هل يتجاوز المثقف المتحول طبقياً جذوره الاجتماعية؟

ظاهرة برزت بين الفنانين والأدباء والمثقفين الذين عرفوا شهرة واسعة

فرنسوا دوبيه
فرنسوا دوبيه
TT

هل يتجاوز المثقف المتحول طبقياً جذوره الاجتماعية؟

فرنسوا دوبيه
فرنسوا دوبيه

في ظل الثورة التكنولوجية المعاصرة أخذ العالم يتغير بسرعة هائلة، وبدأت آثار هذا التغيير تظهر في المجتمعات المختلفة من خلال الظواهر الاجتماعية التي تحاول كسر وتجاوز البنى التقليدية في سبيل تحريك المجتمعات وتعديل الشروط المتحكمة في التوزيع الطبقي، وفي إمكان الانتقال من طبقة اجتماعية إلى أخرى، وبالتالي تغيير النظرة التقليدية إلى الصراع الطبقي. وعلى مثال ظاهرة التحول الجنسي التي برزت في بعض المجتمعات المعاصرة قد يمكننا الحديث عن ظاهرة التحول الطبقي التي شهدناها وما زلنا نشهدها من خلال مشاهير المثقفين والفنانين والسياسيين والخبراء الاقتصاديين ورجال الأعمال والرياضيين والعلماء وخبراء التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي والإعلام بكل مجالاته وغيرها من المجالات. ولكن ماذا نعني بالتحول الطبقي؟ إنه تعبير عن الحراك الاجتماعي والانتقال من بيئة أو طبقة اجتماعية متواضعة أو عادية إلى بيئة أو طبقة اجتماعية ميسورة ومشهورة بقوتها وثروتها وسلطتها. ولكن السؤال المطروح هو: هل يمكن للإنسان أن يتحرر كلياً من تحديداته الاجتماعية والثقافية والانتقال أو التحول كلياً إلى مستوى مختلف تماماً عن مستواه الأصلي؟ وأيضاً ما الذي يدعونا لطرح هذه المسألة؟ في الواقع، إن المجلة الفرنسية «Philosophie magazine» (مجلة الفلسفة) الصادرة في عدد أبريل (نيسان) 2023 طرحت هذا الموضوع في محور رئيسي، وكان الدافع باعتقادنا هو بمناسبة حصول الأديبة الفرنسية Annie Ernaux (آنّي إرنو) على جائزة نوبل في الآداب، وذلك لأن هذه الأديبة الشهيرة كانت قد نشأت في بيئة فقيرة ومتواضعة وأصبحت بمثابة متحولة طبقياً (transclasse). وكان السؤال الأساسي المطروح في عنوان المحور: هل نحن محددون بأصولنا الاجتماعية؟

ريمون بودون

في الواقع، إن حالة التحول الطبقي نشهدها في مختلف المجتمعات الغربية والشرقية، وبرزت بشكل أساسي بين الفنانين والأدباء والمثقفين الذين عرفوا شهرة واسعة بعد أن كانوا مغمورين في بيئاتهم الاجتماعية المتواضعة. ماذا يقول علماء الاجتماع حول هذه القضية؟ والسؤال المطروح حول هذه المسالة هو التالي: هل يجب أن يستند الترقّي الاجتماعي إلى الجدارة؟ عالم الاجتماع مايكل ساندل، يجيب بالنفي، وذلك لأنه يعد الجدارة بمثابة استبداد في كتابه تحت عنوان «استبداد الجدارة»، وذلك لأنه يعد أن فرص الميسورين عددها أكبر من فرص الفقراء في تحصيل الجدارة. أما عالم الاجتماع فرنسوا دوبيه (Dubet) فيجيب عن هذا السؤال بالإيجاب لأنه يعد أن الجدارة ليست بالتأكيد نسقاً كاملاً، ولكن ليس هناك أفضل أو أكثر عدالة منها، وهي حجر الزاوية في النظام التربوي.

وهناك سؤال آخر يمكن أن نطرحه: هل إعادة التناسل الاجتماعي تخدم الأقوياء والطبقات المسيطرة؟ إن عالم الاجتماع بيار بورديو يجيب بالإيجاب، وذلك لأن الأمور تجري كما لو أن ذلك يتم من خلال امتلاك الطبقات المسيطرة نموذجين من الرأسمال: الأول هو الرأسمال الاقتصادي الذي من خلاله يتم استغلال الطبقة العاملة، حسب كارل ماركس. أضف إلى ذلك أن الطبقة المسيطرة تمتلك أيضاً «رأسمالاً رمزياً» من خلال امتلاك القدرة على الولوج إلى عالم الفن والثقافة والتحكم بميدان المعرفة والعلم. وبالتالي، فإن الإرث الثقافي ينتقل إلى الأبناء من دون أي مجهود منهجي من قبلهم.

