اعتقال كتاب

إجراء يذكّر بعهد سلطة البعث

اعتقال كتاب
TT
20

اعتقال كتاب

اعتقال كتاب

يطبع العالم المتحضّر المؤلّفات في فروع المعرفة والفنّ؛ لأنّ الجميع يسعون وراء كشف الحقيقة، ومن أجل بلوغها فإن كلّ فرد له الحقّ في صنع رأي وفِكر ووجهة نظر. كما أن النّقاش في كافة أمور الحياة ينمو بالاختلاف في الرؤية، أكثر منه بالتّوافق، ولا يمكن بأيّ حال رفض أو تسفيه وجهة نظر أحد، فهي تحمل قناعة قويّة لدى صاحبها كأنّ جبالاً عديدة وراءها، وتبقى المُحاجَجةُ السّبيلَ الوحيدَ للتّوفيق بين الفريقين.

يقول على الوردي، أستاذ الاجتماع العراقي: «الأفكار كالأسلحة تتبدّل بتبدّل الأيّام، ومن يريد أن يبقى على رأيه، كمن يريد أن يحارب سلاحاً نارياً بسلاح عنترة بن شداد».

والمعروف عن الفرنسي بول فاليري أنه شاعر، وكتب قصة قصيرة واحدة طوال حياته، عنوانها (أنا أفكّر):

«كان هرقل يمعن في الأمازونيات قتلاً ونهباً واغتصاباً، وجميع النساء كنّ يهربن من طريقه. إحداهنّ بدتْ غير خائفة، وبدا هو أمام نظرتها الصّافية الشّاردة مغفّلاً أكثر منه وحشاً. كانت تكتب وهي متّكئة على ذراعها.

سألها هرقل: ماذا تفعلين؟

أنا؟ قالت المرأة ودوّنت فكرة، ثم قالت: أنا أفكّر.

أجابها هرقل: أنت تفكرين؟ إذن أنا أنصرف...».

انتهت قصّة هرقل، لكنّ الروايات عن الظُّلم والقهر والاضطهاد في الكون لا تنتهي. لم أقرأ كتاب الباحث فالح مهدي الأخير (استقراء ونقد الفكر الشّيعي)، وسمعتُ وقرأت في صحافة المجتمع خبر مصادرة الكتاب من قبل المسؤولين الأمنيّين في معرض بغداد الدّولي للكتاب، ولستُ هنا للدّفاع عن آراء الكاتب، فهذا ليس من اختصاصي ولا يدخل الموضوع في دائرة الكتب التي أهتمّ بها وأبحث عنها وأقرَؤُها بشغف، لكنّ الخبر أثار فيّ ذِكرى سنوات عهد سلطة البعث الذي حكم العراق بين عامي 1963 و2003، وهي الفترة التي خضع فيها الأدب والفكر والفنّ إلى الرقابة والمنع والنفي، وتتلخّص براعة الأديب من ذلك الزّمان في أن يصمّ عقله عن التّفكير في التّحرّر من العبوديّة التي كان صدّام حسين يُرهق بها النّاس، وذهب رجال سلطات ذلك العهد في العماء أنّهم كانوا يكتّمون على الأدب الذي يُظهر الحقيقة، ويتربّصون، والرّياح المدوّخة تدفعهم، بأصحاب الأقلام المؤيّدين للنظام الحاكم على أن يكونوا مثل النّساء الأمازونيّات أمام هرقل، وأن يستسلموا إليه في الأخير في العقل والوجدان والبدن.

ليس هناك بالطبع وجه للمقارنة بين هذا العصر وعهد الظّلمات السّابق، لكنّ حَجْبَ كتابٍ سوف يؤدّي إلى أن يُفتحَ البابُ واسعاً أمام ثقافة ما كان يُدعى (بالكتاب المستنسخ) في العقود الماضية، والذي كان يُباع بطريقة سرّيّة تُعطيه هالة انتشار أوسع ممّا لو كان مطروحاً على رفوف المكتبات، ويتطلّع إليه المارّة في الشّارع. وإذا حسبنا الفرق بين قبضة رجال الأمن والشّرطة بين الماضي والحاضر، فرجال الحكم الآن مختلفون في كثير من الوجوه عن أولئك، كما أنّ رياح الدّيمقراطيّة التي هبّت أثّرت على الاثنين، الحاكم والمحكوم في البلاد، بطريقة متساوية تقريباً، وإذا أخذنا بالحسبان التّطوّر الذي حصل في هذه السنين في تقنيّات الآلة التي تطبع الكتاب بواسطة التصوير، اكتشفنا سريعاً حقيقةً مفادها أن كتاب الباحث فالح مهدي سوف يُطبع من جديد مرّات تفوق كثيراً لو أنه لا أحد من شرطة الأمن الوطني قام بمصادرته.

