«فوي! فوي! فوي!» فيلم مصري يطمح للأوسكار بموضوعه الساخن عن الهجرة غير الشرعية

الممثلة السينمائية المصرية نيللي كريم خلال العرض الإقليمي الأول ﻟ«الفيلم المصري 2023» «فوي! فوي! فوي!» في سينما فوكس سيتي سنتر في بيروت في 21 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)
الممثلة السينمائية المصرية نيللي كريم خلال العرض الإقليمي الأول ﻟ«الفيلم المصري 2023» «فوي! فوي! فوي!» في سينما فوكس سيتي سنتر في بيروت في 21 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

«فوي! فوي! فوي!» فيلم مصري يطمح للأوسكار بموضوعه الساخن عن الهجرة غير الشرعية

الممثلة السينمائية المصرية نيللي كريم خلال العرض الإقليمي الأول ﻟ«الفيلم المصري 2023» «فوي! فوي! فوي!» في سينما فوكس سيتي سنتر في بيروت في 21 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)
الممثلة السينمائية المصرية نيللي كريم خلال العرض الإقليمي الأول ﻟ«الفيلم المصري 2023» «فوي! فوي! فوي!» في سينما فوكس سيتي سنتر في بيروت في 21 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)

يطرح فيلم «فوي! فوي! فوي!» (!Voy! Voy! Voy) الذي رشحته القاهرة لجوائز الأوسكار، موضوع الساعة وهو الهجرة غير الشرعية من الشرق الأوسط وأفريقيا، وتشكّل مصر أحد منابعها، وكذلك لبنان الذي بدأت فيه عروض الشريط الخميس، حسبما أفادت وكالة الصحافة الفرنسية.

وسيكون الفيلم الذي كتب حواره وأخرجه عمر هلال، ضمن الأفلام الساعية للتأهل إلى المرحلة النهائية في فئة أفضل فيلم أجنبي من بين عشرات الترشيحات من مختلف دول العالم.

ويروي الفيلم قصة حارس أمن يؤدي دوره محمد فراج، يعيش مع والدته في حي فقير، ويسعى للهجرة إلى أوروبا بحثاً عن مستقبل أفضل. ولكن ليس بالقارب نظراً إلى أن هذه الطريقة مكلِفة مادياً ومحفوفة بالمعاناة والخطر.

وما كان من الحارس لكي يتمكن من الانتقال إلى أوروبا إلاّ أن تظاهر بأنه فاقد البصر وانضم إلى فريق لكرة القدم للمكفوفين يستعد للمشاركة في بطولة كأس العالم في بولندا. وما لبث الكفيف المزيّف أن اكتشف أنه ليس وحده من اعتمد هذه الحيلة.

وشرح المخرج عمر هلال البالغ 48 عاماً، في حديث لوكالة الصحافة الفرنسية خلال وجوده في بيروت مع أعضاء في طاقم العمل للترويج للفيلم، ظروف ولادة فكرته، فروى أنه قرأ «منشوراً على (فيسبوك) تَداوَلَه الكثير من المتابعين، عن مجموعة من الشبان المصريين انتحلوا صفة مكفوفين ووصلوا إلى بولندا وفرّوا إلى جهات أخرى».

وقال هلال الذي نشأ في السعودية وكندا: «وجدتُ في القصة تماماً ما أبحث عنه».

وجعل هلال هذه القصة العمود الفقري لفيلمه، لكنّه بنى نصه الدرامي على «أحداث ومفارقات» من صميم أفكاره.

وأضاف: «في الخبر الحقيقي، لم يكن أعضاء الفريق لاعبي كرة قدم عادية، بل لاعبي كرة بالجرس، وهي رياضة خاصة بالمكفوفين، قريبة من كرة اليد».

و«فوي» كلمة إسبانية تعني «أنا قادم»، يقولها اللاعبون غير المبصرين حين تكون الكرة معهم للتواصل مع زملائهم.

وتؤدي نيللي كريم دور صحافية يستأثر الفريق باهتمامها. وقالت الممثلة المصرية الشهيرة لوكالة الصحافة الفرنسية عن شخصيتها في الفيلم: إنها «صحافية ملّت إعداد الموضوعات التافهة، فذهبت ذات يوم لإجراء مقابلات مع شباب في نادي الإحسان، حيث تعرفت إلى عالم جديد بالنسبة إليها، ونشأت قصة إعجاب خفيفة وصدمات».

