عودة الديناصورات

إنساننا الجديد ودّع طبيعته البشريّة وانتقل إلى جبلّة مختلفة

عودة الديناصورات
TT

عودة الديناصورات

عودة الديناصورات

ينظر الجميع إلى الوطن بعين تفسّر الأمور على نحو ميتافيزيقيّ، فهو يمثّل لدى البعض الراية التي ترفرف أو التربة التي نمشي عليها، والنهر والشجر والأم والأب، وفي عالم الفن ثمة جانب غير واقعي في صورة الوطن، أو قل إنها صورة خرافيّة يرسمها الفنان لبلده ويتمسك بها، وإن كانت بعيدة عن فهم الجميع، لكنها قريبة من قلب الفنان وعينه، فهو لا يرى غيرها، وأثبتت الوقائع أن هذه الصورة هي كلّ ما تبقّى من دول قامت ثم ماتت، وانطوت عليها صفحات الزمان. «ملحمة غلغامش» هي صورة خرافية لبلاد سومر، لكنها باقية تعاند رياح الزمان آلاف السنين. وكذلك الأهرامات، صورة خرافية أخرى، ويجري القول نفسه عن أسد بابل والمئذنة الملويّة ونصب «أبو الهول»، وبانتقالنا إلى العصر الحديث تبرز لنا لوحة الغرنيكا صورة خرافيّة عن عصرنا، وكذلك برج إيفل وتمثال الحرية، وغيرها.

كما يمكن للصورة الخرافيّة أن تكون حكاية أو قصّة أو رواية، مثلما خلّدت حكايات بيدبا في كتاب «كليلة ودمنة»، وكذلك قصص «ألف ليلة وليلة»، والصورة الخرافيّة التي أختارها لبلدي العراق في العصر الحديث هي قصة قصيرة لفرج ياسين عنوانها «غدا في الصدى»:

«كانت هناك سعلاة، وكوخ من القصب يسكنه شيخ وعجوزه. سمعت السّعلاة صوتَ البقرة، وقالت تحدّث نفسها: لقد وجدتُ صيدا. خاف العجوزان من السعلاة، لكنّ البقرة طردتها في الحال وهدّدتها بالقول: إذا أتيتِ مرة ثانية، وجرُؤتِ على دخول البيت، فإنني سأغمزك بعيني وأنطحك بقرني وأرفسك برجلي. عادت السعلاة في اليوم الثاني، وكانت البقرة هي الحامي، وتكرّر مجيئها في تالي الأيام، وفكّر العجوزان أنهما أصبحا هدفاً مستمراً للسعلاة بسبب البقرة، فقاما بذبحها، وظنّ الاثنان أن كل شيء انتهى، لكن السعلاة عادت في الليل، وسمع الزوجان البقرة تردّ عليها: سأغمزك بعيني وأنطحك بقرني وأرفسك برجلي.

- ولكن البقرة ذُبحت، من الذي كان يجيب، أهي الشياطين؟

يسأل الصبي أباه في القصة، ويجيبه الأب:

- كلاّ إنه رأسها، لقد أخفاه العجوزان في فناء الدار وقلبا فوقه طشتاً، لئلا يلمحه أحد، لأنهما أرادا طبخه في اليوم التالي.

- وهل جاءت في اليوم الثالث؟

- تماماً كعادتها، أول الأمر.

- وهل ردّ عليها أحد؟

- أجل، لقد سمعت الإجابة ذاتها: سأغمزك بعيني وأنطحك بقرني وأرفسك برجلي.

- كيف؟

- ثمة قطرة دم واحدة بقيت عالقة في الجدار بعد تنظيف الفناء من دماء البقرة، هي التي تكلّمت الآن.

- قطرة دم؟

- نعم.

- وماذا فعلت السعلاة؟

تملّكها الذّعر ثم ولّت هاربة، لكن العجوزين كشطا قطرة الدم في اليوم التالي، فجاءت السعلاة عند منتصف اللّيل والتهمت الاثنين».

نشر فرج ياسين القصة في التسعينات، وكان المغزى السياسي فيها واضحاً، فقد تكالبت جميع بلدان العالم على العراق في سبيل عزله وحصار حكومته وتجويع شعبه، وكانت هذه واحدة من العقوبات التي فُرضت بسبب احتلال الكويت. البقرة هي الوطن، والسعلاة هي القوى الظالمة التي حاولت الإجهاز عليه، لكنّ قطرة دم واحدة تبقى حيّة يمكنها الدفاع وصدّ الأعداء إلى خارج الحدود. تأتي الروح من الروح، ويأتي الدم من الدم، وهذه روح خالدة في المكان وفي الزمان، وهي رمز بقاء الحياة على أرض الوطن. إنها صورة خرافيّة أخرى...

نُشرت القصة في مجموعة فرج ياسين القصصيّة «رماد الأقاويل» عام 2006. وكنتُ أعود إلى القصّة دائما بالقراءة والتأمل، وأودّ هنا أن أمضي في قراءتها، وفق الفذلكة النقدية على أن القارئ مؤلّفٌ ثانٍ للنصّ. إن نقطة إطلاق السهم واحدة والنهايات كثيرة، واخترتُ لهذا السّهم خواتيمَ ثلاثًا، وربما طلعت لي بمرور الزمان آفاق جديدة.

