نجيب محفوظ بين التشاؤم اللحظي والتفاؤل التاريخي

مرور 17 عاماً على رحيله

نجيب محفوظ بين التشاؤم اللحظي والتفاؤل التاريخي
TT

نجيب محفوظ بين التشاؤم اللحظي والتفاؤل التاريخي

نجيب محفوظ بين التشاؤم اللحظي والتفاؤل التاريخي

هل كانت رؤية نجيب محفوظ للوضع الإنساني متفائلة أم متشائمة؟ فلنتأمل هذه العبارة من «ثرثرة فوق النيل» (1966) على لسان إحدى الشخصيات: «إرادة الحياة هي التي تجعلنا نتشبث بالحياة بالفعل، ولو انتحرنا بعقولنا». (الفصل 7). في هذه العبارة يبدو تأثر نجيب محفوظ بالفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور الذي خلُص إلى أن الحياة «مشروع لا يغطي نفقاته»، وأن الأمر لو ترك للعقل وحده، لما كانت هناك حجة منطقية واحدة تدفع للتمسك بالحياة. إنما هي «إرادة الحياة» أو الغريزة العمياء المركبة فينا التي «تجعلنا نتشبث بالحياة» بأي ثمن.

لكن هذه اللحظة التشاؤمية لا تدل على موقف فلسفي عام عند محفوظ. العبارة الأصدق في الدلالة على موقفه الفلسفي هي التالية، أيضاً من «ثرثرة فوق النيل»: «تأملوا (...) المسافة التي قطعها الإنسان من الكهف إلى الفضاء!» (الفصل 7). هذه العبارة تكشف عن إيمان محفوظ بالخط البياني الصاعد لتقدم الجنس البشري، وهو الإيمان الذي يستمد منه تفاؤله التاريخي المستقبلي كترياق ضد قتامة الحاضر. فهو القائل: إنك إن نظرت إلى الحاضر في أي لحظة فستجد شتى أنواع المآسي تحيط بك، أما إذا نظرت إلى الحاضر من منظور تاريخي فستجد أن البشرية قد قطعت شوطاً كبيراً في طريق التقدم.

مصداق تفاؤلية نجيب محفوظ لفتني بشدة عندما استغرقت قبل فترة في قراءة عدد هائل من مقالات عموده الأسبوعي في جريدة «الأهرام»، في الفترة من 1982 إلى 1988، وهي الفترة التي تعاصر السنوات المبكرة من حكم حسني مبارك. مقالات تواصلت على مدى 6 سنوات في الفترة الحرجة من تاريخ مصر المعاصر التي أعقبت اغتيال السادات، وتصاعد فيها الإرهاب، واشتدت الأزمة الاقتصادية ضمن تداعيات سياسة الانفتاح الاستهلاكي. كانت الصورة قاتمة تماماً، إلا أنك تجد التفاؤل يقطر من مقالات محفوظ، والروح الإيجابية تنبض بها كلماته أسبوعاً بعد أسبوع. كانت مقالاته على وعي تام بالعيوب، والسلبيات، وإرث الديكتاتورية، والهزائم، والديون، والفقر، وأزمات الحياة اليومية، وضياع الشباب، وتفتت الوحدة الوطنية، وانتشار التعصب، والتفرق العربي، وحروب المنطقة، وتعثر التحول الديمقراطي، إلى آخر القائمة الطويلة، إلا أن روح القنوط لم تتسلل أبداً إلى مقالاته. كان يتجاوز هذا كله مقترحاً الحلول، طالباً العبرة من الماضي، متطلعاً إلى مستقبل أفضل، باثّاً العزيمة والأمل دائماً فيمن يقرأه.

أدهشتني هذه الروح الشابة المتفائلة بغير هوادة، في كاتب شيخ عاصر تراجع النهضة المصرية من أوائل القرن إلى أواخره. إلا أني كنت على وعي بالمفارقة الكبيرة بين كتاباته الصحافية وتلك القصصية. إذا ما تركنا هذه المقالات وعدنا إلى رواياته وقصصه القصيرة من الفترة نفسها، لما وجدنا فيها بارقة أمل. هناك يصدمنا الواقع والإحباط القومي والفردي بكل شراسته.

أي الصورتين نصدق؟ شخصياً أميل إلى تصديق الصورة الفنية. ولكني أكبرت في محفوظ القدرة على التفرقة بين التناول الفني؛ حيث لا مناص من تصوير الوضع البشري في أحلك صوره، وبين التناول اليومي المباشر أمام الجمهور الذي يحتاج حلولاً وأفكاراً تعينه على مواجهة الحياة، ولا تدفع به نحو اليأس الكامل.

