مبدعون أم مترجمون؟

مبدعون أم مترجمون؟
TT

مبدعون أم مترجمون؟

مبدعون أم مترجمون؟

ترددتُ في اختيار هذا العنوان، لأن المترجم مبدع أيضاً في مجاله، غير أني لا أقصد هذا النوع من الإبداع، وإنما المقصود هو إبداع الأفكار بحيث لا تكون على نمط سابق أو مجيّرة باسم شخص آخر. هذا التقسيم بين المبدعين والمتبعين تحدث عنه أدونيس بإسهاب في كتابه المهم «الثابت والمتحول»، لكننا هنا لا نبشّر بمشروع أحد ولا ندعم خط أحد.

لو أننا من باب تفقد المسيرة، ألقينا نظرة فاحصة على ما أنتجه العرب خلال السنوات المائة الماضية، ابتداءً مما يسمى عصر النهضة العربية إلى يومنا هذا، فسنجد أولاً أن التأليف الكتابي العام قليل مع ما يعتوره من قصور. منذ عشر سنوات وقعت بيدي إحصائية تقول إن ما تنتجه الولايات المتحدة الأميركية وحدها هو أربعمائة وخمسون ألف عنوان في السنة، بينما يُنتج العرب قاطبة خمسة وأربعين ألف عنوان فقط في السنة. كما أن هذا العدد القليل يشكو من غياب ملامح الأصالة وكثرة التقليد وأنه في النهاية مجرد ترجمات.

لقد أثبت القرن الماضي أن العرب كانوا في عصر الترجمة لا عصر التأليف، لا يُستثنى من ذلك إلا حالات نادرة. تُطبع الكتب وراء الكتب، ولا تجد فيها أي شيء إضافي عن المعروف، سوى أن المؤلف نقل الكتاب لمن لا يحسنون القراءة بلغة ثانية، وهذه بلا شك حسنة تُحفظ لصاحبها. وليت هؤلاء المترجمون بقوا مترجمين بدلاً من الدعاوى العريضة القائمة على كثير من الاستعارات التي تنسى أنها استعارات.

القلة الذين نجحوا وقدروا أن يتقدموا بمشروع ما، هم أولئك الذين استخدموا الأدوات والمناهج الغربية لدراسة التراث العربي الإسلامي، من علي الوردي في معظم مؤلفاته، وعابد الجابري في «نقد العقل العربي»، وأركون في «نقد العقل الإسلامي»، وأدونيس في «الثابت والمتحول»، ومن هم على شاكلتهم. وهناك كُتّاب عرب أُصلاء فعلاً وليسوا بمترجمين على الإطلاق، بل ينطلقون من حالة عربية خاصة، كعبد الله القصيمي مثلاً.

إذا تجاوزت هؤلاء الأساتذة النُدّر، في الغالب سيكون المشهد الثقافي كالتالي: يقع في يدك كتابان، الأول يعترف طابعه بأنه كتاب ترجمة، فترى على الغلاف اسم المؤلف واسم المترجم، بينما يزعم طابع الكتاب الثاني أنه تأليف وليس بترجمة فلا يُكتب إلا اسم واحد على الغلاف، فإذا انتهيت من قراءته أدركت أنه كتاب ترجمة وإن لم يعترف صاحبه بذلك، فكل ما فيه قد قيل في كتاب سابق.

تنظر في التأليف العربي، في مجالات الفلسفة والنقد، وبطبيعة الحال تدخل في ذلك التآليف العلمية، فتجد الفقر إلى الأصالة واضحاً، وأن الإنتاج العربي في هذه المجالات ليس سوى تكرار لما قد قيل سابقاً. أحد الكتاب العرب زعم أنه اكتشف علماً جديداً «لم يعرفه الشرق ولا الغرب». هذه العبارة له، فإذا هو يقصد علماً معروفاً قبله (Agnotology) ليصف فيه التأسيس الاجتماعي للجهل من خلال نشر معلومات، تبدو علمية ولكنها مضللة في حقيقتها.

تُمسك بكتاب عن «الحقيقة» فتجد أن المؤلف يرفض تعريف الحقيقة على أنها مطابقة ما في الأذهان مع ما في الواقع، ويرفض تعريفها على أنها الاتساق الداخلي الذي نراه في الرياضيات، ويعرّفها بأنها «التكشف» واللاتحجب وترك الموجود كي يوجد، وهذا التعريف لم يأتِ به هذا الكاتب العربي من عندياته، بل هذا هو تعريف مارتن هايدغر للحقيقة. هذه القضية من القضايا الكبرى التي تميز بها هايدغر، فكيف ارتاح بال هذا الكاتب لأن ينسب الفكرة لنفسه؟!

