طلال حيدر يَحيك من خيطان العمر قصائد جديدة

الشاعر اللبناني يشارك «الشرق الأوسط» ذكرياته مع عمالقة الأغنية

الشاعر طلال حيدر في حديقة منزله ببدنايل في منطقة البقاع اللبنانية (الشرق الأوسط)
الشاعر طلال حيدر في حديقة منزله ببدنايل في منطقة البقاع اللبنانية (الشرق الأوسط)
TT

طلال حيدر يَحيك من خيطان العمر قصائد جديدة

الشاعر طلال حيدر في حديقة منزله ببدنايل في منطقة البقاع اللبنانية (الشرق الأوسط)
الشاعر طلال حيدر في حديقة منزله ببدنايل في منطقة البقاع اللبنانية (الشرق الأوسط)

فوق ثمانية عقود من الشعر يجلس طلال حيدر. يفرد الأبيات أمامه كلعبة نرد. مع أن العمر سار به إلى السادسة بعد الثمانين، ما زال يتسلّى بالقصيدة، يغازلها ويلوّن بشمسها الحيطان الباردة.

الشاعر اللبناني الذي تفيّأ هياكل بعلبك عُمراً، وراقص سنابل سهل البقاع، وألبسَ الأغنية عباءةً من خيوط القصب، لا يقلقه ثقل الزمن العابر. يروّضه ببيتَين من شعره المَحكيّ: «يمرق العمر ع كتافي أنا شو خصني»، «هيدا الزمان الوهم بيحمل تحت باطه الأرض وبس يروح ما بيرجع».

من دارته المئوية في بدنايل البقاعية التي ورث حجارتها عن أجداده، يقول في حديث مع «الشرق الأوسط»: «أنا فجعان حياة... بدّه يبقى الإنسان متوقّد ويغلب الموت بالحياة». رغم أن معظم الذين رفعوا أعمدة البيت الثقافي اللبناني راحوا، فإنهم بقوا كـ«زهر البيلسان» في بال طلال حيدر.

الشاعر طلال حيدر أمام لوحة تجسّده (الشرق الأوسط)

«وحدُن» وذئاب الثلج في بعلبك

ذخيرته ذكريات مع كبار الأغنية والقصيدة والمسرح والريشة. يتحدث عن صباح كوهجٍ أضاء القلعة، ويرفع فيروز إلى فوق، إلى حيث التيجان التي لا تطالها رؤوسٌ سوى رأسها.

«يوم كتبت لفيروز أغنية (وحدن)، سرق صوتها الكلام وصار هو الأغنية»، يقول طلال حيدر. تضاربت المعلومات والروايات في شأن تلك القصيدة التي خلّدها صوت فيروز ولحنُ ابنها زياد الرحباني. تحدّث البعض عن أنها تروي قصة ثلاثة شبان فلسطينيين نفّذوا عملية داخل الأراضي المحتلة عام 1974، في حين تردّدت معلومات أخرى تقول إن القصيدة نُشرت في صحيفة «النهار» اللبنانية عام 1966، أي قبل 8 سنوات على تلك العملية.

من ألبوم الذكريات: طلال حيدر مع فيروز وصباح (أرشيف الشاعر)

«لا تسأليني من أين أتت القصيدة، بل اسأليني إلى أين ذهبت»، يبدو حيدر قاطعاً في جوابه. لا يريد تشريح الماضي ويكتفي بالمجد الذي ذهبت إليه الأغنية بصوت فيروز. أما نسخته المفضّلة من قصة «وحدن» فتعود به إلى أيام الطفولة، وإلى الصفوف الابتدائية في موسم البرد وذئاب الثلج في بعلبك.

«كنت شارداً في الصف، أشاهد الثلج من الشبّاك وأصغي إلى الذئاب. ناداني الأستاذ، لم أردّ فضربني بالمسطرة. مرّت الأيام والسنوات ثم جاءت القصيدة... يا ناطرين التلج ما عاد بدكن ترجعوا... صرّخ عليهن بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا».

