فاريا الأوكرانية وميخائيل نعيمة: علاقة عاطفية معقدة من ثلاثة أطراف

نزوعه الطهراني لم يمنعه من الارتباط بنساء متزوجات

فاريا الأوكرانية وميخائيل نعيمة: علاقة عاطفية معقدة من ثلاثة أطراف
TT

فاريا الأوكرانية وميخائيل نعيمة: علاقة عاطفية معقدة من ثلاثة أطراف

فاريا الأوكرانية وميخائيل نعيمة: علاقة عاطفية معقدة من ثلاثة أطراف

لم أجد ضمن هذه السلسلة من المقالات التي تتناول الجانب العاطفي من حياة المبدعين، شخصية مثيرة للحيرة والالتباس كما هي حال الكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة. وهي حيرة لا تولدها علاقة «ناسك الشخروب» بالمرأة والحب فحسب، بل تنسحب على مواقفه من الجسد والروح، الأثرة والإيثار، الأنانية والغيرية، وغير ذلك من الثنائيات المتعارضة. لا بل أي تأمل عميق في سيرة الكاتب الحياتية، والعاطفية على وجه الخصوص، لا بد من أن يدفعنا إلى الاستنتاج أننا إزاء شخصية «مأزقية» ومشرعة على نوع من المفارقات، شبيهة بتلك التي جعلها سورين كيركغارد أحد المحاور الرئيسية لفلسفته وأعماله.

قد لا يجد قارئ نعيمة أي غضاضة في إشارة الكاتب، المولود في بسكنتا عام 1889، إلى تفوقه الدراسي الذي أوصله، وهو المسيحي الأورثوذكسي، إلى المدرسة الروسية في حيفا، ثم إلى بولتافا الأوكرانية ليكمل دراساته العليا في أحد معاهدها. وإذا كان بالأمر الطبيعي أن يؤكد نعيمة سعيه إلى التفوق عبر قوله: «لقد كانت تسعفني على التحصيل نزعة عنيفة إلى التفوق، فما كنت أطيق أن يكون في صفي من هم أكثر حظوة مني في عين المعلم»، إلا إن ما تتعذر استساغته هو نزوعه اللاحق إلى التباهي والاعتداد النرجسي بالذات. فهو يسرد في كتابه «سبعون» شهادات متنوعة بعث بها إليه قراء كثر مفتونون به وبكتاباته، كقول أحدهم إن «حبي لك يفوق حبي لأي كائن مهما كان»، وقول إحداهن: «وددت لو طويت الأرض تحت قدمي فأكون في حضرتك»، ووصف مؤسسة نشر هندية لكتاب «مرداد» بأنه «كتاب الساعة، بل كتاب الجيل، بل كتاب الأبدية».

كما يستشهد نعيمة لإثبات تفوقه بقول مواطنه رشيد أيوب: «أشهد من على السطوح بأن ميخائيل نعيمة هو الذي علمنا الشعر». ولا يتوانى عن الاستعانة بالعقاد لإثبات تفوقه على صاحب «العواصف»، حيث يسر له صديق له: «أريد أن أقول لك بالسر، إن العقاد قال لي إنه يرى فيك نبوغاً على جميع إخوانك، وعلى جبران أيضاً»، دون أن يأخذ في الاعتبار أن ما قاله العقاد قد يكون متصلاً بالتنافس الحاد بينه وبين جبران على قلب مي زيادة.

أما في الجانب العاطفي، فالواضح أن نزوع نعيمة الطهراني وخوفه من فكرة الخطيئة، قد غذتهما في داخله نشأته الريفية المحافظة، ثم رسختهما المؤسسات التعليمية المختلفة التي أولت اهتمامها الجمّ للتنشئة الأخلاقية والتعاليم اللاهوتية الأرثوذكسية. فنعيمة الذي التحق بالمدرسة الروسية في حيفا يصف حياته هناك بأنها كانت أشبه «بحياة الرهبان في الدير»، مشيراً إلى أن كثيراً من الطلبة قد طردوا من المدرسة بسبب تورطهم في علاقات مشبوهة. وهو إذ يرى في الزواج، رغم نأيه اللاحق عنه، الحل الأفضل لردع الخطيئة وإطفاء نار الغرائز الشهوانية، فهو لا يؤثر العفة المفروضة من قبل المجتمع وقوانينه وأعرافه، بل العفة الطوعية التي يفرضها الفرد على نفسه، مضيفاً: «لقد عانيت في كبح عاطفتي الجنسية الشيء الكثير، ولم أستسلم لها إلا في فترات من حياتي سأذكرها في حينها».