ليس هناك كلام يدخل في خانة الأدب أو الفكر والفنّ، يؤدّي رواجه إلى أن تهتزّ السّلطة الحاكمة بطريقة يستحقّ بسببها المؤلّف السّجن والتّعذيب، وحالة الرعب الدائمة التي يعيشها الحاكم الغاشم هي التي ترسم في خياله الأوهام عمّا يدور حوله، فيتصوّر أن خربشة شاعر سادر في رؤاه، سوف تقلب عليه الدنيا من أعلى إلى أسفل.

إن وفرة من حياة جديدة يأتينا بها النهار والليل في كلّ يوم، ويستطيع الأديب، بواسطة مكر الفنّ، إيصال الحقيقة العميقة إلى القارئ، وإن تعدّدت الحراب المسلّطة عليه. الرأي السليم يشبه الماء، إن حاولت قوّة في الأرض أو السّماء إخفاءه أو تغيير طبيعته، فهو يعلن حتماً عن نفسه بصور مختلفة، طيرٌ يشجو يدلّ عليه، وشجرة بغصن يميل، أو عشبة صغيرة تلوّن الأرض رغم الأنواء والصّعاب بالأخضر، تشرق عليه الشّمس فيشعّ عندها ويلتمع. كلّ هذا وغيره يدلّ على الماء، وإن فقدناه لكنّنا نعثر حتماً على أثره.

هناك قول شهير لبيكاسو: «الفن ينبغي ألا يُشجّع، بل أن يُقمع». ويتفّق مع الرسّام ورائد الحداثة في العصر الحديث الكثير من علماء الاجتماع والطبّ النفسي، وهو أن القمع للفكر البشري يؤدي إلى تغذية جذوره بقوّة جديدة، وبالتالي إلى نمائه بطاقة مضافة سببها القهر الذي سلّطه الحاكم على الناس، وعلى المفكّر والفنّان على وجه الخصوص.

لفالح مهدي؛ مؤلّف الكتاب الذي تمّت مصادرته في هذه الأيّام من قبل قوى الأمن الوطني في معرض بغداد، عدا المؤلّفات باللّغة الفرنسيّة، آثار عديدة في الفكر والفلسفة والأدب. لكنّه عُرف بين الجمهور أكثر بواسطة كتابه الذي صدر في بداية الثّمانينات (البحث عن منقذ)، وهو دراسة مقارنة بين الأديان حاول المؤلّف الجمْع بينها عن طريق تشوّف أهل الدّيانات إلى مخلّص ينظرون إليه، يُنقذهم من القهر والظّلم الذي يكابدونه في حياتهم الدنيا. وظهر للمؤلِّف عام 2015 كتاب آخر عن «دار الياسمين» هو (نقد العقل الدّائري: الخضوع السني والإحباط الشّيعي)، وأعيد طبع كتابه (جذور الإله الواحد) الذي نُشر عام 2017 مرّتين، كما أن له بحثاً مهمّاً وطويلاً في (تاريخ الخوف) صدر في كتاب عام 2019، بالإضافة إلى مؤلفات أخرى في القصّة والرّواية، انتشرت بين القرّاء باللّغتين العربيّة والفرنسيّة.



قصيدة الرفض العربية مقارنة بنظيرتها العبرية

قصيدة الرفض العربية مقارنة بنظيرتها العبرية
TT
20

قصيدة الرفض العربية مقارنة بنظيرتها العبرية

قصيدة الرفض العربية مقارنة بنظيرتها العبرية

يتناول كتاب «قصيدة الرفض» الصادر في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، ضمن سلسلة «كتابات نقدية» للناقدة والأكاديمية الدكتورة ناهد راحيل، تجليات شعر الرفض الذي يغرّد خارج السرب في الأدب العربي ومقارنته بنظيره في الأدب العبري من خلال دراسة مقارنة بين كل من الشاعر أمل دنقل والشاعر سامي شالوم شطريت.