ليس اللحن والصوت فحسب ما يمنح الشعر خلودَه برأي حيدر. يصرّ على أنّ «وحدن» كانت لاقت المجد ذاته لو بقيت قصيدة ولم تتحوّل أغنية. فـ«لا شيء يقف في وجه القصيدة المرشّحة لتبقى في الزمان».

«من وين بتجيبهم يا طلال؟»

ها هو طلال حيدر يضرب مواعيد مع الزمان الآتي، ويستعد لنشر ديوانين جديدين. تتكدّس الأوراق في غرفته، وفوقها حبره أو خبزه اليومي. يشبّه نفسه بالشجرة اليابسة في اليوم الذي يمضي من دون كتابة: «بدي ضل اكتب لحتى غمّض عيوني ونام ع شي مخدّة من تراب لبنان».

مع أن هذا الزمن ضاق في وجه الشعراء، لا يفقد حيدر إيمانه بالقصيدة الحقيقية ذات الأسوار العالية، والعصيّة على التَداعي أمام عصر السمعي البصري ووسائل التواصل الحديثة. بابتسامةٍ واثقةٍ بسرمديّةِ الشعر، يؤكد: «حتى وإن غاب المتلقّي الشعري في بعض الأزمنة، فإن الشعر لا يغيب والزمن الشعري دائم الوجود».

لكن من أين يأتي بالسرمديّة للمدن التي سكنت شعره، ولم يبقَ من بعضها اليوم سوى حجارة مبعثرة؟ يكفيه أن تلك المدن التاريخية كتَدمُر وحلب لم تتغيّر في داخله، بل «بقيت فعلاً حضارياً، وإن تعرّضت للدمار».

يحلو له تكرار بيتٍ من قصيدة «طقس»: «بس تفرحي بيطير من صدري الحمام وبس تزعلي ع مصر باخدلك الشام». يحبّها بصوت الفنان مارسيل خليفة الذي خلّد شعر طلال حيدر في أغنيات مثل «ركوة عرب»، «بيتي»، و«سجر البن» وغيرها. تندهُه جملة «ع كتر ما طلع العشب بيناتنا بيرعى الغزال» الموسيقية من أغنية «قومي اطلعي عالبال». استوقفت تلك الجملة الكبير منصور الرحباني الذي سأله مرةً على جلسة غداء: «من وين بتجيبهم يا طلال؟».

طلال حيدر مع الفنانين مارسيل خليفة وعبد الحليم كركلّا (أرشيف الشاعر)

بين البيت الرحبانيّ وطلال حيدر، لم يتخطّ التعاون أغنيتَين، هما «وحدُن» و«يا راعي القصب». لكن ذلك لا يعني أن العلاقة بينهما خلَت من الألفة. جمعته بمنصور جلسات خبز وملح كثيرة، وبقيت في باله مشاهد عن عاصي الذي أغدق على المساكين من مال جيبِه وعلى الفن من عبقريته.

الوراثة الشعرية ممنوعة

عن سابق تصوّر وتصميم، لم يورّث طلال حيدر الشعر لأبنائه وأحفاده. يقرأونه بالعربية وباللغات التي تُرجم إليها، كالإيطالية والإسبانية والفرنسية، لكنه يسعى كي يتوقف الأمر عند حد القراءة: «هدفي أن يبتعد أحفادي عن امتهان الشعر لأني لا أحب أن أغلب ابني وحفيدي». يقول إن محبته لهم هي التي تدفعه إلى انتشالهم من أي موهبة شعرية محتملة.

طلال حيدر مع الشاعر سعيد عقل (أرشيف الشاعر)

يؤمن بمعادلة النعمة والنقمة في الشعر. تكمن النعمة في «القدرة على الخلق»، أما النقمة فهي أن الصراع الوحيد هو صراع مع النفس: «ما بدي إغلب حدا بالشعر، بدي إغلب حالي»، يقول طلال حيدر؛ «أي قصيدة تكون إيقاعاً للقصيدة التي سبقتها هي لزوم ما لا يلزم».