صيرورة الزمان وديمومة المكان

فكرة أخرى محورية عند محفوظ، هي الزمن وتحولاته المؤثرة في حياة الفرد والجماعة. في مفتتح «زقاق المدق» (1947) ترد هذه العبارة على لسان المجذوب الشيخ درويش: «ذهب الشاعر وجاء المذياع. هذه سنة الله في خلقه. وقديماً ذُكرت في التاريخ، وهو ما يُسمّى بالإنجليزية history، وتهجيتها h.i.s.t.o.r.y». العبارة تشير لشاعر الربابة الذي كان يُسلّي رواد المقهى حتى جاء اختراع الراديو فأزاحه عن مكانه، وأنهى دوره كشخص وكظاهرة اجتماعية في آنٍ. التاريخ الذي يتهجى لفظته الشيخ درويش هو نفسه الذي يحيل عازف الربابة إلى ظاهرة من الماضي، لا محل لها في عصر المذياع.

هذا الفهم للتاريخ أو الزمن بمعنى أعمّ الذي تقرره الرواية لنا في مبتداها تؤكده في خاتمتها مرة أخرى بهذه العبارة: «وانداحت هذه الفقاعة أيضاً كسوابقها، واستوصى الزقاق بفضيلته الخالدة في النسيان وعدم الاكتراث، وظل كدأبه يبكي صباحاً -إذا عرض له البكاء- ويقهقه ضاحكاً عند المساء. وفيما بين هذا وذاك تصرّ الأبواب والنوافذ وهي تُفتح، ثم تصرّ كرة أخرى وهي تُغلق». (الفصل 35). تصور العبارة عودة الزقاق لحياته الاعتيادية عقب مصرع عباس الحلو، مؤكدة عبوريّة الفرد وديمومة المكان، واستمرار الحياة غير مكترثة بمن يبقى ومن يغادر.

المصادفة والمفارقة

من الأفكار الصميمة عند نجيب محفوظ، فكرة هشاشة المصير الإنساني، واعتماده على المصادفة، على اللحظة العابرة، على تضارب الزمان والمكان. ففرص السعادة قائمة، ولكنه قيام نظري، يخضع للمصادفة التي هي اسم مستعار للقدر. فلنتأمل «الحلم 428» من «الأحلام الأخيرة» الذي يمضي على هذا النحو: «رأيتني أجد المرحومة (ب) تحت شجرة جميز، فقلت لها إني كثيراً ما أراها في أحلام اليقظة والنوم، فماذا فرّق بيننا؟ فقالت لي: تذكر ما حدث في شارع الكورنيش، فقد تبعتني خطوة بخطوة حتى تمنيت أن توجّه لي كلمة فأستجيب لك فوراً. فلما طال انتظاري قررت أن أتغلب على خجلي وأنظر خلفي نحوك، ولكنك أرخيت جفنيك فتولاني اليأس من ناحيتك. فقلت: يا للخسارة، فإن السعادة قد سعت إليّ حتى قد كانت منّي على بعد قيراط، فماذا أعماني عنها؟» (الشروق 2015).

في هذا الحلم، كان إرخاء الجفون في اللحظة الخطأ سبباً لضياع حب العمر. خضوع المصير البشري للمصادفة القادرة على العصف بالجهد البشري في لحظة، هو فكرة محورية عند الكاتب، تتكرر في رواياته وقصصه القصيرة، وتلخصها هذه الخاطرة.