وإذ تأخرت معرفة نعيمة بالنساء بسبب مكابداته النفسية والروحية المرهقة، فإن احتكاكه الفعلي بالنساء قد حدث من خلال المرأة الأوكرانية المتزوجة «فاريا»، التي عرفه بها عام 1908 شقيقها إليوشا. وإذ يلح الكاتب على أنه حاول ما بوسعه الإشاحة بسمعه عن نداء المعصية، إلا إن البورتريه الذي قدمه لفاريا، ذات العينين الزرقاوين الواسعتين والبشرة الناعمة والشعر الكستنائي، فضلاً عن وضعنا نحن القراء في صورة محاولاتها المضنية لإغوائه، أظهرا حرصه الشديد على تقديم ما حدث بين الطرفين بوصفه نسخة جديدة عما حدث بين يوسف وزليخة، مع فارق أساسي تمثل في أن النبي قد حظي ببرهان ربه الذي نجاه من المعصية، فيما صاحب «الغربال» لم يحظ بمثل هذا البرهان.

من حقنا أن نتساءل عن الأسباب التي جعلت نعيمة يسوّغ لنفسه ما حرّمه على جبران... وهو الذي نعت صاحب «النبي» بأنه نهش لحم النساء اللاتي تعلقن به

ومع أن نعيمة لم يرفع راية استسلامه بسرعة للمرأة المتزوجة من رجل ضعيف الشخصية وبسيط إلى حد السذاجة، إلا إنه لا يلبث أن يشير في يومياته إلى الصراع الناشب في داخله بين الوحش الشهواني الذي استيقظ للتو، وبين صورته في عين نفسه وعيون زملائه الطلبة، الذين علقوا على لوحة المعهد رسماً يمثله وهو يقف أمام مومس مشهورة ليرشدها إلى طريق التوبة والعفة، ثم كتبوا تحت اللوحة العبارة التالية: «لقد أضعنا رفيقاً، ولكننا وجدنا نبياً». إلا إن ما ضاعف من وضعه المأزقي، هو ملاحقة فاريا له في حركاته وسكناته، واعترافها الصريح بأنها منذ التقت به لم يعرف قلبها الهدوء. وهي إذ تدرك حجم الصراع الذي يدور في داخله بين العفة والإثم، تحاول أن تكسب وده عن طريق إشعاره بأنها تشاطره المعاناة نفسها، بما جعلها تسقط فريسة المرض والآلام المبرحة، دون أن تنسى اتهامه بقسوة القلب، وبالانشغال عنها بأمور أخرى لا قبل لها بمعرفتها.

وكما يظهر من سياق السيرة، فإن دفاعات الشاب المتمنع لم تلبث أن سقطت أخيراً أمام إصرار فاريا على التشبث به، وصولاً إلى استعدادها الحاسم للذهاب معه إلى لبنان كما إلى نهاية العالم. وحين تأكد له أن إليوشا، شقيق فاريا، وزوجها كوتيا، كانا مطلعين على طبيعة العلاقة وتفاصيلها، كتب نعيمة يقول: «وهكذا استسلمت. أو قل هكذا خدّرت ضميري الحي لأهوّن عليه الاستسلام للبهيمة في داخلي. والغريب أن تنبت لي في أميركا بعد سنين، حالتان مماثلتان فأخرج منهما بعين النتيجة».

