الغرب في مرايا أدباء المغرب العربي

زاهية صالحي ترصد افتتان الجيل الأول من المغاربة المتعلمين بفرنسا {لكن ذلك لم يدم طويلاً}


رشيد بو جدرة
رشيد بو جدرة
TT

الغرب في مرايا أدباء المغرب العربي


رشيد بو جدرة
رشيد بو جدرة

لكلمة «الاستغراب» (Occidentalism)، حسب قاموس «النفيس» (إنجليزي- عربي) للدكتور مجدي وهبة، معانٍ عدة، يعنينا منها هذا المعنى: «دراسة الحضارة الغربية من قِبَل من ليسوا غربيين». فالاستغراب هو الوجه المقابل للاستشراق (Orientalism) الذي هو دراسة الحضارة الشرقية من قِبَل من ليسوا بشرقيين. وإلى المفكر المصري الراحل، أستاذ الفلسفة، الدكتور حسن حنفي، يرجع الفضل في إذاعة مصطلح الاستغراب (وإن لم يكن هو من نحته) وذلك في كتابه «مقدمة في علم الاستغراب» (2000) الذي أراد به إقامة علم نرد به على الغرب، الغرب الذي طالما استذل الشرق ونظر إليه بعين الاحتقار، أو على أحسن تقدير بعين العطف المنطوي على استصغار: عطف القوي على الضعيف، والكبير على الصغير، والعالم على الجاهل. فكأنما نحن نقول للغرب: عين بعين، وكيل بكيل، وصاع بصاع. أو كما أتخيل أن الأديب يحيى حقي كان -بفكاهته- خليقاً أن يقول للغرب: لا تعيِّرني ولا أعيِّرك، فإنما نحن في السراء والضراء سواء.

مالك حداد

و«الاستغراب» عنوان كتاب باللغة الإنجليزية، صادر عن مطبعة جامعة إدنبره في 2019، من تأليف الدكتورة زاهية صالحي، رئيسة قسم الدراسات العربية بجامعة مانشستر، ونائبة رئيس الجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط. وهي مؤلفة كتاب سابق عنوانه «السياسة وأصول الفن في الرواية الجزائرية» (1999).

يتناول كتاب «الاستغراب» اللقاء بين الشرق والغرب كما تمثل في الأدب المغاربي (الجزائري بخاصة) في حقبة ما قبل عام 1945، وموقف المثقفين الجزائريين من لغة فرنسا وثقافتها، وأثر الحركة النسوية الفرنسية في الحركة النسوية الجزائرية. ومن الأعمال الأدبية التي تسلط عليها المؤلفة الضوء: نصوص لشكري خوجة، وسعد بن علي، وجميلة دبيش، وفاطمة عمروش، ومولود فرعون، وفرحات عباس، وألبير ميمي، وغيرهم.

تنظر المؤلفة إلى موضوعها في إطاره الحضاري الواسع، ومنظوره التاريخي، مبرزة العلاقة بين المسلمين والغرب المسيحي في عصر الإمبراطور شارلمان (القرن الثامن الميلادي)، والحروب الصليبية، والحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801)، وسياسة التمثل والاستيعاب التي عمد إليها الاستعمار الفرنسي في الجزائر وتونس ومراكش، ومن أدواتها نشر اللغة الفرنسية والمذهب الكاثوليكي.

مولود فرعون

ومن الأطر المرجعية التي تتكئ عليها المؤلفة، حديث ابن خلدون في مقدمته عن ولع المغلوب بمحاكاة الغالب، وكتابا فرانز فانون: «معذبو الأرض»، و«بشرة سوداء، أقنعة بيضاء».

افتتن الجيل الأول من المغاربة المتعلمين بفرنسا بوصفها «الوطن الأم». ويعبر عن هذا الافتنان «مأمون»، بطل أول رواية (1928) لشكري خوجة (1891- 1967)، إذ يقول: «لأني أعرف العلماء الفرنسيين ومنجزاتهم واكتشافاتهم، ولأني أعرف أمثال فولتير ودي بوالو وبسكال وموسيه وكثيرين غيرهم، لا يسعني إلا أن أعشقهم جميعاً عشقاً حاداً. وبعشقي لهم أفلا يعني ذلك عشق أمتهم؟». ويضيف: «إني أحب فرنسا بعمق، وقد ازداد حبي لها منذ زرتها. اكتشفت مناظرها الجميلة وسكانها الفاتنين وكل الأشياء رائعة المظهر فيها».

لكن هذه الصورة الوردية لم تدم طويلاً. فقد بدأت –وهو ما كان محتوماً- مصادمات بين المستوطنين الأوروبيين والأهالي، وارتفع منسوب العنف، ولجأت السلطات الفرنسية إلى القمع الوحشي، متوجة ذلك بمذبحة الفرنسيين ضد الأهالي في 8 مايو (أيار) 1945، فحل انقشاع الأوهام، والشعور بالاغتراب، وازدواج المشاعر الوجدانية محل حلم التعايش. ووجدنا هذا الاختلاط الشعوري لدى كتاب لا شك في نبل مقاصدهم، مثل ألبير كامي وإيمانويل روبلس.