وأضافت كريم أنها «الشخصية الوحيدة في الفيلم المتفائلة بالحياة».

المخرج السينمائي المصري عمر هلال والممثلة نيللي كريم خلال العرض الإقليمي الأول ﻟ«الفيلم المصري 2023» «فوي! فوي! فوي!» في سينما فوكس سيتي سنتر في بيروت في 21 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)

«ضياع وخوف»

وأشار هلال الذي درس الإعلام في الجامعة الأميركية في القاهرة، إلى أن حوادث الفيلم «تدور عام 2013، أي في مرحلة ضياع وخوف وقلق» تَلَت ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 التي أطاحت الرئيس المصري السابق حسني مبارك.

وأضاف: «لم يحتمل أحد الحكم الجديد آنذاك برئاسة (محمد) مرسي...، فالحياة في ظل حكم الإخوان (المسلمين) كانت لا تُطاق، وكان يوجد خوف على المستقبل... ورغبة جامحة في الخروج».

ومع أن القضية التي يطرحها الفيلم مأساوية، شاء هلال أن يعالجها «بأسلوب كوميدي طريف، خلافاً للسائد في الأفلام التي تتناول الهجرة غير الشرعية عادة».

ولم يعتمد الفيلم على «النحيب والبكاء»، بل تكمن قوته بحسب هلال في «الفرادة في طريقة رواية القصة».

وأبدى الناقد السينمائي اللبناني إلياس دُمَّر بعد حضوره العرض الأول في بيروت إعجابه باختيار «نهاية سعيدة لفيلم عن مأساة الهجرة غير الشرعية».

ولا يحبّذ المخرج الذي يعمل أساساً في مجال الإعلانات الهجرة غير الشرعية. وقال في هذا الصدد: «حين يصل المهاجر إلى الجهة الأخرى، قد لا تكون حياته أفضل». وشدد على ضرورة «تحسين أوضاع الشباب ليبقوا في بلدهم ولا يغامروا بحياتهم؛ فالهجرة غير الشرعية قد تقتلهم».

وكان عدد من المصريين في يونيو (حزيران) الماضي بين العشرات من المهاجرين الذين قضوا في غرق قارب صيد قديم قبالة سواحل اليونان، في واحد من أكبر حوادث غرق مراكب الهجرة إلى أوروبا.

أما نيللي كريم، فلاحظت أن «الهجرة غير الشرعية موضوع مهم حالياً. فالناس يتوقون إلى السفر... ليحققوا آمالهم، لكن... ليس بمجرد السفر إلى الخارج تصبح ظروف الحياة أفضل».

الممثلة السينمائية المصرية نيللي كريم تتحدث خلال العرض الإقليمي الأول ﻟ«الفيلم المصري 2023» «فوي! فوي! فوي!» في سينما فوكس سيتي سنتر في بيروت في 21 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)

العين على الأوسكار

وأمل المخرج في أن يجذب «فوي فوي فوي» القيّمين على الأوسكار. وقال: «كان طموحي أن أصل إلى العالمية. وأثناء إدارتي الممثلين طلبت منهم أن يبذلوا جهداً إضافياً في أداء أدوارهم لأننا نريد أن نصل إلى الأوسكار».

ومن المقرر الكشف عن الأفلام الـ15 المتأهلة إلى التصفية ما قبل النهائية للفوز بجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي في 21 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، على أن تُعلن قائمة الأفلام الخمسة المتأهلة إلى المنافسة النهائية في هذه الفئة في 23 يناير 2024؛ تمهيداً لحفلة توزيع جوائز الأوسكار في العاشر من مارس (آذار) في لوس أنجليس.

وتتمحور أفلام أخرى ضمن هذه الفئة حول موضوع الهجرة غير الشرعية، منها الإيطالي «إيو كابيتانو» للمخرج ماتيو غاروني.

