى لهذا الموضوع، فالمملكة بوصفها دولة منتجة للطاقة عالمياً، ومن كبار منتجي البترول، جعلت من الطاقة والبترول رمزاً للغنى والرفاهية والحياة الرغيدة، وفي الوقت نفسه رمزاً للتغيير، وهو ما تمت ملاحظته من خلال الأعمال الفنية التي تم استعراضها، فتناول الطاقة جاء غالباً من ناحية تاريخية، يدفعها الحنين للماضي إلى التعبير عن مرحلة مهمة وبارزة، وتمثل نقلة في المجتمع السعودي، وهي مرحلة الطفرة، فكان تناول الطاقة فنياً في أعمال حديثة ومعاصرة، لكنها في الوقت نفسه تعبّر عن مرحلة سابقة تتمثل في السبعينات الميلادية.

إن أهمية الطاقة وعلاقتها بالفن لا تقتصر فقط على تعبير الفنان عنها كونها مؤثراً بشكل مباشر على حياته، فالطاقة أدّت لتغير أشكال الفن، وظهور أنواع جديدة، فالفنون البصرية والتشكيلية المعاصرة لا تعتمد فقط على التشكيل من خلال اللوحة المسطحة، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال النماذج السابقة، لكن التعبير عن الطاقة وتناولها بوصفها موضوعاً فنياً، يقدم انطباعاً عن تأثيرها الفكري والفلسفي على الإنسان، وحساسيته الفنية تجاهها، وعلاقته بها.

* كاتبة وناقدة سعودية


مقالات ذات صلة

شعبان يوسف: أردت تشريح مناخ 1967 من منظور سردي

ثقافة وفنون يوسف شعبان

شعبان يوسف: أردت تشريح مناخ 1967 من منظور سردي

يعد شعبان يوسف أحد الأسماء البارزة في الثقافة المصرية على مدار أكثر من نصف قرن، منذ أن كان ضالعاً في تيار شعراء السبعينيات، فضلاً عن انخراطه في الحراك السياسي

عمر شهريار (القاهرة)
ثقافة وفنون غلاف ثائر

«قلعة الملح»... صراع الإنسان مع ذاته والزمن

«قلعة الملح» رواية جديدة للروائي ثائر الناشف، صاحب «ثلاثية المسغبة»، التي تتناول الثورة السورية 2011 بأبعادها الإنسانية العميقة. وفي هذا العمل،

إبراهيم اليوسف (برلين)
ثقافة وفنون «لعنة الخواجة»... إبحار على ضفاف التاريخ بحثاً عن الدهشة

«لعنة الخواجة»... إبحار على ضفاف التاريخ بحثاً عن الدهشة

يمكن وصف رواية «لعنة الخواجة» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية للكاتب وائل السمري، بأنها نص ينتمي إلى الإبداع المعرفي، حيث تغوص في التاريخ المعاصر لمصر بحثاً

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «الروائي المريب»... خيانات المثقّفين ومؤامراتهم

«الروائي المريب»... خيانات المثقّفين ومؤامراتهم

يكتب السوريّ فوّاز حدّاد في «الروائي المريب» (رياض الريّس، بيروت، 2025) عن كاتب غامض يُدعى «أسعد العرّاد»، بطريقة أشبه بـ«كوميديا سوداء».

هيثم حسين
ثقافة وفنون مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي

مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدر كتاب «الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني» للفيلسوف وعالم النفس والتربية الأميركي جون ديوي، الذي عاش في الفترة من 1859 حتى 1952،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

شعبان يوسف: أردت تشريح مناخ 1967 من منظور سردي

يوسف شعبان
يوسف شعبان
TT
20

شعبان يوسف: أردت تشريح مناخ 1967 من منظور سردي

يوسف شعبان
يوسف شعبان

يعد شعبان يوسف أحد الأسماء البارزة في الثقافة المصرية على مدار أكثر من نصف قرن، منذ أن كان ضالعاً في تيار شعراء السبعينيات، فضلاً عن انخراطه في الحراك السياسي في تلك الفترة ضمن صفوف اليسار المصري. كما عُرف على نطاق واسع باحثاً ومؤرخاً ومشرفاً على «ورشة الزيتون الأدبية» بالقاهرة لأكثر من أربعين عاماً، التي أصبحت مقصداً لكثير من الأدباء العرب، وليس المصريين فقط، وعاصر من خلالها أجيالاً متعاقبة من الأدباء والمثقفين، على اختلاف توجهاتهم.

