لوحات العمارة الأندلسية... تأويل اختزالي للأثر العربي الإسلامي

جدران وأبراج وأسوار وأقواس وما يتخللها من شروخ ومقدمات تداع

" فناء قمارش" لصورويا
" فناء قمارش" لصورويا
TT

لوحات العمارة الأندلسية... تأويل اختزالي للأثر العربي الإسلامي

" فناء قمارش" لصورويا
" فناء قمارش" لصورويا

الظاهر أن المشترك الموضوعي بين تقاليد فنون اللوحة الأوربية، وتأويلات الفنانين الإسبان، لقصة الوجود العربي الإسلامي بالأندلس، تتجلى على نحو ساطع في اعتماد خلفية العمارة على نحو متواتر، ابتداءً من أواسط القرن السادس عشر، إبَّان هيمنة الأساليب النهضوية، وحتى موجة ما قبل الانطباعية، حيث مثلت معالم العمائر التاريخية الفخمة خلفية آسرة، في الاشتغال على موضوعات تراوح بين البورتريهات، وتصوير الحياة اليومية، وتشخيص الوقائع التاريخية.

واحتلت عمائر «مسجد قرطبة» و«قصور النصريين» في قلعة الحمراء بغرناطة، و«صومعة لا خيرالدا» و«البرج الذهبي» بإشبيلية و«الأسوار التاريخية» المتبقية بمدن الجنوب الأندلسي، الحيز الأعظم في أغلب تلك اللوحات، مشكلة علامات بصرية مركزية في بيان انزياحات التأويل الفني الإسباني للقصة الموروثة. ولعل الطبعات الرائجة لكتاب الرحالة والدبلوماسي الأميركي واشنطون إرفينغ «حكايات الحمراء» وما تضمنته من صور مطبوعة لأعمال فناني القرن التاسع عشر، ممن اشتغلوا على غرف وفناءات وحدائق هذا القصر الأسطوري، وامتداده العمراني تمثل النموذج الأكثر تداولاً لمظاهر هذا التأويل البصري.

"صومعة لا خيرالدا" لبريك

وتدريجياً انزاحت العمائر من خلفيات اللوحات لتشغل بؤرة الأعمال، متراسلة مع انشغالات باروكية ورومانسية وانطباعية، متحولة من مجرد كتلة متشظية إلى قاعدة لبطولة اللون، بتنويعات لا محدودة لطبقات الضياء وتسجيمات المنظور. وتحتل أعمال الفنان خينارو بيريث بيّاميل (1807- 1854)، مساحة شديدة الدلالة في تنويعها لمقامات التعلق بالأثر العمراني الأندلسي، فما بين لوحة: «منظران متخيلان لقصر الحمراء»، ولوحة «أطلال وطواحين في قلعة كواديرا»، ترتصف مجموعة بالغة الثراء من الأعمال الزيتية والمائية عن البوابات العربية والأقواس والجدران والأفنية، تحمل عناوين من قبيل: «من داخل مسجد قرطبة»، «البرج الذهبي في إشبيلية»، «السوق العربي»، و«ورشة المغاربة في طليطلة»، و«تفاصيل من غرناطة»...، وغيرها، المعروضة في أغلبها ضمن مقتنيات الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة - سان فيرناندو بمدريد، وتطل منها جميعاً الهالة المتعاظمة للبناء العتيق والمخيف والملغز، الحاضن لكائنات متضائلة لعابرين ومتحلّقين محليين، حيث تنهض الكتل من سديم داكن، بتكوينات متداعية مكتنفة بالغبار، تمتزج فيها بقايا البياض واللون الطيني بصدأ الوقت، فتبدو مثقلة باغترابها عن محيط الأزياء والسحنات، بيد أنها هناك تصعق العين، وتعيد إنتاج أثرها الملغز.