بنبرةٍ صارمة يدعو اللاهثين وراء الكمية وكثرة الكلام في الشعر، إلى الصمت: «إذا ما كانت رحلتك الشعرية تصاعدية، السكوت أحسن... لمعة شعرية واحدة بتكفي حتى تضوّي المكان». أما القصيدة التي تلمع في قلبه من بين كل قصائده فهي «عتمة خياله».

«في ناس قالوا قتِل

في ناس قالوا مات

في ناس قالوا فتح عتمة خياله وفات»

بعلبك «الآه والآخ»

تعود به تلك القصيدة إلى حبه الأول، ابنة راعي الغنم التي سرقت قلبه في بعلبك. لم يبقَ من الراعية الصغيرة سوى ذكرى عاطفة بريئة، أما من مدينة الروح التي طرّزها طلال حيدر بشِعره، فبقيت «الآه والآخ» وفق تعبيره. يفصّل التنهيدتين الطالعتين من الأعماق: «آه على الزمان الذهبي الذي كان في بعلبك، وآخ من الزمان الذي نحن فيه الآن».

طلال حيدر بين هياكل قلعة بعلبك (أرشيف الشاعر)

تسكنه بعلبك وتستوطن كل بيتٍ من شعره. يقول إن لا أحد يستطيع أن يسرقها منه: «كل ما كتبت وسأكتب هو لملمة معانٍ من طفولتي في بعلبك أنا وماشي حفيان بالكروم، بنهر راس العين، بفيّة الصفصاف، لاحق العصافير بالبساتين».

بعلبك هي كذلك الوالد الذي تتوسط صورته الدار، والوالدة التي قالت عنه «مجنون» عندما أسمعَها تلك القصيدة:

«مشتاق إيديي غمر مفتوح متل النون

معجّل متل جملة ما فيها سكون ولا بنهدى

والوقت ما عندو وقت ينطر حدا

يمكن أنا مجنون».


مقالات ذات صلة

دراسة: الذكاء الاصطناعي يكتب قصائد أفضل من البشر

تكنولوجيا غالبية القُرَّاء يرون أن الذكاء الاصطناعي يكتب قصائد شعر أفضل من البشر (رويترز)

دراسة: الذكاء الاصطناعي يكتب قصائد أفضل من البشر

أكدت دراسة جديدة أن قصائد الشعر التي تكتب بواسطة أنظمة الذكاء الاصطناعي أفضل من تلك التي يكتبها البشر.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
ثقافة وفنون «اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان.

رشا أحمد (القاهرة)
يوميات الشرق الفنانة اللبنانية جاهدة وهبة (صور الفنانة)

جاهدة وهبة «تعيش مع الضوء» وتجول العواصم بصوتها دعماً للبنان

كان لا بد أن تعود الأغنية لتنبض في حنجرة جاهدة وهبة بعد صمت صدمة الحرب. وها هي الفنانة اللبنانية تحمل أغنيتها وتجول العواصم الأوروبية والعربية رافعةً صوت وطنها.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

يحتضن الشاعر المصري كريم عبد السلام، فلسطين، في ديوانه الذي وسمه باسمها «أكتب فلسطين - متجاهلاً ما بعد الحداثة»، ويكشف أقنعة المواقف والسياسات المتخاذلة.....

جمال القصاص
ثقافة وفنون قصيدتان

قصيدتان

متحف العائلة رغم رحيلها لم تخسر الفتاة غرفتها في بيت العائلة المزدحم لم تسمح الأم أن يتوارث الباقون مكانها، حولت غرفتها إلى متحف: احتفظت بالبوسترات…


مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي
TT

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب وهم: محمد شوقي الزين: صُورَةُ النُّخَب وجَدَل الأدْوَار. محمد الرميحي: المجتمع الخليجي وصناعة النخب: الوسائل والصعوبات! موليم العروسي: صناعة النخب وآلياتها. علي الشدوي: مواد أولية عن النخبة السعودية المؤسّسة. ثائر ديب: روسيا مطلع القرن العشرين وسوريا مطلع الواحد والعشرين: إنتلجنسيا ومثقفون.

