عن قسطنطين كفافيس (1863 - 1933)، كتبت مارغريت يورسنار تقول: «كفافيس هو الشاعر الأكثر شهرة في اليونان المعاصرة، وهو أيضاً الأكبر والأمهر على أية حال، وربما الأكثر ابتكاراً وحداثة. مع ذلك هو أكثر من تغذّى من زبدة الماضي التي لا تنضب أبداً». ويشاركها الرأي نفسه الفرنسي الآخر جورج كاتوي الذي كتب يقول: «التاريخ بالنسبة لكفافيس هو ذلك التفاعل بين الماضي والحاضر، والذي هو نفسه يعمل من أجل المستقبل (...) وهو يعيش التاريخ كما لو أنه امتداده الشخصي ضمن زمن أكثر اتساعاً. وهذا الماضي (الحي) هو أيضاً مُؤسس على دوام به يمكن أن يتواصل بطريقة قابلة للانعكاس مع الماضي والمستقبل». هاتان الفقرتان البليغتان تعكسان عالم كفافيس الذي اختار في فترة شبابه السفر إلى القسطنطينية، وإلى الكثير من المدن الشرقية والمتوسطية قبل أن يستقر في الإسكندرية التي فيها ولد، وسوف تكون هذه المدن حاضرة بقوة في مجمل أشعاره.
لم يهتم كفافيس كثيراً بأثينا قلب الحضارة اليونانية، ولا بفلاسفتها ولا بشعرائها بمن في ذلك هوميروس، بل اهتم بالفضاء الشرقي لتلك الحضارة والذي يمتدّ إلى البحر الأسود، وإلى آسيا الصغرى، وإلى الضفاف الجنوبية الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.
في هذا الفضاء الشرقي، وتحديداً في الإسكندرية وأنطاكية نشأت حضارة أخرى خارج أسوار أثينا خلال القرون الثلاثة التي أعقبت موت الإسكندر المقدوني. ولم تكن تلك الحضارة ناتجة عن غزوات وعن حروب، بل عن اختلاط الثقافات والأجناس ليكون أولئك البعيدون يونانيين أيضاً. وهذا ما يؤكده رجل السياسة الأثيني إيسوكراتوس الذي قال: «اليونانيون بالنسبة لنا ليسوا فقط أولئك الذين من جنسنا بالسلالة، بل أيضاً أولئك الذين يتوافقون مع أعرافنا ومع عاداتنا». لهذا السبب كان كفافيس يرفض النظر إلى بيزنطة من زاوية واحدة، زاوية انهيار الإمبراطورية الرومانية الشرقية، ممجداً الدور الحضاري للقسطنطينية، ومستحضراً من لمعوا في تاريخها سواء كانوا من النخبة العالمة والمثقفة، أم من الشخصيات السياسية. وفي قصيدة له، يفتخر أهالي الإسكندرية وأنطاكية ومصر وسوريا بانتسابهم للفضاء الهيلليني الذي اتسع شرقاً ليصل إلى بلاد فارس.
وخلال مسيرته الشعرية، لم يهتمّ كفافيس بالأحداث العالمية الكبيرة. ونحن لا نجد في أشعاره أية إشارة إلى حروب البلقان التي اندلعت سنة 1912، ولا الحرب الكونية الأولى، ولا إلى الفواجع التي عرفتها آسيا الصغرى والتي دفعت أعداداً كبيرة من اليونانيين إلى مغادرة تركيا بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وقيام الجمهورية التركية. لكأنه عاش كل تلك الأحداث وهو خارج الفضاء والزمن معاً؛ إذ إن ما كان يشغله حقاً هو العالم الهيلليني، والبيزنطي القديم. أما الحاضر فلا ينظر إليه إلاّ من خلال أحاسيسه ورغباته وأحلامه ومشاغله اليومية، أو من خلال ما يلتقطه من تلك المشاهد الصغيرة التي لا يعبأ الناس بها. وهذا ما تعكسه قصيدته «رجل عجوز» التي فيها يقول: «رجل عجوز يجلس في القاعة الخلفية للمقهى الصاخب مُنْحنياً على الطاولة وأمامه جريدة، رفيقته الوحيدة/ من أعماق شيخوخته الحزينة، والمنفّرة يفكر أنه تمتع قليلاً بالسنوات التي كان فيها شاباً قويّاً/ وكان جميلاً وبليغاً في الكلام/ وهو يعلمُ أنه شاخ كثيراً/ وهو يُحسّ بذلك ويراه، إلاّ أنه يتوهم أنه لا يزال مثلما كان بالأمس شاباً قوياً/ لكم هو قصير ذلك الفاصل الزمني/ وهو يقول إنه كان ساذجاً للغاية (يا له من جنون)/ وهو استمع أكثر مما ينبغي إلى الحكمة الكاذبة التي كانت تهمس له (غداً سيكون عندك ما يكفي من الوقت)/ وهو يتذكر اندفاعات مكبوحة ومباهج كثيرة ضحّى بها/ والآن كل فرصة ضائعة تزدري بحذره الأحمق/ غير أن أفكاراً وذكريات كثيرة تُدوّخُ الرجل العجوز/ عندئذ ينام مُسْنداً رأسه إلى طاولة المقهى».