في لوحة بعنوان «ورشة المغاربة في طليطلة»، يقدم بيّاميل تأويلاً اختزالياً للأثر العربي الإسلامي الدارس، عبر لمحة عن العمارة المفتونة بالأقواس، وتكرار الموتيفات، على سطوح من جبس، في الجدران والأبواب ونوافذ الضوء. وفي تصميم مبني على طباقية المجسمات الزخرفية، يتناظر قوسان متجاوران، تطل من الأكبر فيهما دفقات الضوء على الداخل الظليل، حيث تتحلق ثلاث مجموعات، لرجال ودواب منغمرة في تواصلها الصامت، على أرضية المبنى القديم، بهيئات لا تلفت الانتباه إلا بانعكاس الضوء المطل من القوس الفارع على المجموعة المتضائلة في وسط. كل ما في تفاصيل اللوحة يوحي بهيمنة البناء، وطغيانه الحاجب لما حوله؛ من الأصفر الباهت في الجدران ذات الزخرفة المتآكلة، إلى الإبهار الضوئي المتدفق من فراغات القوس والنوافذ الخمس فوقه، مجاز لما يمكن تسميته بـ: «الممتنع على المحو»، هو هناك دوماً بتصدعاته وغباره، وبإشراق وحداته الزخرفية المتراسلة، في مواجهة الزمن، والوجود «في غير محله»، لمنح عراقة ممتدة في غير اللسان ولا المعتقد.

ومثلما هو ظاهر بجلاء فإن بيّاميل، كشأن عدد من معاصريه، ممن خرجوا عن دوائر مستنسخات الفن المسيحي، فإن عمارة الغازي القديم باتت موضوعاً محلّياً ينتمي إلى «الشرق الإسباني»، مخترقاً عقيدة العداء، ومشاعر الغلبة، بحيث يتجلى ممهوراً بغير قليل من الشغف الجمالي؛ فالجدران والأبراج والأسوار والأقواس وما يتخللها من شروخ ومقدمات تداعٍ، تعيد توجيه وعي العين بالمرئي فيما تبقى من الحكاية القديمة. إنه القصد الذي يومئ له قول موريس ميرلو بونتي: «في أفق كل الرؤى أو ما يشبه الرؤى، يوجد العالم ذاته الذي أقطنه، العالم الطبيعي والتاريخي مع كل الآثار البشرية التي قُدَّ منها».

ومن صلب منحى إعادة امتلاك الأثر، يبرز أسلوب الانطباعيين الإسبان الأوائل، بوصفه النموذج المكتمل لهذا الشغف البصري، ففي لوحة بعنوان «فناء قمارش» لخواكين صورويا (1863- 1923)، تتخلى الجدران عن إهابها الحسي، وتكتسي لحاء بطبقات لونية/ نورانية، تحاكي طبقات الأديم الأرضي المتضاعف عبر الزمن، بقدر جدلها مع متواليات الحجب التي تعترض التقاط الرؤية للسطح الصلب والعريق، يكشف صورويا، فنان الضياء، المنتمي لحساسية ما بعد الرومانسية، في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، عن الاختراق الانطباعي الحاسم في تمثل «اللون» وجعله بؤرة العمل الفني في اللوحة، حين يولّد مع تحولات الضوء المتراكب، عبر ساعات النهار، كيمياء حسية تغلغل في الداخل المعتم والكئيب للسطوح الخرساء.

في هذا العمل المعروض بـ«متحف صوريا» بمدريد، تنهض المعادلة التأويلية للأثر الأندلسي على إيهام ملغز بما يهبه سطح الأقواس السبعة للنظر، في اللحظة التي تنعكس في بركة الفناء المفتوح لقاعة السفراء، تنمحي الزخرفات الجبسية في جنبات الأقواس وامتداداتها نحو السقف، وتتداخل في تشكيل إيقاعات البياض نحو الوردي الخافت، وفي العمق تتجاور تقويسة الضوء مع ظلها الداكن، بينما تنعكس في البركة الظلال المنطفئة وحدها، في مساحة الوردي المرقش بالبياض، وخضرة الحواف المزهرة. تبدو الأقواس المتناظرة في وضع تحاك ملتبس وكان الأصل يُردّ إلى النسخة المائية، ويتشرب ملامحها المركبة؛ صيغة من صيغ تناظر الانعكاس، حيث بالرغم من وجود كثير من الأشياء اللا متغيرة عند إجراء الانعكاسات، فهناك أيضاً أشياء عديدة ليست صامدة عند عكسها؛ وهو ما ينشأ في اشتغال «صورويا» بالتكييف الضوئي للمرجع المرئي، الذي يضحى متحولاً حتى قبل أن يخلق نظيره في صفحة المرايا المائية.

