الذكاء الاصطناعي... شبح يحوم في سماء صناعة النشر

يرجّح أن تكون انعكاساته على الكتاب أكثر اتساعاً وعمقاً

إضراب العاملين في صناعة الأفلام بهوليوود مطالبين بحمايتهم من تغوّل الذكاء الاصطناعيّ
إضراب العاملين في صناعة الأفلام بهوليوود مطالبين بحمايتهم من تغوّل الذكاء الاصطناعيّ
TT

الذكاء الاصطناعي... شبح يحوم في سماء صناعة النشر

إضراب العاملين في صناعة الأفلام بهوليوود مطالبين بحمايتهم من تغوّل الذكاء الاصطناعيّ
إضراب العاملين في صناعة الأفلام بهوليوود مطالبين بحمايتهم من تغوّل الذكاء الاصطناعيّ

لمس التطور المتسارع للتكنولوجيات الحديثة في الأتمتة والاتصالات معظم مجالات الإنتاج البشري، بما فيها صناعة النشر وتجارة الكتب التي شهدت خلال ربع القرن الأخير تحولات ثوريّة، لم يقل تأثيرها عمّا فعلته مطبعة غوتنبرغ بالكتب والقراءة والمعرفة في عالم الغرب بعد 1447.

فمن انطلاق متجر «أمازون» الإلكتروني في 1995 الذي أعاد تشكيل مشهد تجارة بيع الكتب بالتجزئة على نحو حاسم، إلى ظهور الكتب الإلكترونية، المقروءة منها والمسموعة، والتي هددت بشكل وجودي الجيوب التقليديّة لصناعة النشر برمتها، من لحظة الكتابة إلى طريقة وصول النصّ إلى يد القارئ -أو أذنيه- مروراً بإنتاج المادة موضوع التبادل؛ لا سيما مع توسّع إمكانات النشر الذاتي من قبل المؤلفين أنفسهم. وفي كل نقلة نوعيّة من هذه التطورات، اضطرت الصناعة إلى التكيّف، أو مواجهة اندثار محتّم.

واليوم، ثمة شبح اضطراب جديد يرجّح أن تكون انعكاساته على الكتاب أكثر اتساعاً وعمقاً في الوقت ذاته: إنّه صعود الذكاء الاصطناعي.

كانت لهذه التكنولوجيا الأحدث اختراقات مبكرة في بعض جوانب صناعة النشر، مثل التسويق والإعلان وإنتاج الكتب الإلكترونية والمسموعة، واستعان بها بعض المؤلفين لتوسيع مروحة إنتاجهم وإثراء مصادرهم؛ لكنها -وعلى نحو متسارع- تخلّق إمكانات قادرة على تغيير العمليّة برمتها، بما فيها فعل الكتابة نفسه، لدرجة أن الذكاء الاصطناعي يمكنه عمليّاً تأليف النصوص، وإعدادها للنشر، وطباعتها، أو إنتاجها إلكترونياً، والترويج لها، لا بل ورصد ردود أفعال النقاد والقراء عليها في الصحف والمواقع وعلى منصات التواصل الاجتماعيّ. ويمكن أن يقتصر دور البشر في هذه الوظائف كلّها على وضع المواصفات العامة المطلوبة للنص: طبيعته، ومحتواه، ومنهجيته، وأشكال إنتاجه وصيغها، والقنوات التوزيعية التي يراد عرض المنتج عليها. وحتى هذا الدّور يمكن –على الأقل على الصعيد النظري– أن يصل الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة المبادرة بها كانعكاس لأمر آخر، مثل توفير أدوات لتغيير الرأي العام حول مسألة معينة، فيقرر الذكاء الاصطناعي تالياً أن كتاباً قد يكون من تلك الأدوات، فينتجه في برهة من الوقت قد لا تتجاوز ثواني قليلة.