وليس بعيداً من المصادفة في فن نجيب محفوظ، الدور الذي تلعبه أداة أخرى، هي المفارقة، أو الموقف الذي ينطوي على تضاد يبعث على التأمل. ولننظر في هذا التفصيل من رواية «الطريق» (1964). في هذه الرواية تقع جريمة قتل على يد الشخصية الرئيسية، صابر سيد الرحيمي. يقتل صابر صاحب الفندق العجوز الذي يقطن به، والذي يقف حائلاً بينه وبين امتلاك زوجته الشابة التي أقام معها علاقة سرية. يهمني هنا فقط أداة الجريمة التي يحددها محفوظ بدقة متناهية. هي قضيب من الحديد كان في الأصل «رِجل كرسي ولادة أثري»، تشتريه كريمة، الزوجة المشتركة في الجريمة، من إحدى أسواق البضائع المستعملة. لماذا يحرص محفوظ على تحديد مصدر القضيب الحديدي؟ لأنه كان مغرماً بالمفارقات. أداة الموت تأتي من كرسي ولادة قديم. هذا الكرسي الذي كان أداة حياة شهدت ولادة الآلاف، صار الآن مكلّفاً بمهمة عكسية. صار مكلّفاً بسفك الدماء. بالقتل والإماتة. مفارقة تعب محفوظ في العثور عليها. كان من الممكن أن تكون أداة القتل سكيناً، أو ساطوراً، أو شاكوشاً، أو هراوة غليظة، أو، أو... إلا أن محفوظ ترك هذا كله وسعى إلى قضيب حديدي، ثم سعى إلى مصدره، فجعله رجل كرسي ولادة. مجرد تفصيل صغير، إلا أنه يظهر كيف أن الكتابة فعل عمدي. إنه عند الكاتب العظيم لا تفصيل من دون قصد. كل كلمة في محلها، وكل صورة لها وظيفة تسهم بها في الصرح الكبير الذي هو الرواية. قد يعبر القارئ المتعجل مثل هذا التفصيل، فلا يرى ما وراءه، أما القارئ المتمهل، فستصدمه المفارقة وتدعوه للتأمل في مفارقات الحياة، في سخرية الأقدار، في تداخل الحياة والموت، في حيادية الأشياء أمام قصد الإنسان: الكرسي يؤدي ما يريده منه الإنسان وإن تضادت المهام الموكلة إليه: تريدني أن أُعِين امرأة على الولادة، أو تريدني أن أهشم رأس رجل حتى الموت، سمعاً وطاعة، ما أنا إلا جماد في يد إنسان.

خضوع المصير البشري للمصادفة القادرة على العصف بالجهد البشري في لحظة هو فكرة محورية عند محفوظ

الموت

في الستينات من القرن الماضي انشغل محفوظ بالقضايا الوجودية الكبرى: الله والإنسان، الحياة والموت، المعنى والعبث، الفرد والسُّلطة... إلخ. من تلك الفترة تأتي قصة «ضد مجهول» في مجموعة «دنيا الله» (1963). في تلك القصة يبدو واضحاً انشغال محفوظ بهاجس الموت. هو بالطبع هاجس متواتر في أعماله كلها، إلا أن عدداً لافتاً للنظر من قصص هذه المجموعة منشغل بمسألة الموت انشغالاً فلسفياً متأملاً محتاراً متسائلاً. قصة «ضد مجهول» تتتبع تحقيقاً جنائياً في سلسلة جرائم تُرتكب بالأسلوب نفسه في كل مرة، ومن دون دافع للجريمة، ومن دون أن يترك المجرم أي أثر يمكن أن يؤدي إليه. كما أن القاتل يُنوّع في قتلاه، فلا ينجو منه رجل أو امرأة، طفل أو بالغ، شاب أو شيخ، صحيح أو مريض، غني أو فقير، متسول شريد أو ساكن قصور، حاكم أو محكوم. ينقلب البلد رأساً على عقب، ولا يصبح لأجهزة الدولة ولا لأجهزة الإعلام من شاغل إلا هذا المجرم الطليق الذي يواصل جرائمه بلا رادع ولا هدف إلا القتل في ذاته، وبلا أمل في القبض عليه أو إيقافه. يعيش الناس في رعب مقيم ليل نهار، لا حديث لهم إلا القاتل الخفي وجرائمه، لا يدرون من يكون الضحية التالية لذلك المجرم الطاغية الذي تُسجّل كل جرائمه «ضد مجهول».

القصة رمزية، وتعمل على مستويين -كما الحال في كثير من أعمال محفوظ- أحدهما واقعي سطحي، والآخر رمزي دفين. على المستوى الرمزي في هذه القصة الرائعة ليس القاتل المجهول العصي على الاكتشاف إلا الموت نفسه.

* أستاذ فخري في جامعة «إكستر» بالمملكة المتحدة.


مقالات ذات صلة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

ثقافة وفنون دانيال دينيكولا

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة.

ندى حطيط
ثقافة وفنون سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام.

