«نخلة تاروت» من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت

مزخرفة بنقش متقن يجمع بين التصوير والتجريد

النخلة كما تظهر على قطعتين اثريتين من جزيرة تاروت وقطعة من مقاطعة جيفروت
النخلة كما تظهر على قطعتين اثريتين من جزيرة تاروت وقطعة من مقاطعة جيفروت
TT

«نخلة تاروت» من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت

النخلة كما تظهر على قطعتين اثريتين من جزيرة تاروت وقطعة من مقاطعة جيفروت
النخلة كما تظهر على قطعتين اثريتين من جزيرة تاروت وقطعة من مقاطعة جيفروت

يحتفظ المتحف الوطني في الرياض بمجموعة كبيرة من الأواني المصنوعة من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت، مصدرها جزيرة تاروت التابعة لمحافظة القطيف في المنطقة الشرقية. تحوي هذه المجموعة إناءً أسطواني الشكل تزيّنه أربع نخلات متوازية تتبع نسقاً واحداً في التأليف والنقش، كما تحوي كسراً جزئياً من آنية تزيّنه نخلة مماثلة.

عُرضت هذه الآنية ضمن مجموعة مختارة من أواني تاروت في معرض «طرق الجزيرة العربية» الذي انطلق في باريس صيف 2010 وجال العالم خلال السنوات التالية، وهي من الحجم الصغير، طولها 11.5 سنتيمتراً وقطرها 7.5 سنتيمتر، ومساحة ظهرها مزخرفة بنقش متقن يجمع بين التصوير والتجريد. يتكوّن هذا النقش من أربع نخلات متجاورة تلفّ بسعفها فضاء مساحة الآنية، من الأسفل إلى الأعلى. تتبع هذه الشجرات الأربع مثالاً واحداً جامعاً، تتجلّى سماته في تصوير الجذر والجذع والتاج التي تتكوّن منها النخلة.

ينتصب عمود الجذع في الوسط، وتكسوه قشرة خشبية على شكل شبكة من المربعات المتوازية المتساوية في الحجم. يخرج هذا الجذع من جذر يتكوّن من سلسلة خطوط متعرّجة. يشكّل هذا الجذر قاعدة للجذع العمودي، ويستقر التاج فوق هذه الساق، وتمتدّ سعفه المنبسطة في فضاء التأليف. يتميّز هذا التاج بضخامة سعفه، ويبدو الجذع في وسطها ضئيلاً في حجمه. يعلو الجذع عمود مجرّد يمثّل على الأرجح ما يُعرف بقلب النخلة، وهو «الجمّار» الذي تنبت منه الأغصان. تشكّل هذه الأغصان مثلثاً يمتدّ عمود القلب في وسطه، وتعلو هذا المثلّث شبكة من الخطوط المتوازية تمثّل ورق السعف المعروف باسم الخوص. في أسفل هذا المثلث، تخرج سلسلة أخرى من الأغصان تتدلّى نحو الأسفل وتبلغ في تدلّيها جذر الجذع. تشكّل هذا الأغصان قوساً ينتصب عمود الجذع في وسطه، وتؤلّف شبكة أخرى من السعف صيغ خوصها بالأسلوب نفسه. بين المثلث والجذع، يخرج من كل جهة غصن صغير منحنٍ نحو الأسفل، ويبدو أن هذين الغصنين يمثّلان «الشماريخ» التي تحمل عادةً الرُّطب.

يظهر هذا النموذج التشكيلي للنخلة مع اختلاف بسيط في التفاصيل على قطعة أخرى من تاروت صُنعت كذلك من حجر الكلوريت، وهي عبارة عن كسر من آنية مماثلة على الأرجح. عُرضت هذه القطعة الجزئية عام 2003 في متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك، ضمن معرض حمل عنوان «فن المدن الأولى»، حوى مجموعة من القطع الأثرية التي خرجت من جزيرة تاروت. طول هذا الكسر 10 سنتيمترات، وعرضه 12 سنتيمتراً، ومساحته الصغيرة مزيّنة بنخلة ضاع جذرها. يرتفع الجذع في الوسط، ويعلوه مثلث عمودي يمثّل «الجمّار» الذي تتشكلّ من حوله السعف على شكل مروحة. حول الجذع، تنبت مجموعة من الأغصان تشكل كتلتين مقوّستين متوازنتين من السعف. عن يمين الجذع، يخرج غصن تتدلى من طرفه شبكة من الرطب. وعن يساره، يخرج غصن مماثل فقد شبكة رطبه للأسف.

يتكرّر نموذج «نخلة تاروت» في النتاج الواسع «متعدد الثقافات»، والأمثلة لا تُحصى، ومنها قطع خرجت من نيبور في منطقة الفرات الأوسط العراقية

قال أبو العلاء المعري خلال العصر العباسي: «وَرَدْنا ماءَ دجلة خير ماءٍ - وزُرنا أشرف الشجر النخيلا». وقال السري الرفاء: «فالنخل من باسق فيه وباسقة - يضاحك الطّلعَ في قُنْوانه الرُّطَبا». قبل ذلك بزمن طويل، في الألفية الثالثة قبل الميلاد، تغنّى السومريون بالنخلة، كما يشير الكثير من الشواهد الأدبية، منها نص يشير إلى خلق شجرة النخيل ويعدّد منافعها، ونص وصل باللغة الأكدية، ينقل سجالاً بين شجرة النخلة وشجرة الأثل. يقول النص الأول: «هذه النخلة، وليدة مجرى الماء - الشجرة الأبدية، لم يشهدها قبلاً أحدٌ قط - لسناها سوف يمنحنا لبّاً - ومن لحيتها ذات الألياف سوف تُنسج الحصر - مبارك هو وجودها في الأرض الملكية - وأقراط تمورها بين سعفها الكثيفة - سوف توضع كتقدمات». في النص الثاني، تتباهى النخلة وتجاهر بتفوّقها على غريمتها، وتقارن نفسها بتربة الأرض، فهي تتغذّى النبات والحبوب، وتسعد البشر على اختلاف طبقاتهم، من المُزارع إلى المَلك، وهي البطلة التي ليس لها منافس، ومن ثمارها تقتات «الفتاة اليتيمة والأرملة والرجل الفقير دون حساب».