ويمكن للجيل الحالي من أجهزة الذكاء الاصطناعي توليد أعمال فنيّة، وتصميمات ونصوص ومقاطع بصريّة مثيرة للدهشة في قدرتها على محاكاة أساليب فنانين ومصممين وكتاب مشهورين، حتى مجالات كنا إلى وقت قريب نظنّ أنها رهينة إلهام شيطان الإبداع، مثل كتابة الروايات الأدبيّة مثلاً. وتتوفر حالياً برامج للعموم، بعضها مجاني أو قليل التكلفة لتصميم أغلفة الكتب دون مصممين، ومعالجات تكتب قصصاً للأطفال، وأخرى لتدريب المؤلفين المبتدئين على التوسع في تطوير شخصيات رواياتهم، إضافة إلى برامج تدّعي أنها تحاكي نثر كتاب كلاسيكيين، مثل جين أوستن وإدغار آلان بو. ولا شكّ في أن الجيل التالي الذي لن يطيل المكوث في المستقبل سيمتلك قدرات أعظم بما لا يقاس.

في الغرب، تسببت هذه التطورات فيما يشبه موجة من الهلع، وانضم الناشرون والكتاب إلى الفنانين والمبرمجين ومنشئي المحتوى في الجأر بالشكوى ومقاضاة شركات الذكاء الاصطناعيّ، متهمين إيّاها بالاستخدام المجاني لأعمالهم وإبداعاتهم في تأهيل هذا الشبح، وتدريبه على إنتاج أعمال يمكن تدريجياً أن تستغني عن وجودهم كليّاً.

ويُضرب الآن كتاب السيناريو والممثلون ومختلف فئات العاملين بصناعة الأفلام في هوليوود، عاصمة صناعة السينما الأميركيّة، مطالبين بحمايتهم من تغوّل محتمل على مواهبهم من قبل الذكاء الاصطناعيّ. كما نظمت نقابة المؤلفين مؤخراً عريضة وقعها آلاف الكتاب، تطالب مجموعات التكنولوجيا بالحصول على موافقتهم قبل استخدام إبداعاتهم لتدريب برامج الذكاء الاصطناعي.

واعتبرت «بنجوين راندوم هاوس» أكبر دار للنشر في العالم، أن «ابتلاع» المواد المنشورة من قبل كومبيوترات فائقة التطور دون إذن مسبق، اعتداء صريح على حقوق الملكيّة الفكريّة. وسارعت عدة وكالات تمثل الرسامين بمراجعة قانونية شاملة لنماذج عقودها، لتتضمن منعاً صريحاً لاستخدام عملهم لتغذية خبرات برامج الذكاء الاصطناعي.

في بريطانيا التي يضيف ناشرو الكتب والمجلات فيها أكثر من 7 مليارات دولار سنوياً للاقتصاد القومي، التجأ كبار رجالات الصناعة إلى رئيس الوزراء، ريشي سوناك، كي يقود عمليّة حماية حقوق الملكيّة الفكريّة للمنتجات الإبداعيّة من شبح الذكاء الاصطناعيّ، وذلك على هامش قمّة عالميّة تعتزم المملكة المتحدة تنظيمها قريباً (نوفمبر «تشرين الثاني» المقبل) للبحث في توافق دولي حول تنظيم هذا الذكاء «من أجل استعمالات آمنة ومسؤولة» حسب تعبير أدبيات القمّة. وتحاول بريطانيا من خلال هذه القمّة فرض نفسها لاعباً رئيسياً على جهود يقوم بها الأميركيّون فعلاً بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي لهذه الغاية. وحثت جمعيّة الناشرين -في رسالة مكتوبة وجهت لسوناك- على فرض احترام حقوق الملكية الفكريّة عند استعمال المحتوى لتغذية أنظمة الذكاء الاصطناعيّ، وفرض ديناميّة للحصول على ترخيص مسبّق مقابل بدل مادي عادل.

