سارة والعقاد: تراجيديا الجمال المأهول بجحيم الشكوك

تخيَّله توفيق الحكيم يبحث في الجنة عن كتب للمطالعة

العقاد
العقاد
TT

سارة والعقاد: تراجيديا الجمال المأهول بجحيم الشكوك

العقاد
العقاد

لم يكن اسم عباس محمود العقاد مجرد تفصيل عابر على خريطة الأدبين المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، بل بدا الرجل بحق أشبه بعاصفة من السجالات والمواقف الفكرية الاعتراضية التي أثارت من خلفها أينما وقعت غبار التأييد أو الرفض، الابتهاج أو الاحتجاج. ذلك أن شخصية الرجل النقدية والباحثة عن الحقيقة فوق أرض مثخنة بالشكوك والمسلحة بثقافة واسعة لم تتح له الركون السهل إلى مسبقات يقينية، وهو الذي رأى في مواطنه أحمد شوقي مجرد مقلد لشعرية الأقدمين، ولم يعترف له بإمارة الشعر رغم توافق معظم شعراء الأمة على تنصيبه أميراً لهم.

وفي ظل الصراع الضاري الذي دار في بدايات القرن الفائت بين الإحيائيين ودعاة التجديد، انحاز الكاتب المولود في أسوان عام 1889 للخيار الثاني، مؤسساً مع عبد القادر المازني وعبد الرحمن شكري حركة «الديوان في الأدب والنقد»، نسبة لكتاب بهذا الاسم أصدره العقاد والمازني عام 1921، داعين فيه إلى التمرد على الأساليب القديمة والتفاعل مع ثقافة العصر دون قطع مع التراث، وجعل الشعر أداة للتأمل في أعماق النفس البشرية ودهاليزها.

أما شغف العقاد بالقراءة فقد بدا واضحاً منذ سنوات حياته الأولى، حيث انكب على التهام كل ما وقعت عليه عيناه من كتب ومصنفات، حتى المتعلقة بالطيور والحشرات. وهو إذ رفض الربط بين القراءة والتأليف، يُنقل عن توفيق الحكيم قوله إنه تخيل العقاد يبحث في الجنة عن كتب للمطالعة، مستبقاً بذلك مقولة بورخيس ورؤيته للجنة بسنوات عدة. أما مؤلفات العقاد التي تربو على المائة فهي تجعلنا نحار في كيفية اتساع حياة الرجل لإنجاز كل تلك المصنفات، بقدر ما تدفعنا التساؤل عن الوقت المستقطع الذي خصصه للاهتمام بالمرأة والحب، ولعلاقتيه العاطفيتين بأليس داغر ومي زيادة اللتين أعطاهما اسميْ «سارة» و«هند» في روايته اليتيمة «سارة».

يقدم العقاد بورتريهات دقيقة لحبيبته سارة ذات الشخصية المغوية والمتقلبة، ويخبرنا بأنها لم تكن مفرطة في الجمال لكن جمالها الفريد «لا يختلط بغيره من ملامح النساء». كما يطلعنا على أنها كانت امرأة عشرينية مطلقة وأمّاً لطفل وحيد، مشيراً إلى أنها بدت لشدة حيويتها أقرب إلى «حزمة من أعصاب تسمى امرأة». وفي تعليله المسهب لهيامه بها يعزو العقاد الأمر إلى ذكائها الحاد وأنوثتها الطاغية، وأيضاً لقدرتها على التجدد بحيث تلبس حيناً لبوس المرأة المرحة الطروب، وحيناً لبوس الكسيرة المطواع، وحيناً ثالثاً لبوس المرأة التي تطيع غرائزها الفطرية، وحيناً رابعاً تبدو المرأة الذكية المهجوسة بالشعر والنثر، وحيناً خامساً لبوس المرأة العصرية المتجرئة على انتهاك المحظورات. وقد بلغ من هيامه بها الحد الذي جعله يتساءل وهو يرى النساء في الطرقات: «ما بال هؤلاء؟ ولماذا خُلقن، ومن ذا الذي ينظر إليهن؟».