غلاف الكتاب

وتقول المؤلفة إن رواية مولود فرعون (1913- 1962) «نجل الفقير» عُدت عند صدورها في 1950 إيذاناً بمولد أدب صادق معبر عن الجماهير المغاربية؛ ذلك أنها عزفت نغمة جديدة على الأدب المغاربي بعامة، والأدب الجزائري بخاصة. فعلى النقيض من كُتاب حقبة ما قبل عام 1945، كان فرعون –مثل «فورولو» الشخصية الرئيسية في الرواية- ابناً لفقراء، وقد منحت الرواية صوتاً للمسحوقين في مجتمع يحكمه الاستعمار، مجتمع كان الغرب يتجاهله. ويصور فرعون قريته في صورة بقعة بعيدة عن الحضارة بلا طرق ولا مستشفى، وكل ما تملكه مدرسة صغيرة بها فصلان، يديرها اثنان من الأهالي. ولأن القرية على هذا النحو البدائي لا يعيش فيها أوروبيون. ويوجه فرعون إصبع الاتهام إلى قرائه الفرنسيين، وكأنه يقول: أنتم تدَّعون أنكم جئتم برسالة حضارية، فأين هي هنا؟ وفي رسائله إلى أصدقائه الفرنسيين لا يترك مجالاً للشك في أن أبناء البلد الجزائريين والمستوطنين الأوروبيين يعيشون في عالمين منفصلين لا صلة بينهما، وأن حيواتهم بالغة الاختلاف. وفي رسالة منه إلى صديقه ألبير كامي يعاتب فرعون هذا الأخير لأن روايته «الطاعون»، وإن كان مسرحها مدينة وهران، لا تضم شخصيات جزائرية.

وفي أول رواية لمحمد ديب (1920- 2003) وهي «الدار الكبيرة» (1952) نجد أن سكان دار كبيرة -ترمز إلى الجزائر المحتلة- يصارعون الفقر والجوع (ترجم محمد البخاري ثلاثية ديب -وهي تبدأ بـ«الدار الكبيرة»- إلى العربية، في سلسلة «روايات الهلال»).

وفي رواية مولود معمري (1917- 1989) «التل المنسي» (1952) نلتقي بتل نسيته الحضارة، وصار أناسه على حافة الانفجار. ويتنامى الشعور بالاغتراب في رواية معمري الثانية «نوم الأبرار» (1955) إذ ترتمي الشخصية الرئيسية «أرزقي» في أحضان فرنسا، وتتنكر لأهلها وموروثها. ويحل المعلم الفرنسي «مسيو بواريه» محل أبي «أرزقي» مرشداً وموجهاً. ويسافر «أرزقي» إلى أوروبا ليحارب ضد النازي، ولكنه يصدم؛ إذ يجد أن الأوروبيين الذين يحارب في صفوفهم ينظرون إليه بعين عنصرية استعلائية، ويعدونه جزائرياً مسلماً لا يحمل الجنسية الفرنسية. يتولاه الغضب فيعود إلى الجزائر نادماً على ما فرط منه في حق وطنه، فيضرم النار في كتبه الفرنسية، ويبول عليها، وهي إيماءة رمزية يريد بها أن يتطهر من عبث هذه الكتب بعقله ووجدانه.

والشخصية الرئيسية في رواية معمري التالية «الأفيون والعصا» (1965) طبيب جزائري يدعى «بشير» يترك حياة المدينة وبيئتها الأوروبية، لكي ينضم إلى المجاهدين في حرب استقلال الجزائر، وبذلك يتم الطلاق البائن بينه وبين الغرب.

محمد ديب

وكان مصرع ألبير كامي -الداعي إلى تعايش المستوطنين الفرنسيين والأهالي الجزائريين- في حادث سيارة مأسوي عام 1960، ثم اغتيال فرعون على يد المنظمة السرية للجيش الفرنسي في مارس (آذار) 1962، قبل إعلان استقلال الجزائر بأشهر قليلة، رمزين لنهاية حقبة وتبدد حلم التعايش بين الجزائر وفرنسا، وتمزق الأواصر بينهما على نحو آلم كثيراً من أصحاب الضمائر من الفريقين.

ولم تكن حرب التحرير هي ميدان المواجهة الوحيد بين فرنسا والجزائر، فقد كانت هناك أيضاً حرب اللغة: العربية في مواجهة الفرنسية. وتمثل هذا الصراع على أوضح الأنحاء في حالة مالك حداد (1927- 1978) الروائي الفرانكفوني صاحب المقولات المشهورة: «اللغة الفرنسية سجني ومنفاي»، و«اللغة الفرنسية تفصلني عن وطني أكثر من البحر المتوسط». وفي مقالته الطويلة المسماة «الأصفار تدور في حلقة مفرغة» (1961) (ترجمها إدوار الخراط إلى العربية) دعا أقرانه من الكتاب الجزائريين إلى اطراح اللغة الفرنسية أداة للتعبير، وذلك حتى تستكمل الجزائر استقلالها الثقافي عن فرنسا.