ويمكن القول إن الإنجاز الذي يحمله الكتاب هو النظر إلى الشعر العبري المعاصر من زاوية تحليلية مختلفة ترصد اختلاف المضمون والرؤية التي يقدمها شاعر ينحدر من أصول عربية، ويشتبك بحس نقدي مفارق مع كثير من القضايا والمفاهيم السائدة. أما فيما يتعلق بأمل دنقل، فلا يكاد يأتي الكتاب بجديد يصنع الفارق في تناول تجربة ضخمة وعميقة ومؤثرة مثل تجربة دنقل، من هذا المنظور.

تشير المؤلفة في البداية إلى أن الرفض لدى الشاعر سامي شالوم شطريت موجّه ضد السلطة التي تتمثل لديه في «الصهيونية»، سواء بصفتها فكرة أطلقها يهود أوروبا لتصبح بمثابة «ديانة» تحمل نبوءة «أرض الميعاد»، أو من خلال رفضه محاولات المؤسسة الصهيونية طمس هوية اليهود الشرقيين ومحوها وإرغامهم على تبني الهوية الغربية.

وتعبر قصائد شطريت عن اعتقاده بأن أتباع الصهيونية الأشكنازية «الغربية» وقادتها لم يكونوا بعيدين عن مشاعر التملك التي انتابت أبناء شعوب أوروبا في نظرتهم إلى بقية شعوب العالم، فعندما نظر يهود أوروبا إلى أفريقيا والشرق الأوسط لم يفرّقوا بين المسلمين واليهود، فكان الجميع في نظرهم «برابرة» مثلما وصفهم هرتزل وطلب أن يتم بناء «درع» من أجل حماية العالم الأوروبي المتمدن منهم.

ويؤكد شطريت في بعض قصائده على رفض اليهود الشرقيين لأي فكر صهيوني، مستدعياً في قصيدته «امرأة مغربية» حاييم نحمان بباليك، وهو أحد الشعراء المعروفين الذين عبَّروا في أشعارهم عن الحركة الصهيونية والدعوة إلى إقامة وطني قومي لليهود، مع وصف أمه مرارا بتعبير «طيَّب الله ذكراها». تحمل القصيدة طابعاً ساخراً، حيث يؤكد شطريت أن شاعرة مغربية يهودية لم تسمع يوماً باسم «بباليك» في إشارة إلى موقف اليهود المشارقة مما يحمله نظراؤهم الغربيون من أفكار متطرفة.

يقول مطلع قصيدة «امرأة مغربية»:

«أعرف شاعرة

امرأة مغربية

لا تعرف بباليك

ولا تعرف أمه «طيَّب الله ذكراها»

وفي إطار الخلط بين مصطلحي «يهودي» و«صهيوني»، يحرص الشاعر العبري على توضيح اختلاف المفهومين، فليس كل يهودي صهيونياً وليس كل صهيوني يهودياً كذلك. ومن ثم يرفض شطريت في قصيدته «لوحة بلا جدار» الخلط بين المفهومين، مؤكداً أن هناك قطاعاً عريضاً من اليهود لا يؤمنون بالصهيونية:

«كيف تستطيع أن تواصل الإصرار على الانتماء إلى اليهود؟

ضحكت له

ماذا تعني... كيف؟

أنا يهودي ولا أعرف أن أكون شيئاً آخر

أية وقاحة، أنا يهودي، لست صهيونياً

لكنني يهودي منذ نعومة أظافر

الإنسان المغربي بداخلي»

وتؤكد قصيدة «بعد الأوبرا» على رفض اليهود الشرقيين محاولات المؤسسات المختلفة لطمس هويتهم الأصلية وصبغها بصبغة أخرى ذات طابع أوروبي أشكنازي:

«بعد الأوبرا

سيفك رابطة العنق

ويغطي جسده جلباب

من صنع فنان «وارد من المغرب»

ثم سيغسل أذنيه

بتدفق لذيذ لأنغام العود»

يتجلى صراع الهوية هنا بين دار الأوبرا ورابطة العنق باعتبارهما ترمزان إلى الغرب من جانب، وبين الجلباب والعود باعتبارهما ترمزان إلى الشرق من جانب آخر. ويبدو اليهودي الشرقي هنا متمسكاً بهويته حريصاً عليها، يتوق سريعاً إلى التحرر من مفردات غربية مفروضة عليه، ولا يجد راحته سوى في التعامل وفق ثقافته الشرقية.