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك

مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

كرّم وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي، مساء اليوم في الدوحة، المفكّر والأكاديمي السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)

بعيداً عن ضوضاء العالم... عن جدل الفن للفن والفن للحياة

أفلاطون
أفلاطون
TT

بعيداً عن ضوضاء العالم... عن جدل الفن للفن والفن للحياة

أفلاطون
أفلاطون

كنتُ أحسبُ أنّ العبارة الأيقونية الشائعة التي سادتْ في عقود سابقة بصيغة تساؤل: هل الفن للفن أم الفن للحياة؟ قد ماتت وتلاشى ذكرُها في لجج هذا العصر الذي تعاظمت فيه الفردانية بدفعٍ مباشر من المنجزات التقنية غير المسبوقة؛ لكنْ يحصل أحياناً أن تقرأ في بعض وسائل التواصل نقاشات قد تستحيلُ معارك سجالية يبدو أطرافها وكأنّهم لم يغادروا بعدُ أجواء الحرب الثقافية الباردة التي كانت جزءاً فاعلاً في الحرب بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.

ربما من المهم الإشارةُ إلى أنّ مفردة «الفن» في التساؤل الإشكالي تعني كلّ الضروب الإبداعية المتصوّرة من كتابة (تخييلية أو غير تخييلية) وشعر وفنون تشكيلية. أعتقدُ أنّ التساؤل السابق فاسدٌ في أساسه المفاهيمي لأنّه يُخفي رغبة مضمرة في تأكيد قناعة مسبقة سعى المعسكر الاشتراكي إلى ترسيخها ومفادُها أنّ الشيوعية تتناغم مع تطلعات الإنسان على العكس من الرأسمالية التي تعظّم فردانيته وجشعه ونزوعه الشخصي.

التبنّي الآيديولوجي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبية

علّمتْنا تجاربُ كثيرة أنّ التبنّي الآيديولوجي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبية، ولستُ في حاجة إلى إيراد أمثلة عن أعمال كُتِبت في ظلّ «الواقعية الاشتراكية»، وكانت غاية في السخف والرداءة. ما سأسعى إليه في الفقرات التالية هو محاولة تفكيك الأساس الفلسفي الدافع للإبداع في حقل الأدب على وجه التخصيص رغم أنّ المقايسة يمكن تعميمها على جميع ضروب الإبداع الفني.

إلهاءات تستحيل معها الفلسلفة

الحياة مشقّة رغم كلّ اللذّات الممكنة والمتاحة فيها، وخبراتنا في الحياة لم تعُدْ تُستَحْصلُ إلا بمشقّة باتت تتزايد مناسيبها مع تعقّد الحياة وتطوّرها. قارن نفسك مع أفلاطون مثلاً: بوسعك اليوم أن تحوز خبرات تقنية أعظم ممّا عرفها أفلاطون وكلّ فلاسفة الإغريق؛ لكنْ هل بمستطاعنا كتابة «مأدبة» حوارية فلسفية تتناغم مع متطلبات القرن الحادي والعشرين؟ أشكّ في ذلك كثيراً؛ فهذا جهد أقرب إلى الاستحالة لأنّ الإلهاءات في حياتنا باتت كثيرة، وجعلت ملاحقة القضايا الوجودية الأساسية ووضعها في مقايسة فلسفية مناسبة - مثلما فعل أفلاطون - مهمّة مستعصية.

ربما سيتساءل سائل: ولماذا لا نكبحُ هذه الإلهاءات من حياتنا ونعيش بعيداً عنها لكي نكون قادرين على امتلاك الإحساس الفلسفي اللازم لكتابة أفلاطونية بثياب معاصرة؟ لا يمكننا هذا لأنّه يعني - بالضرورة - العيش في جزيرة مهجورة. دعونا نتذكّر ما كتبه الشاعر اللاهوتي الإنجليزي جون دَنْ (John Donne): «ما مِنْ إنسانٍ جزيرةٌ لوحده». من غير هذه الإلهاءات تبدو الحياة وكأنّها تفكّرٌ طويل لا ينقطع في موضوعات الموت والشيخوخة والمآلات النهائية للوجود البشري المقترن بحسّ مأساوي. لا حياة بشرية تسودها متعة كاملة.

الإلهاءات تتّخذ في العادة شكليْن: شكل اختياري، نحن من يختاره (لعب، مشي، سفر، تجوال ليلي في الشوارع المضاءة...)، وشكل يتخذ صفة المواضعات القانونية (دراسة، عمل...). نفهم من هذا أنّ الإلهاءات مفيدة لأنها تبعدُنا عن الجلوس المستكين والتفكّر في ثنائيات الموت والحياة، والبدايات والنهايات، والطفولة والشيخوخة... إلى جانب تمكيننا من إدامة زخم متطلبات عيشنا اليومي.