وإذ أدرك كتاب آخرون مثل كاتب ياسين (1929- 1989) أنه لا سبيل للوصول إلى جمهرة القراء بكتابة روايات فرنكوفونية، عمدوا إلى الكتابة للمسرح، مستخدمين لغة الناس العاديين، والعامية الجزائرية، مطعِّمين إياها بموروثات الثقافة الشعبية، ومدمجين الجمهور في العرض المسرحي، وبذلك رووا عطش الجمهور (وكثير من أفراده أميون لا يقرأون ولا يكتبون) إلى المتعة والمشاركة.

ونجد أن روائياً آخر هو رشيد بو جدرة (1941-) بعد أن كتب أعماله الأولى باللغة الفرنسية، فاجأ قراءه بأن أصدر في 1982 رواية باللغتين الفرنسية والعربية، هي «التفكك». على أنه ما لبث أن عاد إلى الكتابة بالفرنسية في تسعينات القرن الماضي، لا باعتبارها لغة المستعمر، وإنما باعتباره أقدر على التعبير بها.

والنتيجة التي تنتهي إليها زاهية صالحي، هي أن العلاقة بين الشرق والغرب علاقة معقدة وإشكالية. وتورد قول جبرا إبراهيم جبرا في مقالته عن «الأدب العربي الحديث والغرب» (1971): «العرب والغرب. إنها قصة طويلة معقدة، وكمثل القصص الجيدة المعقدة تشتمل على كثير من الصراع، كثير من الحب والكراهية. العلاقة قديمة قدم الإسلام: الانجذاب والنفور بينهما قد تعايشا جنباً إلى جنب أحياناً إلى درجة منتشية، وأحياناً إلى درجة فاجعة».

والكتاب إضافة علمية مهمة إلى جهود سابقة، مثل كتاب إبراهيم الكيلاني «أدباء من الجزائر» (دار المعارف، مصر، 1958)، و«موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين» (دار الحضارة، الجزائر، 2003)، ومواد الأدباء الجزائريين التي أسهم بها محمد حفيظ في «قاموس الأدب العربي الحديث» (إعداد وتحرير الدكتور حمدي السكوت، دار الشروق، القاهرة، 2009). والكتاب أيضاً مكمل لكتاب الدكتور رشيد العناني المهم «تمثيلات عربية للغرب: لقاءات الشرق والغرب في القصة العربية» (2006)، إذ على حين يركز العناني اهتمامه على أدباء المشرق العربي تركز زاهية صالحي اهتمامها على أدباء المغرب العربي، وبذلك تكتمل أركان الصورة ويحل –كما يقول التعبير الإنجليزي- لغز الصور المقطعة؛ إذ تسقط كل جزيئات الصورة في مكانها المعلوم.


مقالات ذات صلة

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

ثقافة وفنون جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

أكد البيان الختامي لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي اختُتم اليوم، إقامة مشروع بحثي فلسفي يدرس نتاج الفلاسفة العرب وأفكارهم وحواراتهم.

ميرزا الخويلدي (الفجيرة)
خاص فيروز في الإذاعة اللبنانية عام 1952 (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص «حزب الفيروزيين»... هكذا شرعت بيروت ودمشق أبوابها لصوت فيروز

في الحلقة الثالثة والأخيرة، نلقي الضوء على نشوء «حزب الفيروزيين» في لبنان وسوريا، وكيف تحول صوت فيروز إلى ظاهرة فنية غير مسبوقة وعشق يصل إلى حد الهوَس أحياناً.

محمود الزيباوي (بيروت)
خاص فيروز تتحدّث إلى إنعام الصغير في محطة الشرق الأدنى نهاية 1951 (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص فيروز... من فتاةٍ خجولة وابنة عامل مطبعة إلى نجمة الإذاعة اللبنانية

فيما يأتي الحلقة الثانية من أضوائنا على المرحلة الأولى من صعود فيروز الفني، لمناسبة الاحتفال بعامها التسعين.

محمود الزيباوي (بيروت)
خاص فيروز وسط عاصي الرحباني (يمين) وحليم الرومي (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص فيروز في التسعين... يوم ميلاد لا تذكر تاريخه

عشية عيدها الـ90 تلقي «الشرق الأوسط» بعض الأضواء غير المعروفة على تلك الصبية الخجولة والمجهولة التي كانت تدعى نهاد وديع حداد قبل أن يعرفها الناس باسم فيروز.

محمود الزيباوي (بيروت)
يوميات الشرق تمتدّ احتفاليّة منصة «أنغامي» الموسيقية بعيد ميلاد فيروز أسبوعاً كاملاً (أنغامي)

عمرٌ من ذهب... «أنغامي» تحتفي بفيروز

فيروز مكرّمةً على منصة «أنغامي» من خلال الإضاءة على محطات أساسية في مسيرتها الفنية، وأغنيات نادرة التداول.

كريستين حبيب (بيروت)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.