وليس سرّاً أن مجموعات التكنولوجيا توظّف بالفعل المحتوى «الإبداعي»، مثل التصميمات والنصوص والصور والأصوات والألحان، من الصحف والكتب والفن والموسيقى، لتدريب نسخهم من أنظمة الذكاء الاصطناعي على إنتاج مواد على النسق ذاته، بتكلفة زهيدة للغاية، وبوقت قياسي. ويقول الناشرون إن هذا يعد بمثابة استخدام غير عادل لأصولهم من حيث المبدأ، ناهيك بالطبع عن إمكان الاستغناء عنهم مستقبلاً، وإنتاج مواد مثل سلاسل الروايات والمقالات الصحافية والأفلام والصور التي تستلهم روح الأعمال الأصلية دون المرور بهم. وحذر الناشرون من أن التخلي عن أساس الصناعة المتمثل في الحماية الفكريّة، من شأنه إلحاق الضرر بالإبداع الإنساني، فضلاً عن القضاء على سبل عيش أعداد هائلة من الفنانين، والباحثين، والمؤلفين، والناشرين.

وتشير تجربة استقصائية أجرتها شركة ألمانيّة معنية بصناعة النشر الإلكتروني، إلى أن 8 في المائة فقط من عينة واسعة من الأشخاص تمكنوا من اختيار صورة وجه بشري حقيقي، عندما وضعت إلى جوار 3 صور أخرى تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي. وقس بالطبع على ذلك في مقاطع أفلام الفيديو، والرسوم، والتصاميم، وربما النصوص أيضاً.

طالبت جمعيّة الناشرين في بريطانيا رئيس الوزراء بفرض احترام حقوق الملكية الفكريّة عند استعمال أي محتوى لتغذية أنظمة الذكاء الاصطناعيّ

ومع ذلك، فإن مجموعات التكنولوجيا تقول بأن شركات النشر تستفيد بالفعل من ثمار تطور الذكاء الاصطناعي، وإن دون الاحتفاء بذلك علناً. وهناك مؤلفون استعانوا بالفعل ببرامج متقدمة ساعدتهم في كتابة نصوصهم، وإعدادها في كتب جاهزة للنشر والتوزيع، بما في ذلك تصميم الصفحات والغلاف، وإعداد المواد الترويجية، وإنشاء أوصاف أفعل للمحتوى كي تتسع دائرة انتشار الكتاب عبر محركات البحث والتطبيقات المتخصصة. وحسب خبراء، فإن ثمة برامج تساعد المؤلفين على تلخيص المصادر الممكنة، وأخرى يمكنها إرشادهم في إدارة حبكة أعمالهم، وثالثة تقدم لهم بدائل حول لهجة وأسلوب الكتابة، وذلك سوى البرامج الذكية لرفع مستوى استخدام اللغة في الجمل الفرديّة وتحرير الفقرات، وتلاوة النصوص لإنتاج نسخ مسموعة. كما تتوفر لبقية المبدعين، سواء كانوا مصورين أو منتجي مقاطع فيديو أو رسامين أو حتى موسيقيين، أدوات جبارة موازية يسهل الوصول إليها عبر أجهزة الكومبيوتر الخاصة بهم، لمساعدتهم في مختلف مراحل عمليّة إنتاجهم الإبداعيّ.

وتأخذ الأمور طابعاً سوريالياً، إذ تطالب الشركات التي تنتج مواد «إبداعية» من خلال الذكاء الاصطناعي بدورها بإجراء تعديلات على التشريعات العالمية المعمول بها لحماية الملكية الفكريّة وحقوق المؤلفين والمبدعين، بحيث تمتد مظلتها لتشمل النصوص والأعمال المنتجة آلياً.

إن صناعة النشر تعيش الآن في خضم لحظة ثورة جامحة. وكما كل تغيير ثوري النزعة، سيسقط ضحايا كثيرون أبرياء على الجوانب؛ لكن لا شيء يمكنه أن يوقف تتابع موجات التقدم التكنولوجي أو تنظيمها -لا سيما مع تنافس الدّول الكبرى في هذا المجال- ولذا سيكون شكل العالم بعدها -وطرائق الإبداع، والكتب أيضاً- غيره قبلها.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية. يكفي أن يُلقي أحدهم نظرة عابرة على لافتات المحال أو أسماء الأسواق التي تحاصر المواطن العربي أينما ولّى وجهه ليكتشف أن اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، صار لها اليد الطولى. ويزداد المأزق حدةً حين تجد العائلات أصبحت تهتم بتعليم أبنائها اللغات الأجنبية وتهمل لغة الضاد التي تعاني بدورها من تراجع مروِّع في وسائل الإعلام ومنابر الكتابة ووسائط النشر والتعبير المختلفة.