وعندما تفتش في دراسات النقد الأدبي ستجد الشيء نفسه، فمَن يقدَّمون على أنهم رواد للنقد هم في الحقيقة سباقون فقط من حيث إنهم ترجموا النظريات الحديثة قبل غيرهم، ولا يوجد إلا القليل في الإصدارات الحديثة مما يمكن أن يوصف بالأصالة والتجديد. وفي عقود سابقة، كانت هناك دور نشر متخصصة في ترجمة الكتب الماركسية لأغراض رسالية واضحة. هذا الاتباع لم يخل منه حتى الإسلاميون، فعندما تنظر في موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية» ستجد نفسك أمام ترجمة جيدة لكتب معروفة، فلا تكاد الموسوعة تقول شيئاً غير معروف. موسوعات ليست سوى ترجمة لموسوعات أخرى.

ينبغي أن نحترز بالقول إن هؤلاء المترجمين، أحياناً، تكون لهم اجتهاداتهم الخاصة، لكنها اجتهادات فرعية وليست أصلية. على غرار اعتراضات ابن سينا على أرسطو، وأنه كان يصف المعلم الأول أحياناً بالغباء ويرد عليه بقسوة. ومع ذلك هو لم يغادر الفلسفة اليونانية يوماً ما، يدور في فلك أرسطو ويستخدم مصطلحاته ويتعامل مع لغته ويدور حول قضاياه، وقد يرقعها بشيء من فلسفة أفلاطون فيما يتعلق بالنفس، لأن ابن سينا روحاني كأفلاطون، بينما يفسر أرسطو الروح تفسيراً مادياً.

هل بالغتُ في نقد المشهد؟ في تصوري أن إدراك الحقبة الفكرية التي نعيش فيها هو أولى خطوات مغادرتها، ولذلك ينبغي ألا نخادع أنفسنا ونضحك عليها. هذا الوصف إن كان مصيباً فسيكون خطوة نحو الإصلاح، وإن كان مبالغاً في وصفه فسيكون داعياً لمزيد من الأصالة والتحرر من التقليد.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

القاهرة وأزمنتها الغابرة في سردية مفعمة بالشجن

القاهرة وأزمنتها الغابرة في سردية مفعمة بالشجن
TT

القاهرة وأزمنتها الغابرة في سردية مفعمة بالشجن

القاهرة وأزمنتها الغابرة في سردية مفعمة بالشجن

يتخذ الكاتب والقاص المصري هشام أصلان من عنوان مجموعته القصصية الجديدة «ثلاثة طوابق للمدينة»، الصادرة عن «دار الشروق» في مصر، مدخلاً لاستكشاف مُستويات الحياة، وأحلامها، في مِعمار سردي مُكثَّف يتكوَّن من خمس عشرة قصة قصيرة، ينطلق فيها الكاتب من وجهة مركزية -وهي «القاهرة، وأرواح العابرين»- التي يُهدي إليها مجموعته.

تكشف كل قصة في المجموعة القصصية شيئاً من تعقيدات المدينة، وصورتها الهاربة التي يبحث عنها السارِد بين ضواحيها وأزقتها التي تحتفظ بوجهها القديم المفعم بالشجن والحنين. وبرغم تنوُّع الحكايات، فإن الرُّواة تجمعهم آصرة خاصة مع المشي الذي يترك بصمته الحركية على إيقاع القَص، وتجعلنا أمام سرد مُترجل، يعتني بترسيم المكان واتجاهاته ومُفترقاته، ليبدو الرُّوَاة وكأنهم يتلقون العالم عبر وقع خطواتهم على الأرض، بينما يصبح المشي بطلاً يتشكَّل تدريجياً ويتنوع بخطوات الرُّوَاة؛ مشكلاً جسراً لتعرف بعضهم على بعض، وهم يتشاركون دروب المدينة، الوديعة منها والموحِشة.

أصحاب المساء

تلتقط القصص تفاصيل تُبرز اليومي والبسيط كحالة مركزية في المجموعة، كما تشحذ حالة من الجمالية الخاصة بين تناقضات المدينة؛ حيث يُعمِّق هذا التنافر الظاهري شاعِرية تجد ذروتها خلال ساعات الليل التي يلوذ بها الأبطال من مُلاحقة القُبح لهم، فالراوي في قصة «مدينة وراء الليل» يقول: «الليل يعرف أن المدينة تُحبه أكثر. يعرف أنها ليست من مدن النهار؛ حيث تتحوّل إلى دُمية عملاقة تأكل سكانها مبتسمة. متجاوزة دورها كمدينة، تزحف فوق أرواح هؤلاء السُّكان، متنازلة عن أي معنى للجمال والحياة، بحركة حياتية مضمونة الشقاء، بينما يستطيع قلبها ليلاً أن يستقل، ويتجلى كقطعة منفصلة عن تلك الضواحي الممتدة، ويوفِّر شيئاً من الحياة لأصحاب المساء»، ويبدو في تلك القصة تورُّط المدينة، وظهورها؛ ليس كفضاء مكاني مُجرَّد؛ بل وكأنها في موضع مساءلة ومُحاكمة.

