ولّادة وابن زيدون: المرأة المعشوقة في أندلس الفقدان

علاقتهما الوثيقة أفسدتها الخيانة والنزوع النرجسي وغريزة الانتقام

لوحة «فاصل رومانسي» المستوحاة من الأندلس للتشكيلي النمساوي - الفرنسي رودلف إرنست (دار سوذبيز)
لوحة «فاصل رومانسي» المستوحاة من الأندلس للتشكيلي النمساوي - الفرنسي رودلف إرنست (دار سوذبيز)
TT

ولّادة وابن زيدون: المرأة المعشوقة في أندلس الفقدان

لوحة «فاصل رومانسي» المستوحاة من الأندلس للتشكيلي النمساوي - الفرنسي رودلف إرنست (دار سوذبيز)
لوحة «فاصل رومانسي» المستوحاة من الأندلس للتشكيلي النمساوي - الفرنسي رودلف إرنست (دار سوذبيز)

لم يكن بالأمر المفاجئ أن تؤول العلاقة بين ولادة وابن زيدون إلى فشل محقق لأن نرجسية كل منهما وطبعه المزاجي كانا يضعانهما في حالة من التصادم

قلّ أن حملت علاقة عاطفية بين عاشقين من الدلالات الاجتماعية والسياسية والنفسية، مقدار ما حملته علاقة الحب التي ربطت بين ابن زيدون وولادة بنت المستكفي، على المفترق الزمني الفاصل بين نهاية الحكم الأموي للأندلس وبداية عصر الدويلات وملوك الطوائف. لذلك فإن أي قراءة معمقة لهذه العلاقة لا يمكن أن تتم إلا في ضوء معطيين اثنين، يتعلق أولهما بالموقع الشخصي والثقافي والاجتماعي المتميز لكل من العاشقين اللذين ينتميان إلى بعض أعرق الأسر العربية وثانيهما بالظروف السياسية التي شهدها مسرح العلاقة بين الطرفين، وأثر هذه التحولات السلبي على تطور العلاقة ومآلاتها اللاحقة.

وإذا كان المفكر التونسي الطاهر لبيب، قد درس ظاهرة الحب العذري من الزاوية السوسيولوجية التي تربط بين تراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي لبني عذرة في صدر الإسلام وبين حالة الانكفاء المازوشي على الذات التي جسدتها رؤيتهم المثالية للمرأة والحب، فإننا في ضوء المقاربة نفسها نستطيع أن نقارن بين التقهقر الدراماتيكي لعلاقة ابن زيدون بولادة، وبين حالة التشرذم والتصدع التي أصابت الأندلس زمن ملوك الطوائف في القرن الحادي عشر، الأمر الذي عبر عنه ابن العسال بقوله:

يا أهل أندلسٍ حثّوا مطيّكمُ

فما المقام بها إلا من الغلطِ

الثوب ينسُل من أطرافه وأرى

ثوب الجزيرة منسولاً من الوسطِ

ومع ذلك فإن الصراعات السياسية والعسكرية التي حكمت العلاقة بين الممالك المتنابذة، والتي أدت إلى سقوط طليطلة بيد الإسبان، لم تنعكس بشكل سلبي على الأدب والفن، بل تحولت رعاية الإبداع والمبدعين إلى محل للمنافسة والمباهاة بين أمراء الدويلات، الأمر الذي يذكر بدويلات المشرق وتنافس بلاطاتها على الاحتفاء بالشعراء والعلماء والمفكرين، كما حدث في بلاط سيف الدولة على سبيل المثال لا الحصر. وفي ظل مناخ الانفتاح ذاك، وما واكبه من تعزيز دور المرأة وحقها في العلم والحرية، توفرت لولادة بنت المستكفي كل الشروط الملائمة لتصدّر المشهد الثقافي في قرطبة، عبر عقد مجلس أدبي دوري يلتقي فيه كبار الشعراء والكتاب، بمن فيهم ابن زيدون، الذي كان له من اتقاد موهبته وقوة حضوره، ما لفت إليه نظر ولادة وجعلها تبادله الإعجاب بالإعجاب والعشق بمثله، إلى أن باتت قصة حبهما في صعودها وهبوطها إحدى اكثر قصص الحب شيوعاً في التاريخ العربي.