من أبرز مؤلفاته «مقعد ثابت في الريح»، «كأنه بالأمس فقط»، «شعراء السبعينيات - السيرة، الجيل، الحركة»، «لماذا تموت الكاتبات كمداً؟»، «المنسيون ينهضون»، و«الذين قتلوا مي». وانضم يوسف مؤخراً إلى قائمة الشعراء الذين اتجهوا لكتابة الرواية، حيث صدرت له مؤخراً «عودة سيد الأحمر» التي نحاوره هنا حولها، كما نرصد رؤيته للمشهد الثقافي العام.

* عنوان «عودة سيد الأحمر» ينبئ بمركزية الشخصية في الرواية، فلماذا تراجعت تلك المركزية المتوقعة لصالح هيمنة وصف مرحلة زمنية بكل أحوالها؟

- العنوان أحد مرتكزات قراءة الرواية، ويبدو أنه ملتبس أيضاً، فالبعض ظنّ أن وصف سيد بـ«الأحمر» له علاقة باللون الآيديولوجي المعروف. الرواية تتحدث عن مرحلة جوهرية في حياة المصريين، وربما تحتاج أكثر من رواية، وهي الفترة بين 5 و9 يونيو (حزيران) 1967، تلك الأيام التي تبلورت فيها كثير من المعاني، وبرزت كثير من القيم، واتضحت فيها كثير من انشغالات الناس.

الشارع المصري كان منجذباً نحو حوارات وقضايا تشغله بشكل رئيسي. وكان لا بد أن يحضر «سيد الأحمر» أو «سيد الزنباعي» كشخصية رئيسية على خلفية ما كان يحدث، ولا يمكن التعرض لتلك الفترة، دون الدخول في تفاصيلها، ووصف وتشريح المناخ السياسي والاجتماعي من منظور سردي مختلف.

وليس معنى ذلك أن «سيد» كان غائباً، فهو حاضر منذ طفولته، وتفاصيل حياته كلها حتى أتى إلى القاهرة كأي مغترب يبحث عن لقمة العيش، فوقع في فخ «يونيو 1967»، كما وقع مواطنون كثيرون لا ذنب لهم، وذلك ما يحدث دائماً.

* زمن الرواية يدور حول 5 يونيو 1967... فما سبب اختيار هذه المرحلة الزمنية الفارقة في تاريخ مصر والوطن العربي؟

- مركزية اللحظة هي العامل الأساسي الذي كان يشغلني، على اعتبار أنني عشتها، وعاصرت كل نتائجها المتعددة، بما فيها التداعيات السلبية التي ظلّت عالقة بالضمير الجمعي للناس عموماً، أي القلق، والتوتر، وفقدان الثقة في الذات الجمعية التي انتابها الإحباط المفزع وسط هموم ومشكلات اجتماعية حادة. ولكن في الوقت نفسه، أضاءت تلك الفترة على الروح التي وُلدت آنذاك.

هناك تحد تاريخي حدث، وكان على الناس أن يستجيبوا بطرق إيجابية، وربما ضرورية، لأنه دون تلك الاستجابة ستضيع البوصلة، وستضيع ملامح الطريق. من هنا أظهرت الهزيمة أو النكسة أو الكارثة أجمل العناصر التي كانت كامنةً في أرواح الناس، وأقواها، وأنا وكل أبناء جيلي كنا شهوداً حاضرين في المشهد.