ورغم التوطد التدريجي للعلاقة بين نعيمة وفاريا، فإنه ظل متردداً في الاستجابة لإلحاحها اليومي على فكرة الزواج، بسبب شعوره الممض بالذنب اتجاه كوتيا المسكين. ومع قيامها المفاجئ بمحاولة الانتحار، رضي بالزواج منها شرط التحاق زوجها بأحد الأديرة المعروفة. إلا إن رفض الكنيسة هذا الأمر، حرر نعيمة من مأزقه الصعب، ليعود وحيداً إلى لبنان. أما آخر فصول هذه العلاقة المعقدة فقد تمثلت في الرسالة المؤثرة التي بعثت بها فاريا إلى الحبيب اللبناني، الذي لم تتح له قراءة الرسالة إلا بعد مغادرته الوطن الأم باتجاه المهجر الأميركي.

وإذا كانت علاقات نعيمة بالنساء لم تقتصر على فاريا وحدها، فإن اللافت في هذا السياق هو إلحاحه المستمر على إظهار نفسه بمظهر الساحر الصدود لكل من شاءت الظروف أن يلتقي بهن. لذلك فهو لا يجد غضاضة في القول: «لقد هامت بي أكثر من فتاة ذلك الصيف. إلا أنني لم أفتح قلبي ولا استسلمت لإغراء أية واحدة منهن. ولو شئت أن أمثل دور دون جوان لمثلته بسهولة». ثم يتابع متسائلاً: «ماذا أصنع بقلبي الذي ترتمي عليه القلوب وهو لم يجد بعد قلباً يرتمي عليه؟ إنه يريد أن يحب، أن يذوب في الحب، ولكنه لم يجد ضالته، وسيجدها يوماً ما». ويتحدث نعيمة خلال إقامته في فرنسا عن الفتاة الأرستقراطية مادلين التي ظلت تتحين الفرص لاصطياده في حديقة الجامعة، والتي قاوم إغواءها حتى اللحظة الأخيرة. كما يتحدث خلال إقامته الأميركية عن علاقة عاطفية بامرأة متزوجة دعاها بيلّا، معترفاً بأنه أحبها من صميم قلبه، وملقياً عن كاهله عقد الذنب، باعتبار أنها لم تحمل لزوجها السكير سوى مشاعر الكراهية والاشمئزاز.

ثم لا يلبث نعيمة أن يحدثنا عن غرام جديد مع «العاصفة الهوجاء» التي دعاها «نيونيا»، صديقة أحد الرسامين الطليان، والباحثة عن قوت من اللحم والدم والكلمات والنظرات، لا قبل لأحد سواه بتوفيره لها، على حد قوله الحرفي. وهي علاقة استمرت بين عامي 1929 و1932، إضافة إلى علاقات سريعة أخرى، كعلاقته بهيلدا التي طلبت أن يمضي سهرة معها، ليضيف قائلاً: «ولم أشأ أن أكسر خاطرها فقبلتها قبلة عفيفة على جبينها»، وعلاقته المماثلة برئيسة تحرير مجلة أميركية، وبرسامة معروفة التقى بها ليلة وفاة جبران، وأخريات غيرهن.

وإذا لم يكن لنا أخيراً أن نأخذ على نعيمة قراره النهائي بالعزوف عن الزواج، وهو الذي يعترف بوضوح تام: «تبين لي من علاقاتي مع النساء أنني لم أولد لأكون بعلاً لامرأة، وأباً لعدد من البنات والبنين، فعملي في حياتي هو أكثر من تحديد النسل، وهذا العمل لا يطيق لصاحبه أن يتزوج ضرة عليه»، إلا إن من حقنا أن نتساءل في المقابل عن الأسباب التي جعلت نعيمة يسوغ لنفسه ما حرّمه على جبران، وهو الذي نعت صاحب «النبي» بأنه نهش لحم النساء اللاتي تعلقن به، وبأنه كان يدعو النساء إلى فراشه لا إلى قلبه، ومن حقنا أن نتساءل في الوقت ذاته عما إذا كانت الصدف وحدها هي التي جعلت علاقاته العاطفية محصورة بنساء متزوجات، أم إن الأمر متصل بدوافع سيكولوجية عميقة، من بينها إثبات تفوقه على الآخرين، ومنازلتهم فوق ساحاتهم الخاصة وفي عقر أسرّتهم الزوجية؟


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.