عودة الديناصورات

إنساننا الجديد ودّع طبيعته البشريّة وانتقل إلى جبلّة مختلفة

عودة الديناصورات
TT

عودة الديناصورات

عودة الديناصورات

ينظر الجميع إلى الوطن بعين تفسّر الأمور على نحو ميتافيزيقيّ، فهو يمثّل لدى البعض الراية التي ترفرف أو التربة التي نمشي عليها، والنهر والشجر والأم والأب، وفي عالم الفن ثمة جانب غير واقعي في صورة الوطن، أو قل إنها صورة خرافيّة يرسمها الفنان لبلده ويتمسك بها، وإن كانت بعيدة عن فهم الجميع، لكنها قريبة من قلب الفنان وعينه، فهو لا يرى غيرها، وأثبتت الوقائع أن هذه الصورة هي كلّ ما تبقّى من دول قامت ثم ماتت، وانطوت عليها صفحات الزمان. «ملحمة غلغامش» هي صورة خرافية لبلاد سومر، لكنها باقية تعاند رياح الزمان آلاف السنين. وكذلك الأهرامات، صورة خرافية أخرى، ويجري القول نفسه عن أسد بابل والمئذنة الملويّة ونصب «أبو الهول»، وبانتقالنا إلى العصر الحديث تبرز لنا لوحة الغرنيكا صورة خرافيّة عن عصرنا، وكذلك برج إيفل وتمثال الحرية، وغيرها.

كما يمكن للصورة الخرافيّة أن تكون حكاية أو قصّة أو رواية، مثلما خلّدت حكايات بيدبا في كتاب «كليلة ودمنة»، وكذلك قصص «ألف ليلة وليلة»، والصورة الخرافيّة التي أختارها لبلدي العراق في العصر الحديث هي قصة قصيرة لفرج ياسين عنوانها «غدا في الصدى»:

«كانت هناك سعلاة، وكوخ من القصب يسكنه شيخ وعجوزه. سمعت السّعلاة صوتَ البقرة، وقالت تحدّث نفسها: لقد وجدتُ صيدا. خاف العجوزان من السعلاة، لكنّ البقرة طردتها في الحال وهدّدتها بالقول: إذا أتيتِ مرة ثانية، وجرُؤتِ على دخول البيت، فإنني سأغمزك بعيني وأنطحك بقرني وأرفسك برجلي. عادت السعلاة في اليوم الثاني، وكانت البقرة هي الحامي، وتكرّر مجيئها في تالي الأيام، وفكّر العجوزان أنهما أصبحا هدفاً مستمراً للسعلاة بسبب البقرة، فقاما بذبحها، وظنّ الاثنان أن كل شيء انتهى، لكن السعلاة عادت في الليل، وسمع الزوجان البقرة تردّ عليها: سأغمزك بعيني وأنطحك بقرني وأرفسك برجلي.

- ولكن البقرة ذُبحت، من الذي كان يجيب، أهي الشياطين؟

يسأل الصبي أباه في القصة، ويجيبه الأب:

- كلاّ إنه رأسها، لقد أخفاه العجوزان في فناء الدار وقلبا فوقه طشتاً، لئلا يلمحه أحد، لأنهما أرادا طبخه في اليوم التالي.

- وهل جاءت في اليوم الثالث؟

- تماماً كعادتها، أول الأمر.

- وهل ردّ عليها أحد؟

- أجل، لقد سمعت الإجابة ذاتها: سأغمزك بعيني وأنطحك بقرني وأرفسك برجلي.

- كيف؟

- ثمة قطرة دم واحدة بقيت عالقة في الجدار بعد تنظيف الفناء من دماء البقرة، هي التي تكلّمت الآن.

- قطرة دم؟

- نعم.

- وماذا فعلت السعلاة؟

تملّكها الذّعر ثم ولّت هاربة، لكن العجوزين كشطا قطرة الدم في اليوم التالي، فجاءت السعلاة عند منتصف اللّيل والتهمت الاثنين».

نشر فرج ياسين القصة في التسعينات، وكان المغزى السياسي فيها واضحاً، فقد تكالبت جميع بلدان العالم على العراق في سبيل عزله وحصار حكومته وتجويع شعبه، وكانت هذه واحدة من العقوبات التي فُرضت بسبب احتلال الكويت. البقرة هي الوطن، والسعلاة هي القوى الظالمة التي حاولت الإجهاز عليه، لكنّ قطرة دم واحدة تبقى حيّة يمكنها الدفاع وصدّ الأعداء إلى خارج الحدود. تأتي الروح من الروح، ويأتي الدم من الدم، وهذه روح خالدة في المكان وفي الزمان، وهي رمز بقاء الحياة على أرض الوطن. إنها صورة خرافيّة أخرى...

نُشرت القصة في مجموعة فرج ياسين القصصيّة «رماد الأقاويل» عام 2006. وكنتُ أعود إلى القصّة دائما بالقراءة والتأمل، وأودّ هنا أن أمضي في قراءتها، وفق الفذلكة النقدية على أن القارئ مؤلّفٌ ثانٍ للنصّ. إن نقطة إطلاق السهم واحدة والنهايات كثيرة، واخترتُ لهذا السّهم خواتيمَ ثلاثًا، وربما طلعت لي بمرور الزمان آفاق جديدة.