ويحضر الفضاء الشرقي للحضارة اليونانية في الكثير من القصائد. وقصيدة «ملوك إسكندرانيون» واحدة من هذه القصائد: «تجمّع أهالي الإسكندرية لكي يشهدوا أبناء كليوباترا/ سيسيريون وأخويه الصغيرين ألكسندر وبطليموس الذين أوتي بهم للمرة الأولى إلى المعهد الرياضي لتتويجهم ملوكاً بحضور صفّ رائع من الجنود/ تُوّجَ ألكسندر ملكاً على أرمينيا، وعلى ميديا وبارثيا/ وبطليموس ملكاً على كيليكيا، وعلى سوريا وفينيقيا/ سيسيريون يقف مُتقدماً قليلاً إلى الأمام، مُرتدياً حريراً وردياً/ على صدره باقة من أزهار الياقوتية/ حزامه صفّ مُزدوج من الياقوت والجمشت/ حذاؤه مُزيّن بشرائط بيضاء مُطرزة باللآلئ الوردية/ وكان لباسه أكثر أبّهة وشرفاً من لباس أخويه الصغيرين لأنه تُوّج ملك الملوك/ ومن المؤكد أن أهالي الإسكندرية كانوا يشعرون بأن كلّ هذا ليس سوى كلمات، وأشياء صالحة لديكور مسرحي/ إلاّ أن اليوم كان حارّاً وجميلاً. والسماء بزرقة صافية/ والمعهد الرياضي بالإسكندرية يجسّدُ انتصاراً هائلاً للفن/ ومُبالغاً فيه كان بَذخ المُجاملين والمُداهنين، وسيسيريون كلّه أناقة وجمال. (ابن كليوباترا، من سُلالة الفراعنة)/ وإذن كان أهالي الإسكندرية يهرعون إلى الحفل مُتحمّسين/ مُطلقين هتافات باليونانية، وباللغة المصرية، وأحياناً بالعبرية/ مُبتهجين بهذا المشهد البديع رغم أنهم يعلمون جيداً قيمته الحقيقية/ ويعلمون أيضاً الألقاب الجوفاء لتلك الملكيّات».
ويأخذنا كفافيس إلى قبر النحوي الشهير ليسياس في بيروت، ويكتب: «قريباً من هنا، على يمين المدخل، في مكتبة بيروت، دفنّا العالم النحوي ليسياس. المكان مُختار جيّداً: وضعناه بالقرب من حواشيه وتعليقاته ونصوصه ودفاتره المليئة بالتفاسير وبالأشكال اللغوية العامية التي قد لا يزال يتذكرها حيث هو. وهكذا سَيُنظر إلى قبره ويُكرّمُ عند المرور إلى رفوف الكتب».
وكانت والدة قسطنطين كفافيس من أصول بيزنطية. وبما أن والده توفي وهو صغير، فإن حضور هذه الأم الأرملة سيكون طاغياً؛ فهي تيثيس التي ترى ابنها أخيل يذبح وهو في زهرة الشباب، وهي ألكسندرا الملتاعة والمفجوعة بعد أن قتل ابنها أريستوبولوس غدراً. وهي تلك الأم الحزينة التي فقدت ابنها البحار في عاصفة هوجاء: «الأمواجُ أغرقت بحّاراً في الأعماق، والأم التي تحلمُ بذلك تُشعلُ شمعة أمام صورة مريم العذراء، مُبْتَهلة لله أن يعود ابنها سالماً، وأن يكون الطقس جميلاً. مُتَوَجّسَة تمدّ سمعها للريح، إلاّ أن الأيقونة الحزينة الوقورة تنصتُ إلى صلاتها عالمة أن الابنَ الذي تنتظره لن يعود». وقد تكون الأم أيضاً حاضرة في تلك القصيدة التي يتحدث فيها كفافيس عن كراتيسيليا والدة كليمونيس ملك سبارتا التي قبلت تسليم نفسها بوصفها رهينة إلى بطليموس قائلة لابنها وهي تشهق بدموعها: «اذهبْ يا ملك لاسيديمونيا ... حين تخرج من هنا لن يرانا أحد نبكي، ولا أن تسلك سلوكاً لا يُشرف سبارتا»...