في هذا التحقيق، يتحدث أكاديميون وأدباء حول واقع اللغة العربية في محاولة لتشخيص الأزمة بدقة بحثاً عن خريطة طريق لاستعادة رونقها وسط ما يواجهها من مخاطر.

سمير الفيل

عاميات مائعة

في البداية، يشير الناقد والأكاديمي البحريني د. حسن مدن إلى أنه من الجيد أن يكون للغة العربية يوم نحتفي بها فيه، فهي لغة عظيمة منحت بثرائها ومرونتها وطاقاتها الصوتية العالم شعراً عظيماً، كما منحته فلسفة وطباً ورياضيات وهندسة، واستوعبت في ثناياها أمماً وأقواماً عدة. ورأى مدن أن يوم اللغة العربية ليس مجرد يوم للاحتفاء بها، إنما هو، أيضاً، وربما أساساً، للتنبيه إلى المخاطر الكبيرة التي تواجهها، حيث تتهدد سلامة الكتابة والنطق بها مخاطر لا تُحصى، متسائلاً: ماذا بقي في أجهزة التلفزة الناطقة بالعربية من اللغة العربية السليمة، التي تُنتهَك قواعدها كل ساعة، وتحل محلها عاميات مائعة، حيث يتبارى المذيعات والمذيعون في التلذذ بمطِّ ألسنتهم وهم ينطقونها، فيما يختفي جيل أولئك المذيعين المفوهين ذوي التأسيس اللغوي السليم الذين كانت اللغة العربية تشنّف الأسماع من على ألسنتهم؟

د. حسن مدن

ويستدرك الأكاديمي البحريني موضحاً أنه ليس مطلوباً من الجميع أن يتحولوا إلى علماء أفذاذ على غرار سيبويه، فذلك مُحَال، خصوصاً أن الانشطار الذي أصاب اللغة العربية إلى فصحى ومجموعة لهجات عامية جعل من المستحيل أن تكون لغتنا العربية، بصرفها ونحوها لغة محادثة يومية، ولكن ثمة حدود دنيا من قواعد اللغة وطريقة كتابتها ونطقها يجب احترامها والحفاظ عليها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخاطر تخريب اللغة.

ويلفت د. مدن إلى أنه فيما يتعلق بواقع اللغة في معاهد التعليم والدرس، نجد أنه من المؤسف أن معيار تفوق التلميذ أو الطالب الجامعي بات في إتقانه اللغة الإنجليزية لا العربية، وبات يفكر كل والدين حريصين على مستقبل أبنائهما في تعليمهم الإنجليزية، ومن النادر أن يتحدث أحدهم عن حاجة أبنائه إلى إتقان العربية. ويحذر د. مدن من مخاوف تواجه مستقبل لغة الضاد وإمكانية تعرضها لخطر يتهدد وجودها، لافتاً إلى أن هناك تقريراً أجنبياً يتحدث عن أن قرننا الحالي سيشهد ضمور وموت مائتي لغة من لغات شعوب العالم تحت سطوة العولمة الثقافية التي تتخذ من اللغة الإنجليزية «المؤمركة» وسيلة إيصال واتصال.