* الرواية توثق شعارات المظاهرات التي تعارض تنحي عبد الناصر عقب نكسة 67 وتطالبه بالبقاء... فهل كان يشغلك الجانب التوثيقي أثناء الكتابة؟

- الشعارات طبعاً كانت لافتة ومهمة، خصوصاً تلك التي كانت تتمسك بوجود أو عودة جمال عبد الناصر، وكانت تلخّص وجهة نظر الناس على مختلف ثقافاتهم ومشاربهم وانتماءاتهم الفئوية أو الطبقية أو الاجتماعية، فضلاً عن أنها شعارات تحمل التحدي الذي أظهرته الجماهير، في عفوية كاملة، وبقوة عارمة، وفي صدق لا تعرفه سوى اللحظات الحدّية في التاريخ.

ودون الخروج لإعادة عبد الناصر، أو إجباره على العودة، كان الضياع، والتيه. لذلك صاغ الضمير الجمعي شعار «ارجع، ارجع، يا زكريا، عبد الناصر مية المية»، الشعار حمل وجهة النظر في زكريا محيي الدين، والذي كان معروفاً بأنه قادر على التحاور مع الأميركان، هذا الشعار قال: لا، لزكريا ولأميركا، مثل شعار: «ارجع ارجع يا سادات، احنا اخترنا جمال بالذات»، تلك الشعارات تستطيع أن تلخص روح الناس التي خرجت، كانت شعارات معجونة بالصدق، وتعبر عن العقل والمزاج والتوجه الجمعي في تلك المرحلة.

* إلى أي مدى كان تاريخك في العمل السياسي فاعلاً في اختيار مكان الرواية ومرحلتها الزمنية؟

- منذ طفولتي، ارتبطت بالمكان الذي لم أغيره حتى الآن، حي «عين شمس»، ومنذ أن وعيت على السياسة في ذلك الوقت، أي في زمن 1967، وكان المكان حقلاً واسعاً لممارساتي العديدة، وبينها بالطبع العمل السياسي، الواضح والسرّي، فكنت أخرج مع الشباب الأكبر عمراً، الأكثر وعياً والأعمق خبرة، لأسير في ركابهم وهم يعملون على توعية الناس بخطورة الحرب، وجسامة ما يحدث.

كانوا يلقون محاضرات سياسية في «الاتحاد الاشتراكي العربي»، الذي كان يحمل وجهة نظر القيادة السياسية، ولكن الشباب كانوا يمتلكون وعياً يؤهلهم لكي يقولوا ويبوحوا بأكثر من وجهة النظر التي تفرضها القيادة السياسية الرسمية، وذلك كان متاحاً بدرجات متفاوتة، فانخرطتُ في ذلك الحراك الجارف في المكان الذي أصبح مسرحاً لأحداث ولشخوص الرواية.

* مكان الرواية هو حي «عين شمس» بشكل رئيسي، إلى أي حد كان يشغلك التأريخ لمنطقة هامشية ولسكانها الجدد النازحين من أرياف مصر؟

- «عين شمس» مكان عشت فيه طويلاً، وخبرت أزقته وشوارعه وحاراته وناسه بمختلف فئاتهم وطبقاتهم وثقافاتهم، فضلاً عن أن ذلك المكان كان مناسباً لأحداث الرواية، فبرغم هامشيته الواضحة، كان فاعلاً بقوة في المشهد السياسي العام، وربما في المشهد الثقافي أيضاً، فهو يحمل في عراقته بعض التاريخ المجهول.

وكثيرون لا يعرفون أنه موطن إقامة الشيخ الإمام محمد عبده، وكان لأمير الشعراء أحمد شوقي له بيت هناك يقضي فيه بعض الوقت، كما أن جميلة العلايلي، الشاعرة الوحيدة التي كانت عضواً في جماعة «أبوللو»، كان بيتها يطل على محطة قطار عين شمس. وبالقرب منها كانت فيلا النحات العالمي حسن حشمت، وكان يستقبل فيها بشكل شبه أسبوعي كثيراً من الزائرين من مختلف أنحاء العالم، وكنا كصبية نتلصص دائماً على التماثيل التي كانت واضحة لنا في بهو الفيلا.