أما عالم الاجتماع ريمون بودون، فيجيب على السؤال المطروح أعلاه بالنفي، إذ إنه يعد أنه ليست هناك مؤامرة من قبل الطبقة المسيطرة ضد الطبقة الخاضعة. إذن، يمكننا القول إن بورديو يتبنى موقفاً حتمياً يفضح من خلاله بنيات السيطرة على المستوى الجمعي. وعلى العكس من ذلك فإن سوسيولوجيا بودون هي فردانية وتعطي القيمة «لاستقلالية الفاعل»، وبالتالي لأن على الفاعلين الاجتماعيين اتخاذ قرارات عقلانية. وبالتالي إن الأفراد يميلون إلى تجنب الانسلاخ عن طبقة أهلهم بأبخس الأثمان. ولكن تحليلات بودون تبدو متفائلة فيما يتعلق بموضوع المدرسة، إذ إنه يؤكد على أن حالات اللامساواة في ميدان التعليم تميل إلى التناقص، وذلك لأن كل جيل يجهد لأن يكون أفضل من جيل أهله. فإذا كان بودون على حق فإن هذا المنطق يدفع كل الناس إلى الأعلى مع بقاء إعادة التناسل الاجتماعي ولكن لمصلحة الأقل يسراً.

آنّي إرنو

وهناك مسألة أخرى تلعب دوراً أساسياً في عملية إعادة إنتاج البنى الاجتماعية ألا وهي مسألة الخجل. فما هو دور الخجل في عملية التحول الطبقي وفي محاولة خروج أفراد مميزين أو مشهورين من إطار عائلتهم أو بيئتهم الاجتماعية المتواضعة؟ حول هذه المسألة يقول كارل ماركس نعم إن الخجل يلعب دوراً محركاً للأفراد من أجل تجاوز أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المتواضعة، وذلك لأن الخجل بالنسبة إلى ماركس هو مفهوم ثوري حيث يقول: «إن الخجل هو بحد ذاته ثورة... إن الخجل هو نوع من الغضب، ذلك الغضب على الذات. وإذا كانت أمّة بكاملها تشعر بالخجل فقد تصبح كالأسد الذي يستجمع كل قواه كي يقفز بقوة». والفيلسوف الفرنسي فردريك غرو (Gros) يميز بين خجل الحزن وخجل الغضب. الأول يؤدي إلى الكسل والسكينة والطاعة. أما الثاني فيؤدي إلى تحمل المسؤولية وإلى التمرد لأنه يعي العنف البنيوي، ويعده غير مقبول، وبالتالي يندفع إلى الكفاح ضده. إن هذه التحليلات تبين التباس مفهوم الخجل الذي يتردد في مسيرة المتحولين طبقياً، حيث إن ذلك الآتي من أصل شعبي يشعر بضيق في صالون برجوازي أو في مواجهة قادة آخرين، ومع ذلك فإن الخجل هو أيضاً المحرك الذي يحرّض للوقوف بوجه اللامقبول. كل ذلك يدعو إلى فهم الشروط التي تجعل خجلاً فردياً يتحول إلى خجل جماعي وثوري.

وبالمقابل، إذا عدنا إلى تاريخ الفلسفة الحديثة نجد أن الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا، يعد الخجل بمثابة انفعال حزين وبائس. ففي كتابه «الأخلاق» (1677) نجد إحدى الحجج الأكمل ضد الخجل، حيث إنه يعد أن الخجل نوعٌ من الحزن البائس يولد في الإنسان عندما يرى أعماله محتقرة من قبل الآخرين. لذلك فإن سبينوزا يدعونا إلى التخلي عن الحزن لأننا في حالة الحزن نصبح عاجزين عن الفعل الإيجابي. ومشكلة الخجل تكمن في أنه يجعلنا متأثرين بنظرة الآخر إلينا. وهذا يعود إلى أن فلسفة سبينوزا هي فلسفة تؤمن بالحتمية.