أسباب لتفادي الغرق في الإلهاءات

الغوص في لجّة الإلهاءات اليومية حدّ الغرق فيها ليس بالأمر الطيب متى ما صار ممارسة روتينية نفعلها من غير تدبّر أو مساءلة. أظنّ أنّ أسباباً كثيرة تدفعنا لخرق هذه الممارسة أحياناً:

أولاً: الغرق في بحر إلهاءات المعيش اليومي يحيلُنا إلى الشعور البديهي بأنّنا كائناتٌ محلية مآلها الفناء، وقتية الوجود، محكومة بقوانين المحدودية الزمانية والمكانية. قد نكون كذلك في التوصيفات الواقعية؛ لكنّ أحد شروط العيش الطيب هو الطَرْقُ على هذه المحدودية بمطرقة ثقيلة بغية تكسير قشرتها السميكة التي تحيط بنا حتى لو تمّ الأمر في النطاق الذهني. أظنّ أنّ المسعى الغلغامشي في طلب الخلود حاضرٌ في كلّ منّا بقدر صَغُرَ أم كَبُرَ. العيش بغير ملامسة المثال الغلغامشي يبدو عيشاً باعثاً على أعلى أشكال الملل والشعور بخسارة الزمن والعبثية المطلقة لتجربة العيش البشري.

ثانياً: تقترن الإلهاءات اليومية للعيش بمناسيب متصاعدة من الضوضاء حتى بات الكائن البشري يوصف بالكائن الصانع للضوضاء. نتحدثُ اليوم عن بصمة كاربونية لكلّ فرد منّا، وهي مؤشر عن مدى ما يطرحه الواحد منّا في الجو من غازات مؤذية للبيئة. أظنُّ أنّ من المناسب أيضاً الحديث عن بصمة ضوضائية للفرد: كم تعملُ من ضوضاء في محيطك؟

نحنُ كائنات ضوضائية بدافع الحاجة أو التسلية أو الضجر. نصنع الضوضاء بشكل أو بآخر وبمناسيب متفاوتة. ثمة دراسات متخصصة ومعمّقة في علم النفس التطوري تؤكدُ أنّ البصمة الضوضائية يمكنُ أن تكون مقياساً تطورياً للأفراد. كلّما تعاظمت البصمة الضوضائية للفرد كانت قدراته العقلية والتخييلية أدنى من نظرائه ذوي البصمة الضوضائية الأدنى. ربما التسويغ الأقرب لهذه النتيجة أنّ مَنْ يتكلمُ أكثر يفكرُ أقل.

ثالثاً: هذا التسويغ يعتمد مقاربة غريبة توظّفُ ما يسمّى مبرهنة غودل في اللااكتمال، وهي مبرهنة معروفة في علوم الحاسوب والرياضيات، وأقرب إلى أن تكون رؤية فلسفية قابلة للتعميم، وهو ما سأفعله هنا. جوهرُ هذه المبرهنة أنك لن تستطيع البرهنة على صحة نظام شكلي باللجوء إلى عبارات من داخل نطاق النظام دوماً. لا بدّ أن يحصل خطأ ما في مكان ما. يبدو لي التعميم على نطاق العيش اليومي البشري ممكناً: لن تستطيع عيش حياة طيبة إذا ما اكتفيت بالقوانين السائدة والمعروفة للعيش. لا بدّ من نوافذ إضافية تتيحُ لك الارتقاء بنمط عيشك، وهذه النوافذ هي بالضرورة ميتافيزيقية الطابع تتعالى على الواقع اليومي.

رابعاً: العيش اليومي فعالية شهدت نمواً مضطرداً في مناسيب العقلنة حتى لامست تخوم العقلنة الصارمة المحكومة بخوارزميات حاسوبية. العقلنة مطلوبة في الحياة بالتأكيد؛ لكننا نتوق إلى كبح سطوة قوانين هذه العقلنة والتفكير في نطاقات غير معقلنة. اللاعقلنة هنا تعني عدم التأكّد اليقيني المسبق ممّا سيحصل انتظاراً لمكافأة الدهشة والمفاجأة بدلاً من الحدس الرتيب بالإمكانية الوحيدة للتحقق.