على أن أي مقاربة موضوعية لشخصية ولادة وسلوكها العاطفي، يجب ألا تكتفي بالتركيز على ترف النشأة وسلوك الأب العبثي فحسب، بل على المصير المأساوي لهذا الأخير، الذي ولد لدى الابنة افتقاراً لاحقاً الى الحنان والحدب والحماية الأبوية، ومعطوفاً على نرجسية فاقعة وانعدام القدرة على المسامحة والغفران، ونزوع سادي سببته الرغبة في الانتقام للأب المقتول. كما حملها على التصدي الجريء للتقاليد الذكورية المزمنة التي حظرت على الشاعرات الحرائر نظم الغزل الصريح، حاصرة إياه بالقيان والجواري، المنوطات في الأصل بتوفير المتع الحسية لأسيادهن. أما أكثر نصوص ولادة تعبيراً عن جرأتها وتحررها من التقاليد فقد تمثلت ببيتيها الشهيرين:

أنا والله أصلح للمعالي

وأمشي مشيتي وأتيه تيها

أمكّن عاشقي من صحن خدي

وأعطي قبلتي من يشتهيها

وإذا كانت سكينة بنت الحسين قد سبقت ولادة إلى تأسيس المجالس الأدبية، فإن بين المرأتين وجوهاً عديدة للشبه تتصل بفقدان الأب على نحو مأساوي، رغم التباينات الشاسعة بين شخصيتي الحسين والمستكفي. وهما إذ تتشابهان أيضاً في الجمال وسحر الحضور والتشبث بالحرية، فإن الفوارق بين السلوك المحافظ للأولى والمتجرئ للثانية، لا تتصل بنشأة كل منهما وتربيتها المختلفة فحسب، بل بالفوارق الأوسع بين عصرين متباعدين وبيئتين شديدتي التباين.

ومع أن ما تقدم يؤشر بوضوح إلى أن ظروف ولادة وتكوينها النفسي قد أورثاها عطشاً للحب عصياً على الارتواء، لكن الحب بالنسبة لها بدا أقرب إلى التلقي منه إلى الإرسال، وإلى الأخذ منه إلى العطاء. وهي حين وقعت في حب ابن زيدون، فلأن فيه من المواصفات ما يجعله نداً لها في النسب والرفعة، ومتجاوزاً إياها على مستوى الموهبة الشعرية، ولذلك لم يكن غريباً أن تبادله الشغف بالشغف والافتتان بمثله، وتدعوه إلى انتظار زيارتها بالقول:

ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتي

فإني رأيتُ الليل أكتم للسرِّ

وبي منكَ ما لو كان في الشمس لم تلح

وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسْرِ

لكن ذلك الحب المحفوف بالعقد كان ينتظر الفرصة السانحة للانتقام من الذات ومن الآخر، التي وفرها ابن زيدون عبر إقدامه على خيانة ولادة، ومع جاريتها «السوداء» بالذات، حيث اقترنت الطعنة الناجمة عن الخيانة بطعنة مماثلة أصابت كرامة الشاعرة «البيضاء» في الصميم. وهو ما يعكسه قولها لابن زيدون إثر معرفتها بخيانته:

لو كنتَ تنصفُ في الهوى ما بيننا

لم تهوَ جاريتي ولم تتخيّرِ

وتركتَ غصناً مثمراً بجماله

وجنحت للغصن الذي لم يثمرِ

ومع أنني لا أستبعد الأثر السلبي الذي تركه في نفس ولادة انتقاد ابن زيدون لها على أبيات نظمتها، وهي المفرطة في الكبرياء والاعتداد بالنفس، إلا أن ذلك الأمر بدا بمثابة القشة التي قصمت ظهر العلاقة المترنحة في الأصل. لكن ما آلمها في الصميم هو عدم اكتفاء ابن زيدون بخيانتها، بل هجاؤه لها بشكل لاذع إثر معرفته بالعلاقة التي بدأت بنسجها مع ابن عبدوس، الأمر الذي جعلها تحرق من خلفها سفن العلاقة دون أي تفكير بالرجوع.

أما من الزاوية المتعلقة بابن زيدون، فيكفي أن نستعرض ديوانه الشعري لكي نتيقن من الدور المحوري الذي لعبته هذه المرأة الفاتنة في حياته، على المستويين الشخصي والإبداعي. وإذ يقر الشاعر في إحدى مقطوعاته بخيانته لولادة مع جاريتها عبر قوله «إن أجنِ ذنباً في الهوى/ خطأ فقد يكبو الجواد»، لا يتوانى في مقطوعة ثانية عن التغزل بجارية أخرى متعمداً إثارة غيرة حبيبته الصدود بقوله:

عاودتُ ذكرى الهوى من بعد نسيان

واستحدث القلب شوقاً بعد نسيان

من حب جارية يبدو بها صنم

من اللجين عليه تاج عقيان

كما يتبين لنا من خلال الديوان أن ابن زيدون، وقد آلمه أشد الألم ارتماء ولادة الانتقامي في أحضان ألد خصومه إلى الإقدام على تعنيف ولادة وضربها، كما يظهر في قوله نادماً ومعتذراً :

إن تكن نالتكِ بالضرب يدي

وأصابتكِ بما لم أُردِ

فلقد كنت لعمري فادياً

لكِ بالمال وبعض الولدِ

غير أن ولادة قررت أن تصم سمعها بشكل نهائي عن نداءات ابن زيدون ومناشداته لها بالعودة. وحيث لا تأتي المصائب فرادى في حياة البعض، فقد اقترنت مأساة الشاعر العاطفية بمأساة أخرى موازية حين زج به ابن جهور حاكم قرطبة في السجن بتهمة التآمر ضده، وبناء على دسيسة حاقدة يقال إن ابن عبدوس كان مهندسها الرئيسي. اللافت أن ابن زيدون ظل على حبه لولادة بعد فراره من السجن والتحاقه ببلاط المعتضد بن عباد في إشبيلية وتعيينه وزيراً هناك، وصولاً إلى لحظة وفاته عام 1072م، أي قبل عشرين عاماً من رحيل المرأة التي خلخلت ركائز حياته واقترن اسمها به، وعمرت طويلاً من بعده.