غاب وعي قطرة الدم لأن العجوزين أزالاها من الحائط، واحتلّ قوم السعلاة البيت، وهدموه وبنوا خرائب ترتاح فيها نفوسهم وتبرد أنفاسهم الوحشيّة. مرّ زمنٌ وعادت النضارة إلى قطرة الدم، وأخذت تنشد في الليل والنهار ترنيمها السّابق، مهدّدة قومَ الغزاة: «أغمزكم بعيني وأنطحكم بقرني وأرفسكم برجلي». إن ليل السعالى يشبه النهار، فهي لا تنام بسبب تهديد البقرة الذي لا يُعرف مصدره، وتفتش في كل مكان دون جدوى.

الاحتمال الثاني أن السعلاة أكلت العجوزين وغادرت، وبقي البيت فارغاً إلا من شبحَي العجوزين الغائبين، تحرسهما قطرة الدم، فلا يقرب المكان أحدٌ. البيت كذلك بقي قائماً، تدلّ على الحياة فيه زهرة تخرج مع أوراقها من جدار، وعشبٌ يشقّ طريقه في الأسيجة...

يمكن للصورة الخرافيّة أن تكون حكاية أو قصّة أو رواية مثلما خلدت حكايات بيدبا في كتاب «كليلة ودمنة» وكذلك قصص «ألف ليلة وليلة»

القراءة الثالثة للقصة هي الأقسى على النفس، وكلّما راودتني شعرتُ بضيق في صدري، ورأيت الدنيا ظلاماً يلفّني من كلّ جهة. بعد أن أقامت السعالي خرائبها، ظلّت تتكاثر كما في غمرة حلم، وملأت الأرض وحوشاً تلتهم كلّ شيء، حتى الشجر اليابس وجذوره، بل حتى التراب. صارت البلاد بلقعاً خاوية، والزمن يسير فيها إلى الوراء باطّراد، إلى أن بلغت الحقبة التي تُدعى من قبل التاريخيّين بما قبل التاريخ، فصار قوم السعلاة ينادون ويعيدون إلى الحياة وحوشاً اضمحلّت وبادت منذ العهود الجيولوجية الأولى، مثل الديناصورات والماموث والتنين الطائر. ثم جرت في أبدان هذه الوحوش نقلات جينيّة تحوّلت فيها إلى مخلوقات متوحشّة عليها سمات البراءة والجبروت في آن واحد، فهي وحوش بهيئة بشر أو العكس، إنسان عاد إلى الوراء ملايين السنين وانبثق ثانية من تلك العهود الدفينة، ثم تكيّف مع الحياة الحديثة، وصار يحمل من تاريخه الوحشي صفات، ومن عيشته الجديدة صفات أخرى. لا أشدّ من تكاسل إنساننا الجديد، وبطئه في الحركة، فهو يعيش في حالة من السبات، لا ينتقل من مكانه إلا في سبيل الحصول على مزيد من القوت، ولا يدلّ تكاسله على أنه يعيش حياة حلوة حالمة سعيدة، لأن هذا المخلوق المسخ في حالة حرب مستمرة مع الجميع، ومع نفسه. عندما يتكلّم تُسمع منه أصوات مضمّخة بذلك الهدير البدائي، فهو يهدّد ويتوعّد دائماً بالانتقام من الآخر، وأحياناً يكون هذا الآخر ضمنياً يعيش في داخله. للبعض منه أذناب طويلة وأعراف، بينما يمتلك البعض الآخر رؤوساً كثيرة أو أقداماً كثيرة أو أيادي أو ألسنة أو أفئدة أو مُعيًّا لا تُحصى تنتهي بأدبار لا تُعدّ، فهو يأكل طوال الوقت من أجل إشباع بدنه الديناصوري الذي ما فتئ يتضخّم يوماً بعد يوم، بالغاً حجم عشرة أمثال الديناصور الذي يشبهه كثيراً، ومحققاً بذلك أحلام جميع الرسّامين السرياليّين وخيالاتهم الإبداعيّة. ومن صفاته العجيبة أنه لا يمرض ولا يهرم، ولديه قدرة عجيبة على التناسل، ويتمدّد في الأرض التي يسكنها مثل العشب، وإذا قُطع أحدهم إلى نصفين التحم أحدهما مع نصف يعود إلى كائن آخر، ثعبان أو حمار أو تمساح، وصار لدينا مخلوق جديد يتناسل وينقسم ويتّحد.

من كلّ ما تقدّم نفهم أن إنساننا الجديد في هذه البلاد ودّع طبيعته البشريّة وانتقل إلى جبلّة جديدة، حتى إن العلماء لا يستطيعون تصنيفه في أي نوع وجنس، واختلط الأمر كذلك على قطرة دم البقرة، لأنها ترى ما ترى ولا تفهم ما يجري على الأرض وفي السماء. هل المكان هو المكان، أم أن رحيلاً مدمّراً حدث واستُبدلت كائنات من كوكب آخر بالمخلوقات عليه؟ منذ زمان قرّرت قطرة الدم الكفّ عن المنافحة والدفاع والنشيدِ، وسكتت. إنها تصغي طوال الوقت إلى ما يجري من فظائع تقوم بها مخلوقات عجيبة ليس هناك من سبيل لإصلاحها أو التخلّص منها بأي صورة.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.