وبات موضوع الهجرة حاضراً بقوة في أعمال الشاشة الكبيرة، ومنها فيلم «غرين بوردر» للمخرجة البولندية أنييشكا هولاند الذي حصل أخيراً على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان البندقية السينمائي.

وتصاعدت المخاوف أخيراً في أوروبا جراء تدفّق المهاجرين بكثافة إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية الصغيرة. وشددت روما إجراءاتها لمواجهة هذه الظاهرة، في حين اقترحت المفوضية الأوروبية خطة لمساعدتها.

وتُعدّ مصر أحد مصادر الهجرة غير النظامية، ويُقبل عدد متزايد من المصريين الشباب على الانتقال إلى أوروبا بواسطة قوارب صيد. ومثّل المصريون العام الماضي واحداً من كل خمسة مهاجرين وافدين إلى إيطاليا بهذه الطريقة، بحسب بيانات وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء. وأطلقت القاهرة استراتيجية 2016- 2026 لـ«تجفيف منابع الهجرة غير الشرعية».


مقالات ذات صلة

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

يوميات الشرق من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

«رايفنشتال» للألماني أندريس فايَل فيلم مفعم بالتوثيق مستعيناً بصور نادرة ومشاهد من أفلام عدّة للمخرجة التي دار حولها كثير من النقاشات الفنية  والسياسية.

محمد رُضا (ڤينيسيا)
يوميات الشرق السيناريست المصري عاطف بشاي (صفحته على «فيسبوك»)

الوسط الفني بمصر يودّع السيناريست عاطف بشاي

ودّع الوسط الفني بمصر المؤلف والسيناريست المصري عاطف بشاي، الذي رحل عن عالمنا، الجمعة، إثر تعرضه لأزمة صحية ألمت به قبل أيام.  

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق أنجلينا جولي في مهرجان ڤنيسيا (إ.ب.أ)

«الشرق الأوسط» بمهرجان «ڤنيسيا-4»... ماريا كالاس تعود في فيلم جديد عن آخر أيام حياتها

إذا ما كانت هناك ملاحظة أولى بالنسبة للأيام الثلاثة الأولى التي مرّت على أيام مهرجان ڤنيسيا فهي أن القدر الأكبر من التقدير والاحتفاء ذهب لممثلتين أميركيّتين.

محمد رُضا (فينيسيا)
يوميات الشرق جمانا الراشد رئيسة مجلس أمناء «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» خلال مشاركتها في افتتاح مهرجان البندقية (الشرق الأوسط)

«البحر الأحمر السينمائي» تشارك في مهرجان البندقية بـ4 أفلام

تواصل «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» حضورها بالمهرجانات الدولية من خلال مشاركتها في الدورة الـ81 من مهرجان البندقية السينمائي بين 28 أغسطس و7 سبتمبر.

«الشرق الأوسط» (البندقية)
سينما جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)

كلاسيكيات السينما على شاشة «ڤينيسيا»

داوم مهرجان «ڤينيسيا» منذ سنوات بعيدة على الاحتفاء بالأفلام التي حفرت لنفسها مكانات تاريخية وفنية راسخة. ومنذ بضعة أعوام نظّمها في إطار برنامج مستقل

محمد رُضا‬ (ڤينيسيا)

«سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

«سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة
TT

«سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

«سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

لطالما اقترن الرقم «سبعة» بخصوصية سِحرية في مُخيلة سرديات البِحار، فحكايات السندباد البحري وأسفاره السبعة تُحيلنا إلى متاهات البحور التي لا تنقطع حبائل غرابتها على مدار الحكاية «الألف ليلية» للسندباد البغدادي، وفي زمن روائي جديد تقطع «أميرة البحار السبعة» للكاتب والروائي المصري محمد عبد الجواد، فضاءات أخرى من الغرابة التي يفيض بها البحر بأساطيره وعطاياه وروائحه، حيث الحكايات تنفرج من سرائره في دورة سردية محكومة بسلطته الأبدية.