د. عيدي علي جمعة

حلول عملية

ويشير القاصّ والروائيّ المصريّ سمير الفيل إلى عدة حلول عملية للخروج من النفق المظلم الذي باتت تعيشه لغة الضاد، مشيراً إلى ضرورة الاهتمام بمعلمي اللغة العربية وأساتذتها في المدارس والجامعات، من حيث الرواتب وزيادة مساحات التدريب، بالإضافة إلى جعل اللغة العربية أساسية في كل المؤسسات التعليمية مهما كانت طبيعة المدرسة أو الجامعة. وهناك فكرة الحوافز التي كان معمولاً بها في حقبتَي السبعينات والثمانينات، فمن يدخل أقسام اللغة العربية من الحاصلين على 80 في المائة فأكثر، تُخصَّص لهم حوافز شهرية.

ويمضي «الفيل» في تقديم مزيد من المقترحات العملية مثل استحداث مسابقات دائمة في تقديم دراسات وبحوث مصغرة حول أعمال رموز الأدب العربي قديماً وحديثاً، فضلاً عن عدم السماح بوجود لافتات بلغة أجنبية، وتحسين شروط الالتحاق بكليات العربية المتخصصة مثل دار العلوم والكليات الموازية. ويضيف: «يمكنني القول إن اللغة العربية في وضع محرج غير أن الاهتمام بها يتضمن أيضاً تطوير المنهج الدراسي بتقديم كتابات كبار المبدعين والشعراء مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأبي القاسم الشابي، وغيرهم في المنهج الدراسي بحيث يكون مناسباً للعصر، فلا يلهث للركض في مضمار بعيد عن العصرية، أو الحداثة بمعناها الإيجابي».

تدخل رسمي

ويطالب د. عايدي علي جمعة، أستاذ الأدب والنقد، بسرعة تدخل الحكومات والمؤسسات الرسمية وجهات الاختصاص ذات الصلة لوضع قوانين صارمة تحفظ للغة العربية حضورها مثل محو أي اسم أجنبي يُطلق على أي منشأة أو محل داخل هذه الدولة أو تلك، مع دراسة إمكانية عودة « الكتاتيب» بصورة عصرية لتعليم الطفل العربي مبادئ وأساسيات لغته بشكل تربوي جذاب يناسب العصر.

ويشدد على أن اللغة العربية واحدة من أقدم اللغات الحية، تختزن في داخلها تصورات مليارات البشر وعلومهم وآدابهم ورؤيتهم للعالم، وأهميتها مضاعفة، لكثرة المتحدثين بها في الحاضر، وكثرة المتحدثين بها في الماضي، فضلاً عن كثرة تراثها المكتوب، لكن من المؤسف تنكُّر كثير من أبنائها لها، فنرى الإقبال الشديد على تعلم لغات مختلفة غير العربية، فالأسر حريصة جداً على تعليم الأبناء في مدارس أجنبية، لأنهم يرون أن هذه اللغات هي البوابة التي يدخل منها هؤلاء الأبناء إلى الحضارة المعاصرة.

الأديب السوري الكردي، المقيم في بلجيكا، هوشنك أوسي، إنتاجه الأساسي في الشعر والرواية والقصة القصيرة باللغة العربية، فكيف يرى واقع تلك اللغة في يومها العالمي؟ طرحنا عليه السؤال، فأجاب موضحاً أن الحديث عن تردّي واقع اللغة العربيّة مبالَغ فيه، صحيح أنّ العالم العربي والبلدان العربيّة هي مناطق غير منتجة صناعياً، ولا تقدّم للعالم اختراقات وخدمات علميّة تسهم في الترويج للغة العربيّة والتسويق لها، كحال بلدان اللغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والصينيّة، إلاّ أن اللغة العربيّة لم تكتفِ بالمحافظة على نفسها وحسب، بل طوّرت نفسها لتنسجم ومقتضيات العصر وإيقاعه المتسارع.

ويلفت أوسي إلى نقطة مهمّة مفادها أن النهوض الاقتصادي في الصين وكوريا الجنوبيّة واليابان، لم يجعل من لغات هذه البلدان رائجة في العالم، ومنافسة للغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة. وفي ظنه أن أعداد الأجانب الذين يودّون تعلّم اللغة العربيّة، لا يقلّ عن الذين يودّون تعلّم اللغات الصينيّة واليابانيّة والكوريّة.