أما حوار العدد فكان مع المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر (أجراه أحمد فرحات) الذي يرى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يحل محل نظيره سايكس بيكو القديم، مطالباً بالانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. المفكر فهمي جدعان كتب عن محنة التقدم بين شرط الإلحاد ولاهوت التحرير. وفي مقال بعنوان: «أين المشكلة؟» يرى المفكر علي حرب أن ما تشهده المجتمعات الغربية اليوم تحت مسمى «الصحوة» هو الوجه الآخر لمنظمة «القاعدة» أو لحركة «طالبان» في الإسلام. ويحكي الناقد الفلسطيني فيصل دراج حكايته مع رواية «موبي ديك». ويستعيد الناقد العراقي حاتم الصكر الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها، متجولاً بنا في بيته الأول ثم البيوت الأخرى التي سكنها.

ويطالع القارئ عدداً من المواد المهمة في مختلف أبواب العدد. قضايا: «تلوين الترجمة... الخلفية العرقية للمترجم وسياسات الترجمة الأدبية». (عبد الفتاح عادل). جاك دريدا قارئاً أنطونان أرتو (جمال شحيّد). عمارة: العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة (عبد العزيز الزهراني). رسائل: أحلام من آبائنا: فيث أدييلي (ترجمة: عز الدين طجيو). ثقافات: خوليو كورتاثر كما عرفته: عمر بريغو (ترجمة: محمد الفحايم). عن قتل تشارلز ديكنز: زيدي سميث (ترجمة أماني لا زار). سيرة: أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة (سيد محمود). اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل: خاومي نافارو (ترجمة: نجيب مبارك). رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم (عبادة تقلا). الأدب والفلسفة: جان لويس فييار بارون (ترجمة حورية الظل). بواكير الحداثة العربية: الريادة والحداثة: عن السيَّاب والبيَّاتي (محمَّد مظلوم). بروتريه: بعد سنوات من رحيله زيارة جديدة لإبراهيم أصلان (محمود الورداني). تراث: كتاب الموسيقى للفارابي: من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد (أحمد السعيدي). فيلسوفيا: فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص (ياسين عاشور). فضاءات: «غرافيتي» على جدران الفناء (هاني نديم).

قراءات: قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي (أسامة الحداد). «القبيلة التي تضحك ليلاً»: تشظي الذات بين المواجهات النسقية (شهلا العجيلي). مختارات من الشعر الإيراني المعاصر (سعد القرش). نور الدين أفاية ومقدمات نقد عوائق الفكر الفلسفي العربي الراهن (الصديق الدهبي). تشكيل: تجربة التشكيلي حلمي التوني (شريف الشافعي). تشكيل: غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة (حوار هدى الدغفق). سينما: سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائماً هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين (سمير قسيمي). الفلسفة فناً للموت: كوستيكا براداتان (ترجمة أزدشير سليمان). ماذا يعني ألا تُصنف كاتب حواشٍ لأفلاطون؟ (كمال سلمان العنزي). «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزّاع البراري» (عبد الحكيم أبو جاموس).

ونقرأ مراجعات لعدد من الكتب: «جوامع الكمد» لعيد الحجيلي (أحمد الصغير). «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس (حسين عماد صادق). «أنا رسول بصيرتي» لسيد الجزايرلي (صبحي موسى). «طبول الوادي» لمحمود الرحبي (محمد الراشدي). «عقلان» لمحمد الشجاع (محمد عبد الوكيل جازم)

وكذلك نطالع نصوصاً لشعراء وكتاب قصة: برايتون (عبد الكريم بن محمد النملة). في طريق السفر تخاطبك النجوم: أورهان ولي (ترجمة: نوزاد جعدان). بين صحوي وسُكْرها (سعود بن سليمان اليوسف). خرائطُ النُّقصان (عصام عيسى). الغفران (حسن عبد الموجود). أنتِ أمي التي وأبي (عزت الطيرى).