في تلك الحقبة كذلك، تظهر صور النخلة التشكيلية وتتشكّل نماذجها، والشواهد الأثرية الخاصة بهذه الصور كثيرة في بلاد ما بين النهرين، وأشهرها ختم أسطواني محفوظ في متحف اللوفر يعود إلى عام 2250 قبل الميلاد، وفيه تظهر النخلة المنتصبة في الأفق، وتعلوها بضعة أغصان مورقة ترتفع نحو الأعلى، ومن جذر هذه السعف، تتدلى بضعة أغصان تحمل أطرافها تموراً كروية كبيرة، تشابه في حجمها ثمار التفاح والبرتقال.

تعود «نخلة تاروت» كذلك إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وتمثّل نموذجاً تشكيلياً مغايراً. ينتمي هذا النموذج إلى أسلوب جامع ظهر في نواحٍ متباعدة جغرافياً، ووُصف لهذا السبب بـ«متعدد الثقافات». ظهر هذا الأسلوب في مملكة ماري، على الضفة الغربية لنهر الفرات في سوريا، كما ظهر في نواحٍ عدة من بلاد الرافدين. كذلك، راجت هذه المدرسة في ساحل الخليج، وبرزت في جزيرة تاروت السعودية، كما جزيرة فيلكا الكويتية ومنطقة سار البحرينية. وازدهرت في جنوب شرقي إيران، بين مقاطعتي بلوشستان وكرمان، كما تشهد مجموعة هائلة من أواني الكلوريت خرجت من مقاطعة جيروفت.

يتكرّر نموذج «نخلة تاروت» في هذا النتاج الواسع «متعدد الثقافات»، والأمثلة لا تُحصى، ومنها قطع خرجت من نيبور في منطقة الفرات الأوسط العراقية، وأخرى خرجت من جيفروت، في منطقة نهر هليل، جنوب وسط إيران. يماثل إناءَ تاروت الأسطواني الشكل في بنيته كما في زينته التصويرية إناءان خرجا من جيفروت، وهما أصغر حجماً، وتزين كلّ منهما أربع نخلات صيغت في أسلوب مشابه، مع اختلاف في بعض التفاصيل يظهر في تنسيق السعف وتوزيع حللها.

يسود هذا النموذج الخاص بالنخلة في هذا النتاج المتعدد الأقطاب، لكنّ هذه السيادة لا تمنع ظهور نموذج يتمثّل بارتفاع جذع النخلة، في صورة تشابه في تأليفها المثال السومري. على سبيل المثل، يحضر هذا النموذج المغاير على إناء مخروطي طويل من جيفروت، يزيّنه نقش يمثل أسدين متواجهين يحتلّان النصف الأسفل من التأليف. وسط هذين الأسدين، تنتصب نخلة ممتدة القامة، يعلوها تاج مجللٌ بأغصان من السعف، تشكل أوراقها شبكة زخرفية تحتل القسم الأعلى من الإناء.


مقالات ذات صلة

المتحف المصري الكبير يحتفي بالفنون التراثية والحِرف اليدوية

يوميات الشرق المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)

المتحف المصري الكبير يحتفي بالفنون التراثية والحِرف اليدوية

في إطار التشغيل التجريبي للمتحف المصري الكبير بالجيزة (غرب القاهرة) أقيمت فعالية «تأثير الإبداع» التي تضمنت احتفاءً بالفنون التراثية والحِرف اليدوية.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف صرح لمعبد بطلمي في محافظة سوهاج بجنوب مصر.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق جزء من التجهيز يظهر مجموعة الرؤوس (جناح نهاد السعيد)

«نشيد الحب» تجهيز شرقي ضخم يجمع 200 سنة من التاريخ

لا شيء يمنع الفنان الموهوب ألفريد طرزي، وهو يركّب «النشيد» المُهدى إلى عائلته، من أن يستخدم ما يراه مناسباً، من تركة الأهل، ليشيّد لذكراهم هذا العمل الفني.

سوسن الأبطح (بيروت)
يوميات الشرق مشهد من جامع بيبرس الخياط الأثري في القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

بعد 5 قرون على إنشائه... تسجيل جامع بيبرس الخياط القاهري بقوائم الآثار الإسلامية

بعد مرور نحو 5 قرون على إنشائه، تحوَّل جامع بيبرس الخياط في القاهرة أثراً إسلامياً بموجب قرار وزاري أصدره وزير السياحة والآثار المصري شريف فتحي.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
المشرق العربي الضربات الجوية الإسرائيلية لامست آثار قلعة بعلبك تسببت في تهديم أحد حيطانها الخارجية وفي الصورة المعبد الروماني
(إ.ب.أ)

«اليونيسكو» تحذر إسرائيل من استهداف آثار لبنان

أثمرت الجهود اللبنانية والتعبئة الدولية في دفع منظمة اليونيسكو إلى تحذير إسرائيل من تهديد الآثار اللبنانية.

ميشال أبونجم (باريس)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.