خامساً: العيش اليومي يقترن في العادة مع مناسيب عالية من المأزومية العقلية والنفسية. عندما لا تعيش بحكم الضرورة وحدك فأنت تتفاعل مع آخرين، وهذا التفاعل قد يكون هادئاً أو مشحوناً بقدر من الصراع الوجودي. لا ترياق لهذا النمط الصراعي المحتوم إلّا بكتابته وتحويله إلى مغذيات إبداعية أولية للكاتب. تحدّث كثيرٌ من الكتّاب عن أنّ الكتابة أضحت لهم مثل تناول حبة الضغط اليومية اللازمة لعلاج ارتفاع الضغط الدموي لديهم. إنّهم صادقون تماماً. من غير الكتابة يصبحون أقرب لكائنات شيزوفرينية يكاد يقتلها الألم والعذاب.

يجعلنا الإبداع الفني كائناتٍ تدركُ قيمة الموازنة الدقيقة بين مناسيب العقلنة واللاعقلنة في الحياة

الأدب الجيّد مفتاحاً للتوازن

الأدب الجيّد بكلّ تلاوينه، مثلما كلّ فعالية إبداعية أخرى، ترياقٌ ناجع للتعامل مع الإفرازات السيئة المتلازمة مع وجودنا البشري. يخرجُنا الفن المبدع غير المأسور بمحدّدات الآيديولوجيا من محليتنا الضيقة ومحدّدات الزمان والمكان، ويؤجج جذوة المسعى الغلغامشي فينا طلباً لخلود افتراضي نعرف أنه لن يتحقق، ويكبح سطوة الإلهاءات في حياتنا ولو إلى أمد محدود كلّ يوم، مثلما يكبحُ مفاعيل الضوضاء البشرية فينا ويجعلنا نصغي بشهوة وتلذّذ إلى أصوات أعماقنا التي تقمعها الانشغالات البديهية والروتينية، ويفتح أمامنا نوافذ ميتافيزيقية تتيحُ لنا رؤية عوالم تخييلية ليس بمستطاعنا بلوغها من غير معونة الإبداع الفني.

بعد كل هذا يجعلنا الإبداع الفني كائناتٍ تدركُ قيمة الموازنة الدقيقة بين مناسيب العقلنة واللاعقلنة في الحياة.

تترتب على هذه المقايسات نتائج مدهشة أحياناً وغير متوقعة، يمكن أن تجيب عن بعض تساؤلاتنا الممضّة. منها مثلاً: لماذا تمتلك الأعمال الأدبية والفلسفية الإغريقية خاصية الراهنية والاستمرارية في التأثير والتفوق على كثير من نظيراتها المعاصرة؟ يبدو لي أنّ الفلاسفة والأدباء الإغريق كانوا عرضة لتشتت أقلّ من حيث طبيعة وحجم الإلهاءات؛ لذا جاءت مقارباتهم أقرب للتناغم مع تطلعات الإنسان وقلقه الوجودي؛ في حين تغرق الأعمال المعاصرة في التفاصيل الجزئية ذات الطبيعة التقنية، وهي في عمومها تقدّمُ المعرفة التقنية في فرعيات دقيقة عوضاً عن التأكيد على الرؤية الإنسانية الشاملة.

أظنها متعة كبيرة لو دقّقنا في الأعمال الأدبية العظيمة، ورأينا كم تتفق سياقاتها مع معايير الوظيفة الإبداعية كما ذكرتها أعلاه. أظننا سنكتشف أنّ هذه الأعمال لم تكن مستعبدة لنسق آيديولوجي باستثناء إذا أردنا وضع الإنسان في مرتبة الاهتمام الآيديولوجي الأعلى مقاماً من كلّ ما سواه. ثمّ إنها أبعدتنا عن الإلهاءات اليومية الروتينية، وفتحت لنا نافذة في قشرة الوجود البشري الصلبة، وأنقذتنا من تسونامي الصراعات اليومية.

الفن للفرد الذي يعرف كيف يجعل الفن وسيلة للارتقاء بمعيشه اليومي، ومن ثمّ تحويله لخبرة جمعية منتجة. ربما قد يكون حاسوبٌ، وكوبُ شاي أو قهوة، وشيءٌ من طعام بسيط في مكان بعيد عن ضوضاء العالم لبعض الوقت الذي نستقطعه من زحمة انشغالاتنا اليومية هو كلّ ما نحتاجه لنصنع أدباً جيداً، وقبل هذا لنعيش حياة طيبة يبدو أنّ كثيرين يغادرون هذه الحياة وهم لم يتذوّقوا ولو القليل من لذّتها الكبرى.