* لك تاريخ مع الشعر كشاعر ينتمي إلى جيل السبعينات. فلماذا التحول إلى كتابة الرواية الآن؟ وهل هذا له علاقة بمقولة «زمن الرواية»؟

- كتابة الرواية لم تكن تحولاً بالنسبة لي، فأنا كتبت السرد في مقتبل عمري، وكتبت رواية وعمري سبعة عشر عاماً، تأثراً بالحالة الوجودية التي كنا نعيشها، وأسميتها «الغريب»، وبعد ذلك أخفيتها عن الوجود، وكتبت بعض القصص، ونشرتها فعلاً، ولكن كانت تجربة الشعر أقوى حضوراً عندي، وانخرطت مع رفاق جيلي.

وعندما اتجهت إلى البحث في التاريخ، كانت كل أو معظم كتاباتي تحمل تقنيات السرد، ووجدت هذه التقنيات تشدني بقوة، وكنت رافضاً بشدة أن أكتب رواية، رغم أنني كنت مؤهلاً أو مدفوعاً لذلك، لكنني بعدما رأيت كثيراً من الشعراء يلهثون خلف الرواية بغرض «الشو» فقط، وأزمة الشعر الدائمة، اعتبرت أن الطبيب ليس من الجيد أن يكون مهندساً، والنجار من العيب أو الخطأ أن يعمل حداداً، حتى وجدت نفسي أكتب ذلك النص رغماً عني، وأتمنى أن تعقبه نصوص أخرى.

* بدت العامية المصرية، تحديداً اللهجة الصعيدية، شديدة الحضور في الرواية بمساحات كبيرة، ألم تخش من انتقاد حضور العامية المفرط داخل الرواية؟

- الكتابة بالعامية أو الدارجة، كما يقال، كانت طيعة وسلسة ومناسبة، وكان من المتعذر فنيّاً أن أترجم تلك العامية إلى فصحى، وذلك كان ممكناً بالطبع، لكن الكتابة ستكون غريبة جداً عما أشعر به، فالعامية في الرواية كانت ناطقة بلسان حال كل ما جاء فيها.

* كشاعر قديم، وروائي مؤخراً، كيف ترى سطوة الرواية في مقابل ما يشاع عن تراجع مقروئية الشعر... وكيف يعود القراء للشعر؟

- بالطبع هناك سطوة شكلية للرواية في المشهد الثقافي، لكن شاعراً واحداً يستطيع أن يقلب موازين تلك النظرة، على سبيل المثال الشاعر عماد أبو صالح، رغم أنه الامتداد الجدلي للشعرية العربية، أستطيع أن أجد لديه فرادة تجعلنا نقول إن الشعر ما زال ينطق وينبض ويتنفس. وما ينطبق على عماد أبو صالح، ينطبق على آخرين، ولأنني قريب من تجربته، أتحدث عنه بصفة العارف بتفاصيل تلك التجربة، وبالتأكيد هناك تجارب أخرى لها حضور قوي، ولكن الآلة الإعلامية الضخمة دشّنت لفن الرواية، وصنعت مؤسسات لها، وجوائز، ومؤتمرات، ونقاداً وهكذا جعل الشعر يتراجع من الناحية الإعلامية، لكنه ما زال فاعلاً على المستويين الفني والإبداعي.

* لأكثر من 40 عاماً تشرف على «ورشة الزيتون الأدبية» وعاصرت أجيالاً مختلفةً من الأدباء والمثقفين. ما الفارق بين مثقفي اليوم ومثقفي الأجيال السابقة؟

- مثقف اليوم هو الامتداد الطبيعي لمثقف الأمس، لكن الملابسات هي التي تختلف، أي أننا كنا في السبعينات ندفع من دخولنا المتواضعة على نشر ما نكتب، وكنا ننشر في مجلات وصحف لنتقاضى منها مكافآت توفر لنا بعض العيش. ربما يكون مثقف الأمس شغلته بعض الأحداث السياسية، وانتمى لمنظمات سياسية لها طابع سريّ، أعتقد أن مثقفي اليوم لا وقت لديهم لممارسة العمل السياسي بهذه الطريقة، لكن مثقف اليوم لم ينبت من فراغ، لكنه كما قلت امتداد جدلي لمثقف الأمس.