غاب وعي قطرة الدم لأن العجوزين أزالاها من الحائط، واحتلّ قوم السعلاة البيت، وهدموه وبنوا خرائب ترتاح فيها نفوسهم وتبرد أنفاسهم الوحشيّة. مرّ زمنٌ وعادت النضارة إلى قطرة الدم، وأخذت تنشد في الليل والنهار ترنيمها السّابق، مهدّدة قومَ الغزاة: «أغمزكم بعيني وأنطحكم بقرني وأرفسكم برجلي». إن ليل السعالى يشبه النهار، فهي لا تنام بسبب تهديد البقرة الذي لا يُعرف مصدره، وتفتش في كل مكان دون جدوى.

الاحتمال الثاني أن السعلاة أكلت العجوزين وغادرت، وبقي البيت فارغاً إلا من شبحَي العجوزين الغائبين، تحرسهما قطرة الدم، فلا يقرب المكان أحدٌ. البيت كذلك بقي قائماً، تدلّ على الحياة فيه زهرة تخرج مع أوراقها من جدار، وعشبٌ يشقّ طريقه في الأسيجة...

يمكن للصورة الخرافيّة أن تكون حكاية أو قصّة أو رواية مثلما خلدت حكايات بيدبا في كتاب «كليلة ودمنة» وكذلك قصص «ألف ليلة وليلة»

القراءة الثالثة للقصة هي الأقسى على النفس، وكلّما راودتني شعرتُ بضيق في صدري، ورأيت الدنيا ظلاماً يلفّني من كلّ جهة. بعد أن أقامت السعالي خرائبها، ظلّت تتكاثر كما في غمرة حلم، وملأت الأرض وحوشاً تلتهم كلّ شيء، حتى الشجر اليابس وجذوره، بل حتى التراب. صارت البلاد بلقعاً خاوية، والزمن يسير فيها إلى الوراء باطّراد، إلى أن بلغت الحقبة التي تُدعى من قبل التاريخيّين بما قبل التاريخ، فصار قوم السعلاة ينادون ويعيدون إلى الحياة وحوشاً اضمحلّت وبادت منذ العهود الجيولوجية الأولى، مثل الديناصورات والماموث والتنين الطائر. ثم جرت في أبدان هذه الوحوش نقلات جينيّة تحوّلت فيها إلى مخلوقات متوحشّة عليها سمات البراءة والجبروت في آن واحد، فهي وحوش بهيئة بشر أو العكس، إنسان عاد إلى الوراء ملايين السنين وانبثق ثانية من تلك العهود الدفينة، ثم تكيّف مع الحياة الحديثة، وصار يحمل من تاريخه الوحشي صفات، ومن عيشته الجديدة صفات أخرى. لا أشدّ من تكاسل إنساننا الجديد، وبطئه في الحركة، فهو يعيش في حالة من السبات، لا ينتقل من مكانه إلا في سبيل الحصول على مزيد من القوت، ولا يدلّ تكاسله على أنه يعيش حياة حلوة حالمة سعيدة، لأن هذا المخلوق المسخ في حالة حرب مستمرة مع الجميع، ومع نفسه. عندما يتكلّم تُسمع منه أصوات مضمّخة بذلك الهدير البدائي، فهو يهدّد ويتوعّد دائماً بالانتقام من الآخر، وأحياناً يكون هذا الآخر ضمنياً يعيش في داخله. للبعض منه أذناب طويلة وأعراف، بينما يمتلك البعض الآخر رؤوساً كثيرة أو أقداماً كثيرة أو أيادي أو ألسنة أو أفئدة أو مُعيًّا لا تُحصى تنتهي بأدبار لا تُعدّ، فهو يأكل طوال الوقت من أجل إشباع بدنه الديناصوري الذي ما فتئ يتضخّم يوماً بعد يوم، بالغاً حجم عشرة أمثال الديناصور الذي يشبهه كثيراً، ومحققاً بذلك أحلام جميع الرسّامين السرياليّين وخيالاتهم الإبداعيّة. ومن صفاته العجيبة أنه لا يمرض ولا يهرم، ولديه قدرة عجيبة على التناسل، ويتمدّد في الأرض التي يسكنها مثل العشب، وإذا قُطع أحدهم إلى نصفين التحم أحدهما مع نصف يعود إلى كائن آخر، ثعبان أو حمار أو تمساح، وصار لدينا مخلوق جديد يتناسل وينقسم ويتّحد.

من كلّ ما تقدّم نفهم أن إنساننا الجديد في هذه البلاد ودّع طبيعته البشريّة وانتقل إلى جبلّة جديدة، حتى إن العلماء لا يستطيعون تصنيفه في أي نوع وجنس، واختلط الأمر كذلك على قطرة دم البقرة، لأنها ترى ما ترى ولا تفهم ما يجري على الأرض وفي السماء. هل المكان هو المكان، أم أن رحيلاً مدمّراً حدث واستُبدلت كائنات من كوكب آخر بالمخلوقات عليه؟ منذ زمان قرّرت قطرة الدم الكفّ عن المنافحة والدفاع والنشيدِ، وسكتت. إنها تصغي طوال الوقت إلى ما يجري من فظائع تقوم بها مخلوقات عجيبة ليس هناك من سبيل لإصلاحها أو التخلّص منها بأي صورة.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.