إلا أن الجانب الوردي من صورة ذلك الحب الذي كان الاشتهاء الجسدي حجر زاويته لم يلبث أن أخلى مكانه للريبة والقلق والتوترات المتكررة. ذلك أن القواسم المشتركة بين الطرفين كانت أوهن من أن تصمد أمام شخصيتيهما المتباينتين. والأرجح أن فارق العمر بينهما، الذي يقارب الـ15 عاماً، لم يكن العامل الأهم في انهيار العلاقة، بل تباينات أخرى في الطباع والثقافة والمفاهيم. ففي حين كانت سارة مفتونة بنمط العيش الأوروبي ولا مبالية بالتقاليد وطافحة بشهوة العيش، كان العقاد مطبوعاً على الجدية والتحفظ الرصين. كما أن ميلها إلى الاختلاط بالآخرين ونسج الصداقات المتنوعة قابله نزوع إلى العزلة عززته حاجته الملحة إلى استثمار الحياة القصيرة في القراءة والتأليف.

يتناول هذا المقال العلاقة العاطفية التي جمعت بين الكاتب الشهير عباس العقاد و«سارة»، المرأة التي شكلت مزيجاً من كل تناقضات العشق والحب والحياة، ووسم اسمها عنوان روايته اليتيمة. ويعرج الكاتب في هذا السياق على حياة العقاد وطبيعته الشخصية الصارمة، ويحلل المسافة بين أفكاره النظرية وتمثلاتها في شعره على نحو خاص، ويوضح مدى انعكاس كل ذلك على مرآة هذه العلاقة.

ولا ينكر العقاد الذي اشتُق اسم عائلته من مهنة عقْد الحرير ذهابه إلى أقاصي الصداقات والعداوات، مستشهداً بقول سارة عنه «إن من يُظهر طرف السلاح للعقاد فهو إما قاتل أو مقتول». هكذا بدت شخصيته محكومة بالعديد من المفارقات اللافتة، حيث كان يصطدم بعض نفسه ببعضها الآخر. فنزوعه العقلاني للتحرر والتجديد كان يتراجع متقهقراً أمام سلوكياته المحافظة التي ورثها عن أبيه. كما أن جنوحه النقدي النظري إلى تجديد اللغة الشعرية والتحرر من ربقة الأقدمين وربط الشعر بالحياة لم يجد تمثلاته الفعلية على مستوى التطبيق، فنصوصه الشعرية كانت تنكفئ نحو أرض تقليدية وذهنية ومثقلة بالقيود.

وإذا كان من الجائز أن نسوغ للعقاد سعيه إلى قطع العلاقة مع سارة بناء على شكوكه المؤرقة حول خيانتها له، إلا أن ما يصعب تسويغه هو لجوؤه إلى الاستعانة بصديق للتجسس على المرأة التي أحب، ومراقبة حركاتها وسكناتها بشكل دائم. وهو إذ يقر بأنه لم يعثر على ما يؤكد علاقتها بشخص آخر إلا بعد افتراقهما النهائي، فإن للقارئ المتفحص أن يستنتج أن فعلتها تلك قد تكون نوعاً من الرد الانتقامي على ما سببه لها من آلام، أو لتيقنها من قراره الحاسم بالعزوف عن الزواج. ومع ذلك فربما كان العقاد يسعى لمثل هذه العلاقة الصعبة بكامل إرادته، لأنه كان يعلم تمام العلم أن ما تأخذه الحياة بيد يعطيه الشعر باليد الأخرى. والأدل على ذلك أن بعض قصائده فيها كانت تعكس اضطراب نفسه واحتدامها «البودليري»، كما في قوله:

تريدين أن أرضى بكِ اليوم للهوى

وأرتاد فيك اللهوَ بعد التعبُّدِ

وألقاكِ جسماً مستباحاً وطالما

لقيتكِ جمّ الحذف جمّ التردُّدِ

رويدكِ إني لا أراكِ مليئةً

بلذةِ جثمانٍ ولا طيبِ مشهدِ

جمالكِ سُمٌّ في الضلوع وعِشرةٌ

تردُّ مهادَ الصفو غيرَ ممهدِ

والأرجح أن البنية النفسية القلقة لشخصية العقاد هي التي أملت عليه تعلقه المتزامن بامرأتين متغايرتي الطباع والتوجهات. فقد عكست كلٌ من أليس داغر ومي زيادة بالنسبة له ثنائية الجسد والروح، كما عبر في نص له بعنوان «حبّان»، معترفاً أنه أحب المرأتين معاً، فالأولى خُلقت «وثنية في ساحة الطبيعة»، واحتكمت لثقافة الفطرة، فيما اتسمت الثانية بالثقافة الواسعة والموهبة الأدبية العالية، وبدت رغم اختلاطها بغالبية كتاب عصرها «أقرب إلى راهبة الدير» منها إلى أي نموذج نسائي آخر. وإذ يؤكد أن علاقته العذرية بمي جعلتهما «أشبه بشجرتين منهما بإنسانين»، يعود ليوضح بأن الصدف السيئة وحدها هي التي شاءت لعلاقته بها أن تنتهي بشكل دراماتيكي. فزيادة التي لم تكن تشك بتعففه وإخلاصه لها، قررت بشكل حاسم قطع علاقتها به، بعدما اكتشفت إثر زيارتها المباغتة لمكتبه وجود غريمة لها، وهي لم تكن قد شفيت بعد من الطعنة المماثلة التي سددها لها جبران، حين امتنع عن الرد على رسائلها بعد وصول علاقتهما الأفلاطونية إلى طريق مسدود.

اندفع العقاد عام 1930 باتجاه التصعيد في مواقفه السياسية المناوئة للسلطة التي بلغت حد التعرض للملك فؤاد نفسه، متسببة في دخوله السجن لعدة أشهر، فقد رأى البعض في اندفاعته تلك نوعاً من التعويض الرمزي عن الخيبات العاطفية التي ثلمت قلبه في الصميم.

ومع ذلك فإن علاقات العقاد العاطفية لم تنحصر بسارة ومي المرأتين المسيحيتين المتحدرتين من أصل لبناني فحسب، بل ورد في غير مصدر أنه استرد لاحقاً رباطة جأشه ليشن على الحياة هجوماً آخر، وليدخل في علاقة عاطفية جديدة مع مديحة يسري، التي التقى بها في أربعينات القرن الفائت، وكانت في فترة صعودها المبكر إحدى أكثر الممثلات المصريات جمالاً وذكاءً وجاذبيةً. كما تروي الممثلة المصرية الشقراء هند رستم أنها وافقت بعد تمنع على إجراء حوار صحفي مع العقاد الذي أكد لها أن إصراره على لقائها يعود إلى الشبه الكبير بينها وبين حبيبته السابقة سارة. وتضيف رستم أنه أدخلها إلى غرفة نومه ليريها إطاراً يعلوه الذباب وفارغاً من أي صورة، ممثلاً ثأره الخاص من المرأة التي تسببت له بالكثير من المتاعب والعذابات. كما يروي الناقد الليبي سليمان كشلاف في مقالة له نشرت في «الآداب» اللبنانية عام 1989 أن فتاة اسمها بدرية انتحرت عمداً يوم وفاة العقاد في 13 مارس عام 1964 حزناً عليه، وأن امرأة ملفعة بالسواد اسمها فوزية ادعت أثناء تشييعه أنها كانت زوجته السريّة، وأن الفتاة التي أقدمت على الانتحار هي ابنتهما.

وإذا كان العقاد، أحجم طيلة حياته عن الزواج، لأنه رأى في تلك المؤسسة من القيود والتنازلات المؤلمة ما لا يستطيع احتماله ودفْع أثمانه الباهظة. فهو يعترف في حوار له مع ماهر الطناحي رئيس تحرير «الهلال» المصرية آنذاك، بأنه لا يخشى الموت بقدر ما يخشى فقدان القدرة على القراءة والكتابة، مضيفاً: «هذا الورق الذي لا ينتهي هو الذي يصرفني عن الزواج». إلا أن هذا الورق لم يصرف الكاتب الموسوعي يقيناً عن العشق، لأن الكتابة والحب يتغذيان من الشغف نفسه واللهب إياه.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».