لا يسعى الكاتب إلى منح عالم أبطاله ملامح سوريالية تُغيِّر من طابع واقعهم؛ بل يُفجر من ذلك الواقع الصِّرف سِحره الخاص الذي يمنح لأبطاله حضوراً أسطورياً في بعض الأحيان، مستفيداً من ثقافة «الأولياء» الشعبية، و«الحكايات المتوارثة»، كما في قصة «صاحب كرامة الشتاء» الذي ينسج أهل القرية حوله أسطورة يتوارثونها، فتخلد حكايته بينهم لمئات السنوات، وتلقي ظلالها عليهم كما سعف النخيل والطائرات الورقية.

ليلة الأمنيات

يُنوِّع الكاتب هشام أصلان من تقنيات ظهور أبطاله وأصواتهم، لتتراوح كادرات القصص بين النظرة البانورامية، والبورتريه الشخصي، كما في قصة «مراحل زينب» التي تضيء على شجون من شاركونا الطُّرقات نفسها ثم رحلوا، في سردية شجيَّة عن تبدلات الزمن، وتبدو قصة «الغريب المبتسم» التي كُتبت بلسان طفل، أقرب لسرد سينمائي يتنقل بعدسته بين رُعب المدينة الفاضح وصُدفها بالغة الدهشة.

وفي قصة «ابتسامة من الماضي»، يُكثِّف الكاتب الزمن ويُحاصر بطله، في سياق مُشبَع بالنوستالجيا داخل استوديو تصوير فوتوغرافي؛ حيث يتساءل البطل: «في أي زمن أعيش هذه اللحظة؟» بينما تختلط الصور الفوتوغرافية، في اللحظة التي تُحدِّق إليه فيها من فاترينة المُصوِّر، مع الشريط الصوتي للشارع الشعبي الذي يغمره بالمشاعر، فبدَت اللحظة أقرب لومضة متوهجة بالخيال: «انسحب الضوء المار عبر الفراغات بين الصور المُعلقة، ورأيت هلالاً نحيلاً باقياً من قرص الشمس المتواري خلف البنايات. وسمعت صوت خبطات معدنية مميزة لمفتاح إنجليزي يُقرَع على أنبوبة بوتاجاز. كنت أحاول استيضاح مكان بائع الأنابيب، فوجئت بابنة المُصوِّر القديم تُطل مبتسمة من إحدى الصور المُعلقة على الفاترينة، وأخذتني خضة مخلوطة بالسعادة».

تطرح المجموعة نبرة ساخرة من المعجم الحديث لأهل المدينة الذي يعكس تغيُّراتها الاجتماعية وانحيازها للتصنيفات المُعلبة مثل: «الإعلامي الشهير»، و«مطربة المثقفين» في وقت تبدو فيه المقابر بأحراشها أكثر تحرراً ومنافسة للحياة خارج أسوارها. فبطل قصة «مهرجان ليلي صغير» تقوده مُفارقة تضطره للعبور بمنطقة مقابر، فيجد نفسه في قلب هذا المشهد الصاخب: «هناك محل بقالة، ورش تصليح سيارات، باعة ألبان، فتارين صغيرة تبيع الحلوى. رغم هذا، لم أستطع استيعاب مشهد هؤلاء العمال، وهم يُفككون أفرع لمبات الكهرباء الملونة، وبقايا صوان كان منصوباً لفرح شعبي في قلب المقابر».

أما في قصة «خطة استدعاء الوحدة» فقد ضيَّق الكاتب حدود المكان، ليُحاصِر مشاعر بطله الوحيد في ليلة «رأس السنة»، باعتبارها ليلة الأمنيات الصاخبة، وهو يُعدُّ نفسه لخطة احتفال فردية، يضع فيها مسافة بينه وبين العالم الذي يُطل عليه من نافذة بيته: «الآن، كل شيء جاهز تماماً، أنا رجل وحيد يستطيع أن يسخر من العالم وقسوته بارتياح، وفي الغد أعِدكم وأعِد نفسي أن أعاود الابتسام المُتعشِّم في لطافة الحياة، مثلما يفعل الرجل الوحيد الوسيم في الأفلام الأجنبية».