ويتجلى حضور بيزنطة في قصيدة «إيثاكا»: «تمنّ أن تكون الطريق طويلة/ وأن تكون الصباحات الصيفية كثيرة (كم سيكون مُبهجاً ذلك)/ ستدخل موانئ لم تكن قد رأيتها من قبل/ توقفْ عند مراكز التجارة الفينيقية، واقتن سلعة جيدة، أصدافاً ومَرْجاناً وعنبراً وأبنوساً وعطوراً شذيّة شتّى قدْرَ ما تستطيع/ زُرِ العديد من المدن المصرية، وتعلّم بشغف من حكمائها». وقد يكون البرابرة في قصيدة «في انتظار البرابرة» هم أولئك الأقوام الهمجيين الذين كانوا يغزون القسطنطينية بين وقت وآخر، أو أي مدينة متحضرة أخرى، لكي يعيثوا فيها قتلاً وتخريباً؛ لذا كان الجميع يخشونهم بمن في ذلك الإمبراطور وحاشيته ووزراؤه وأعضاء مجلس الشيوخ. وغالباً ما يكون قدوم أولئك البرابرة مفاجئاً وغير متوقّع. وفي ذلك اليوم الرهيب، خيّم على المدينة الخوف والوحشة، وأضحت وجوه الناس حزينة، وبسرعة أقفرت الشوارع والساحات، وعجّل الناس بالعودة إلى منازلهم؛ لأن الأخبار أكدت لهم أن البرابرة قادمون... ثم يهبط الليل لكن البرابرة لا يأتون...
توفر العودة إلى التاريخ بالنسبة لكفافيس متعة فضح أكاذيب التاريخ، ورسم صورة دقيقة ومُكثفة لانهيار الإمبراطوريات، وتسرّب العفن والفساد والشيخوخة إلى الشعوب والمجتمعات في مرحلة ما
وتوفر العودة إلى التاريخ بالنسبة لكفافيس متعة فضح أكاذيب التاريخ، ورسم صورة دقيقة ومُكثفة لانهيار الإمبراطوريات، وتسرّب العفن والفساد والشيخوخة إلى الشعوب والمجتمعات في مرحلة ما من تاريخها، خصوصاً حين تقترب من الذوبان والفناء فاقدة تحضّرها وترفها وأخلاقها الرفيعة لتغرق في الهمجية والفوضى. ومن كل هذا ابتكر كفافيس أساليب جمالية فريدة من نوعها، حيث لا نكاد نعثر على ما يمكن أن يُماثلها لدى شعراء عصره. وكان الفن بالنسبة له «نظاماً ثقافياً وأخلاقياً، وسعياً لا ينقطع بهدف النفاذ إلى خفايا الذاكرة الفردية والجماعية سواء عبر المشاعر والأحاسيس، أو عبر الأخلاق، أو عبر الدين، أو عبر الفلسفة». وفي النهاية، يصبح كفافيس «الساحر الذي يستعيد من الموتى أفعالهم وتضحياتهم ليمنحهم مكاناً في الذاكرة الكونية للتاريخ». وربما يكون قد عبّر عن ذلك في قصيدة «أصوات» التي فيها يقول: «أصوات خيالية/ أصوات حبيبة لأولئك الذين رحلوا عن الدنيا /أو لأولئك الذين ضاعوا فأضحوا كالأموات بالنسبة لي/ أحياناً تتحدث إلينا تلك الأصوات في أحلامنا/ أحياناً أخرى تفعل ذلك من أعماق قلوبنا، فيسمعها فكرنا/ وفي لحظة ما تأتي إلينا بصدى الشعر وتتلاشى مثل موسيقى بعيدة».
* كاتب تونسي