إن الخارجين من طبقتهم الاجتماعية هم السوبر أبطال على الطريقة الفرنسية

الروائي الفرنسي نيكولا ماتيو

وفي نهاية هذا المقال المكثف، سوف نوجز وجهة نظر أحد المصنّفين كمتحول طبقي في فرنسا، وهو الروائي نيكولا ماتيو، حيث يقول رداً على السؤال: هل تعد نفسك متحولاً طبقياً (Transclasse)؟: «أنا أتساءل حول نجاح هذا المصطلح. إن الخارجين من طبقتهم الاجتماعية هم السوبر أبطال على الطريقة الفرنسية، إذ إن هناك نظرة أسطورية جمهورية حول الخارج عن طبقته ذلك الذي يتميز ويبدع في المدرسة ويلفت أنظار الأساتذة، والذي تحول فأصبح بمثابة (الرجل العنكبوت) بالنسبة إلينا. إن هذه الصورة يمكنها أن تسحر الجمهور. أما الناس فيرغبون بأن يتم وصفهم كمتحولين طبقياً. أما أنا فقد انتبهت بأنني خلال بعض المقابلات، ومن دون قصد كنت قد بالغت حول تواضع أصولي الاجتماعية. برأيي، إن الخارج عن طبقته هو بمثابة مونتي كريستو الذي يثأر من القدَر، الذي يمجد فكرة الصعود الاجتماعي من خلال الجدارة. ومع الأسف، في موضوع إعادة التناسل الاجتماعي فإن الشواذ لا يكسر القاعدة أبداً. ومن جهة أخرى أنا منزعج من استغلال المتحولين طبقياً لوضعيتهم، وذلك لأن هذه التسمية تحمل مخاطرة بالنسبة إلى الكاتب أو المثقف بشكل عام. على ذلك إن نيكولا ماتيو بالرغم من شهرته الواسعة لم يستطع أو لم يرغب تجاوز جذوره الاجتماعية وبقي على تواصل دائم مع بيئته».

أخيراً، يمكننا القول إن ظاهرة التحول الطبقي قد تكون إيجابية وسلبية في الوقت نفسه، وهذا يعود إلى غاية وشروط وظروف المتحول.


مقالات ذات صلة

السعودية تؤكد أهمية تضافر الجهود لترسيخ قيم التعاون والتعايش السلمي

الخليج نائب وزير الخارجية السعودي خلال إلقائه كلمة في المؤتمر العاشر لـ«تحالف الحضارات» المنعقد في العاصمة لشبونة (واس)

السعودية تؤكد أهمية تضافر الجهود لترسيخ قيم التعاون والتعايش السلمي

جددت السعودية، الثلاثاء، دعوتها لتكثيف التعاون بين الحكومات والمجتمع المدني والمؤسسات الثقافية والتربوية لترسيخ قيم التعاون والتعايش السلمي في الأجيال القادمة.

«الشرق الأوسط» (لشبونة)
يوميات الشرق يسعى مهرجان «بين ثقافتين» إلى إثراء المعرفة الثقافية عبر تجاربَ فنيّةٍ مبتكرة (الشرق الأوسط)

السعودية تحتفي بإبداعات الثقافة العراقية في مهرجان «بين ثقافتين»

تحتفي وزارة الثقافة السعودية بنظيرتها العراقية في النسخة الثانية من مهرجان «بين ثقافتين» خلال الفترة من 18 إلى 31 ديسمبر (كانون الأول) المقبل في الرياض.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق عزفت "الأوركسترا السعودية" أروع الالحان الموسيقية في ليلة ختامية استثنائية كان الابداع عنوانها (واس)

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

عزفت «الأوركسترا السعودية» أجمل الألحان الموسيقية في ليلة ختامية كان الإبداع عنوانها على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي مع توشيكو آبي وزيرة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتقنية في اليابان (الشرق الأوسط)

الرياض وطوكيو نحو تعاون أعمق في مختلف المجالات الفنية والثقافية

تهدف «مذكرة التفاهم» إلى تعزيز التعاون والتبادل الثقافي بين الرياض وطوكيو واليابان في مختلف القطاعات الثقافية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
المشرق العربي مبنى مقر «اليونيسكو» في باريس (رويترز)

«اليونيسكو» تعزز مستوى حماية 34 موقعاً تراثياً في لبنان

أعلنت «اليونيسكو» أنها منحت عشرات المواقع التراثية المهددة بالغارات الإسرائيلية في لبنان «حماية مؤقتة معززة»، لتوفر لها بذلك مستوى أعلى من الحماية القانونية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.