يُشخّصُ اشتغال «خواكين صورويا» في «فناء قمارش»، كما في عدد من لوحاته المتصلة بقصر الحمراء، رغبة الانزياح عن استعادة الأثر الأندلسي المبهر إلى خلق معادل يشتغل على منواله، كما تشير عبارة ماتيس في إحدى محاوراته لبيكاسو: «إنني لا أحاول أن أصور الطبيعة، وإنما، على حد تعبير الصينيين، أعمل كما تعمل الطبيعة، وإنني أريد لتلك الموجة الداخلية - وهي طاقتي الإبداعية الحية - أن تكشف عن نفسها للمشاهد بصيغة لوحة تقليدية منتهكة؛ إن مسألة الاستقلالية في التأويل الفني تحضر هنا بالنظر إلى كونها تنتج معنى خاصاً، بصرف النظر عن المعنى الأصلي، إذ لا يمكن استيعاب القصد في هذا المقام باستعمال كلمات من قبيل «تمثُّل» أو «محاكاة» أو «ترجمة» أو «إعادة تشكيل»...، فالتأويل الانطباعي أقرب ما يكون إلى خلق مجال حسي ودلالي مبتكر للمرجع، أو بالأحرى خلق نظير موازٍ له، يزيح الحجب عن اللامرئي في التكوين الجمالي للمعمار الكامل. إنه الإدراك الأكثر تجرداً من أحاسيس الغلبة أو التمجيد أو الامتلاك أو الاستعادة، أو حتى التسامح، هو تشوف إلى كشف المعنى، وخلق ما ينفذ أثره.


مقالات ذات صلة

«مريم» على نتفليكس... فرصة ضائعة لرواية سيرة والدة المسيح

يوميات الشرق فيلم جديد على «نتفليكس» يروي جزءاً من سيرة مريم العذراء (نتفليكس)

«مريم» على نتفليكس... فرصة ضائعة لرواية سيرة والدة المسيح

من الاستعانة بممثلين إسرائيليين، إلى الغرق في مغالطاتٍ تاريخية ودينية، مروراً بنصٍ يعاني السطحية، أثار فيلم «Mary» السخط أكثر مما أثار الإعجاب.

كريستين حبيب (بيروت)
المشرق العربي مبنى مقر «اليونيسكو» في باريس (رويترز)

«اليونيسكو» تعزز مستوى حماية 34 موقعاً تراثياً في لبنان

أعلنت «اليونيسكو» أنها منحت عشرات المواقع التراثية المهددة بالغارات الإسرائيلية في لبنان «حماية مؤقتة معززة»، لتوفر لها بذلك مستوى أعلى من الحماية القانونية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق مهرجانات بعلبك حدثٌ فني عمرُه 7 عقود احترف النهوض بعد كل كبوة (صفحة المهرجانات على «إنستغرام»)

من ليالي أم كلثوم إلى شموع فيروز... ذكريات مواسم المجد تضيء ظلمة بعلبك

عشيّة جلسة الأونيسكو الخاصة بحماية المواقع الأثرية اللبنانية من النيران الإسرائيلية، تتحدث رئيسة مهرجانات بعلبك عن السنوات الذهبية لحدثٍ يضيء القلعة منذ 7 عقود.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق د. جعفر الجوثري يحمل صور الأقمار الاصطناعية ويستكشف موقع معركة القادسية (أ.ب)

في العراق... صور الأقمار الاصطناعية تقود علماء الآثار إلى موقع معركة تاريخية

قادت صور الأقمار الاصطناعية التي تم رفع السرية عنها والتي تعود إلى سبعينات القرن العشرين فريقاً أثرياً بريطانياً - عراقياً إلى ما يعتقدون أنه موقع معركة قديمة.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
يوميات الشرق ريكاردو خلال مناقشة كتابه «نص صعيدي ونص خواجة» (الشرق الأوسط)

«نص صعيدي ونص خواجة» يوثّق صورة مصر في عيون الجاليات الأجنبية

بفهرس عناوين غير تقليدي يتضمن «قائمة طعام»، يدخل كتاب «نص صعيدي ونص خواجة» إلى عالم من المكونات والمقادير والوصفات الإيطالية التقليدية التي يستعرضها المؤلف.

منى أبو النصر (القاهرة )

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.