ولم يكن بالأمر المفاجئ أن تؤول العلاقة بين ولادة وابن زيدون إلى فشل محقق، شأنهما في ذلك شأن شعراء ومبدعين كثيرين، لأن نرجسية كل منهما وطبعه المزاجي كانا يضعانهما في حالة من التصادم يصعب وضع حد لها إلا بالفراق، وإذا كان ابن زيدون قد دفع القسط الأوفر من أكلاف هذه العلاقة التي حولته بالتدريج إلى بطل تراجيدي، فإن ما خسره على مستوى الحياة ربحه بالمقابل على مستوى الشعر. وهو ما لم تجسده قصيدته المعروفة «أضحى التنائي» بمفردها، بل نصوص كثيرة أخرى تعكس انكسار قلبه، وتحول الآخر المنشود في شعره إلى منادى بعيد في أندلس الفقدان:

أغائبةٌ عني وحاضرةٌ معي

أناديكِ لما عيل صبريَ فاسمعي

أفي الحق أن أشقى بحبكِ أو أُرى

حريقأً بأنفاسي غريقاً بأدمعي

ألا عطفةٌ تحيا بها نفس عاشقٍ

جعلتِ الردى منه بمنأىً ومسمعِ

صلينيَ بعض الوصل حتى تَبيّني

حقيقة حالي ثم ما شئتِ فاصنعي

وإذ يلح ابن زيدون على مخاطبة ولادة بصيغة المذكر في الكثير من مقطوعاته، فليس لأن العرب قد درجوا في شعرهم على تحويل المعشوق إلى كائن محلق خارج الأجناس فحسب، بل لأنها وقد أصبحت الطرف الأقوى في العلاقة، انتقلت على المستوى الرمزي إلى خانة الذكورة، تاركة لشاعرها المهيض دور الأنوثة الرمزية. لا بل إن تمادي الشاعر في التذلل يدفعه إلى التصريح المتكرر بأنه بات أسير المعشوق وعبده وتابعه.

اللافت أن انسحاق ابن زيدون التام أمام ولادة، لم يرقق قلبها إزاءه، كما كان يتوهم، بل زادها قسوة عليه ونأياً عنه، ربما لأنه لم يعد يذكّرها بالرجل السابق ذي الشخصية القوية الذي كانه من قبل، ولأن ضعفه المستجد أثار نفورها وسخطها في الآن ذاته، وهي التي لم تعد تحتاج بعد مقتل أبيها المأساوي إلى من يذرف الدموع نيابة عنها، بل إلى ظهير صلب يشاطرها مصاعب الحياة، حتى ولو كان مخاتلاً وفاسد السريرة كابن عبدوس.


مقالات ذات صلة

دراسة: الذكاء الاصطناعي يكتب قصائد أفضل من البشر

تكنولوجيا غالبية القُرَّاء يرون أن الذكاء الاصطناعي يكتب قصائد شعر أفضل من البشر (رويترز)

دراسة: الذكاء الاصطناعي يكتب قصائد أفضل من البشر

أكدت دراسة جديدة أن قصائد الشعر التي تكتب بواسطة أنظمة الذكاء الاصطناعي أفضل من تلك التي يكتبها البشر.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
ثقافة وفنون «اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان.

رشا أحمد (القاهرة)
يوميات الشرق الفنانة اللبنانية جاهدة وهبة (صور الفنانة)

جاهدة وهبة «تعيش مع الضوء» وتجول العواصم بصوتها دعماً للبنان

كان لا بد أن تعود الأغنية لتنبض في حنجرة جاهدة وهبة بعد صمت صدمة الحرب. وها هي الفنانة اللبنانية تحمل أغنيتها وتجول العواصم الأوروبية والعربية رافعةً صوت وطنها.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

يحتضن الشاعر المصري كريم عبد السلام، فلسطين، في ديوانه الذي وسمه باسمها «أكتب فلسطين - متجاهلاً ما بعد الحداثة»، ويكشف أقنعة المواقف والسياسات المتخاذلة.....

جمال القصاص
ثقافة وفنون قصيدتان

قصيدتان

متحف العائلة رغم رحيلها لم تخسر الفتاة غرفتها في بيت العائلة المزدحم لم تسمح الأم أن يتوارث الباقون مكانها، حولت غرفتها إلى متحف: احتفظت بالبوسترات…


طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.