في هذه الرواية الصادرة عن دار «المرايا» للنشر في القاهرة، يتوسل أهل قرية «سيدي العوام» بالأسطورة بوصفها طريقة لتفسير مُجريات القدر، فالراوي العليم، الذي يُمكنّه الكاتب من ناصية السرد، يُمهد لنا أن سكان القرية يؤمنون بأن «أميرة» هي «ابنة البحر»، ويتعايشون مع تلك الرواية بوصفها واقعاً، يميلون أحياناً إلى تفسيره على أنه مِنحة ربانية، وأحياناً على أنه لعنة حلّت عليهم، فالبطلة «أميرة» تولد لأمٍّ غجرية، دون أن يعرفوا لها أباً، فيتداول أهل القرية أنها ثمرة حُب «حرام»، خصوصاً أنها وُلدت برائحة «زفارة» لصيقة بها تنبع من مسامها، فتصنع تلك الرائحة من حولها هالة غامضة من النفور والشفقة ممزوجة بشيء من «القداسة» التي منحها لها البحر برائحته المهيبة.

لا تستمد الأسطورة هنا سطوتها من قصة خلق «أميرة» الغرائبية بقدر ما تتكئ على «الواقع الراكد» للقرية الذي انفرج بميلاد «أميرة الزفرة»، كما يُطلقون عليها، فيربط أهل القرية بين ميلادها وبين رضا البحر الذي أفرج عن طوفان من أسماكه بعد سنوات من القحط التي كان يُعاني منها صيادو القرية، ليصبح ميلاد الفتاة «المعجزة» فاصلاً بين تاريخين: الأول سنوات الفقر والعوز، والثاني سنوات العطايا والانفراج، وهي تأويلات يكشف السرد عن دينامية تداولها العبثية بين سكان القرية، التي يهيمن عليها سلطة الموروث، والخرافة، فيبدون كأنهم يُزجون الحياة بنسج الأساطير، التي سرعان ما ينسونها، أو يتناسونها، ليصنعوا أسطورة جديدة، يفسرون بها الأطوار الجديدة لمدّ البحر وانسحابه، في زمن روائي مفتوح على صراع مكين بين المنح والسلب.

الحب المستحيل

يُهدي عبد الجواد روايته إلى غابريال ماركيز أو «المُعلِّم الذي لم يمت بعد» كما يصفه، ويبدو هذا الإهداء موصولاً في نهر روايته التي تتنفس برئة الواقعية السحرية، مدرسة ماركيز الأثيرة، فَقَرية «سيدي العوام» تصنع أسطورتها الخاصة كما تنهض قرية «ماكوندو» الماركيزية في عزلتها، ويمكن الاستدلال في قصة الحب التي تجمع بين «يحيى العازف» و«أميرة الزفرة» على ظلال من «الحب في زمن الكوليرا» لا سيما بمراوغاته بين المستحيل والانتظار، فحُب البطل عازِف «الأكورديون» الحالِم لأميرة يُبطل لديه مفعول رائحتها المُنفرة، فيستقبلها بـ«أنف مُحب» يزيل عنها الحرج الذي لطالما رأته في عيون أهل القرية، حيث تلاحقها «وصمة الغرابة والزفارة إلى الأبد»، فيسد الناس أنوفهم عند الاقتراب منها، ويُبدون شفقتهم لهذا المصير الذي التصق بها رغم جمال ملامحها، فتجذب القطط لتموء بغضب جائع، وتجعل الناس تشم أسماك البحر السابع، وتَلُوح هنا فكرة الحب المستحيل كما سيصفه أحد أبطال الرواية «حاتم الأحرف»، مرجعاً أبسط أسباب تلك الاستحالة إلى رائحة زفر السمك المنبعثة من جسدها، ورغم ذلك لم يتوقف البطل عن الغرق في غِمار هذا الحب المستحيل وما يتبعه من «انتظار» لالتفات «أميرة» لحُبه، فهو يعزف لها يومياً دون توقف حتى أحصى تلك الأيام فوجد أنه استمر في العزف لها «على مدار 624 يوماً»، ويُحيل إحصاء الأيام هنا لانتظار بطل ماركيز «فلورنتينو» وهو يُحصي انتظاره لفيرمينا بالسنة والشهر واليوم حتى لحظة استسلامها لحُبه.

يُفرد الراوي مساحة سردية مطوّلة لسيرة «أسماء» والدة «أميرة»، السيدة الغجرية التي ينتمي جمالها إلى «ممالك زانوبيا»، فتظهر كـ«ماركيزة وسط عبداتها» كما يصفها الراوي، فهي تعرف ما هي عليه من فتنة، ولا تكترث بنمائم أهل الصيد، وتمنح نفسها لصانع دُمى بائس «مصطفى أحمد شعبان» الذي تجذبها هشاشته ونظراته الطفولية، وهما الصفتان اللتان ستلعنهما بعد أن يجرف عمره البحر الذي شهد على فعل الحُب بينهما، ليترك السارِد مولِد «أميرة» حائراً بين علاقتها بصانع الدمى، وبين أسطورة أنها مارست الفحشاء مع البحر فولدت له فتاة فرح بولادتها فوهب القرية طوفاناً من أسماكه، وهي المروية التي تظل تُرددها عرّافة القرية وشيوخها، مما يدفع «أسماء» إلى نوبات جنون تجعلها تلوذ بصحبة دُمية سوداء كبيرة لرجل «بوجه مُعذب»، وهي الدمية التي تركها حبيبها صانع الدُمى ورحل، فتستعيض بتلك الدمية عن غيابه، وتصير تتحدث إليها كأنه رجل إنسيّ، تُبادله الحب وتشاركه أسرار لعنتها وقدرها.

يتقاسم أهل القرية الفضاء الرواية مع جارهم «البحر» الذي يُقسّم قاطني القرية إلى طبقتين: صيادين بؤساء وكبار مشايخ منتفعين

مراوحات البحر

يتقاسم أهل القرية الفضاء المكاني للرواية مع جارهم الأزرق الكبير «البحر» الذي يُقسّم قاطني القرية إلى طبقتين؛ صيادين بؤساء، وكبار مشايخ صيد منتفعين من فيض أسماكه مثل «رشدان اللول» الذي يفتتح في القرية مطعم أسماك فخماً على هيئة سفينة يطلق عليها «سفينة نوح الجديدة» يقدم خدماته للأغراب المقتدرين، فيحيله البحر وعطاياه من الأسماك إلى حال من البذخ الذي لن يتذوق طعمه أهل القرية الفقراء، في ملمح رأسمالي يتسلل إلى أجواء الرواية رغم سطوة الفضاء الأسطوري عليها، ففي أحد مشاهد الرواية يُلقي المعلم «اللول» بكميات ضخمة من الأسماك لـ«أميرة» التي باتت معروفة بين أهل القرية بقدرتها الفائقة على سرعة تنظيف قشور الأسماك التي لا تتأفف من رائحتها، فيُمهلها ثلاثين دقيقة فقط لتنظيف جبال السمك التي أمامها لاستيعاب توافد الزبائن على مطعمه: «خمسين كيلو من الدينيس وعشرين كيلو من الناجل وأريدهم في نصف ساعة» كما يأمرها بلهجته القاطعة منزوعة الرحمة.

وبنفس منطق الجشع والاستغلال ينسج صاحب «سفينة نوح الجديدة» ومشايخ القرية معه الشِّباك حول «أميرة» لتتودد إلى «أبيها» البحر بعدما بدأت تلوح أمارات غضبه وشُح رزقه، فتبدو «أميرة» محض روح معذَّبة تُستخدم لاسترضاء أهل البر والبحر، دون أن تمنحها الأسطورة أي سلطان، بقدر ما جلبت لها اللعنات.

وهكذا، يجترح الكاتب مراوحات جمالية وإنسانية في تشخيصه البحر على أنه بطل رئيسي وليس فضاءً محايداً، فتستمع لزفرات حزن البحر، وصوت بكائه، ودفقات فرحه، كما جعل للحظات الحب في الرواية تنهيدات بحرية، أما «أميرة» الوسيطة بين مملكتَي البر والبحر فتظل على مدار الرواية لا تُدرك ما هي عليه من رائحة تزكم الأنوف، وعندما تتعرف على رائحتها لأول مرة في حياتها، تكون هي لحظة انتهائها، وهي لحظة مُكاشفة، تنهار فيها الحوائط بين الواقع والغرابة، أو بتعبير أحد أبطال الرواية: «للفقر رائحة».