مهرجان «دواير» ينعش الحياة الثقافية في العاصمة المصرية

معارض متنوعة للكتب وندوات أدبية وورش عن الكتابة والسينما

من فعاليات المهرجان( الشرق الأوسط)
من فعاليات المهرجان( الشرق الأوسط)
TT

مهرجان «دواير» ينعش الحياة الثقافية في العاصمة المصرية

من فعاليات المهرجان( الشرق الأوسط)
من فعاليات المهرجان( الشرق الأوسط)

انطلقت في العاصمة المصرية القاهرة فعاليات الدورة الأولى لمهرجان «دواير» الثقافي، الذي تنظمه دارا «ديوان» و«تنمية» للنشر والتوزيع بمشاركة واسعة لمثقفين وأدباء وشعراء وكتاب سيناريو ومخرجين سينمائيين. وتشهد الفعاليات التي تستمر حتى 15 يوليو (تموز) مشاركة 25 دار نشر عربية ومصرية، كما تتضمن العديد من الأنشطة المختلفة منها 4 ورش عن الكتابة الإبداعية والسينمائية، و18 ندوة تتنوع بين مناقشات الكتب واللقاءات المفتوحة مع الأدباء والسينمائيين فضلاً عن الندوات المتخصصة، كما يتضمن المهرجان معرضاً لأحدث الكتب التي صدرت عن دور نشر مصرية وعربية، بالإضافة إلى معرض خاص للكتاب المستعمل، يضم ما يزيد على 3 آلاف كتاب في مختلف المجالات.

وبحسب منظمي المهرجان، فإن هذا الحدث الذي يقام بسينما «راديو» بمنطقة «وسط البلد» يمثل فرصة مهمة للحوار حول قضايا الفكر والإبداع، كما يعد الأول من نوعه لتعزيز القيمة الإبداعية لمنطقة «وسط القاهرة الخديوية»، بما تمثله من عراقة وحضور في الذاكرة. ويهدف المهرجان إلى تحفيز التواصل المباشر والتفاعل بين مختلف «الدوائر» الثقافية، وشحذ الاهتمام بالقراءة والثقافة في العموم. وتنصب رؤية المنظمين على توسيع نطاق المعرفة وإبراز قيمة الثقافة في تكوين الوعي، وكذلك تحفيز الإبداع على مختلف المستويات.

شهد حفل الافتتاح الذي قدمته الإعلامية السورية ألما كفارنة تكريم الفنانة منة شلبي عن أعمالها المأخوذة عن نصوص أدبية مثل مسلسلي «واحة الغروب» المأخوذ عن رواية بنفس الاسم لبهاء طاهر، و«في كل أسبوع يوم جمعة» عن رواية إبراهيم عبد المجيد. وقالت منة شلبي إن سعادتها بهذا التكريم لا توصف لأنها للمرة الأولى في مسيرتها التي يتم تكريمها من مهرجان ثقافي وليس سينمائياً أو درامياً.

وأشارت نهال شوقي، رئيس مجلس إدارة دار «ديوان»، في كلمتها إلى أهمية استعادة حيوية العمل الثقافي من خلال مبادرات المجتمع المدني وعبر تضافر جهود مختلف الأطراف من مبدعين ومؤلفين وناشرين ورعاة للفعاليات الأدبية، مشيرة إلى أن الفعل الثقافي يعتمد في جوهره على تداخل العديد من «الدوائر» المختلفة.

وحول خصوصية وحضور منطقة «وسط القاهرة» في المشهد الثقافي المصري، أوضح الكاتب والإعلامي عمرو خفاجي أن تلك المنطقة شهدت ندوات لنجيب محفوظ بمقهى «ريش» كما استقبلت أجمل المواهب القادمة من الأقاليم البعيدة مثل الشعراء عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل وعبد الرحيم منصور من الجنوب، فضلاً عن الناقد جابر عصفور والمفكر ناصر حامد أبو زيد والقاص سعيد الكفراوي القادمين من مدينة «المحلة»، لافتاً إلى وجود كيانات هامة بها مثل «أتيليه القاهرة» وندوات المثقفين يوم الثلاثاء، وكذلك مكتبة «مدبولي»، مما ساعد على خلق تيارات من الوعي. وأكد خفاجي أن «وسط البلد» سيظل من الأماكن التي تحرك الدوائر الثقافية في مصر وتستقبل كل الأدباء من مختلف الأرجاء.

جاء ذلك خلال ندوة «تاريخ وتطور الفعاليات الثقافية»، حيث أثنى الناشر ورئيس «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» فريد زهران على جهود المؤسسات المستقلة في إثراء الحياة الثقافية، وقال إن هذا المهرجان يؤكد على إمكانية نجاح تلك المؤسسات في تنظيم وخلق أحداث مهمة. وأشار «زهران» إلى أنه من المؤمنين بأهمية وثقل القاهرة على كل الأصعدة، وخاصة المجال الثقافي، فهذه العاصمة هي مركز الحياة الثقافية عربياً لأسباب تاريخية وثقافية.

واستعاد الروائي إبراهيم عبد المجيد ذكرياته حول «شغف الكتابة» في ندوة بالعنوان نفسه، مشيراً إلى أنه روى طرفاً من تلك الذكريات في كتابين هما «ما وراء الكتابة» و«أيامنا الحلوة». ولفت إلى أنه رفض العمل في الصحافة حتى يصبح حراً ومتفرغاً للكتابة الإبداعية، وأضاف: «كنت على علم بأن الذاكرة ستحضر لي ما نسيته، فالنسيان هو الذاكرة الحقيقية». وأكد أنه حين يكتب لا يفكر في أحد ولا يهتم سوى بالصدق الفني، فالكتابة هي التي تفرض نفسها. وتابع: «اليوم الشغف هو شغف التسليع، وهو ما لم يكن موجوداً في زمني». ورداً على سؤال حول بعض طقوسه في الكتابة، أوضح عبد المجيد أنه يستمع إلى الموسيقى العربية والكلاسيكية في أثناء كتاباته الإبداعية، ودونها لا يكتب. كما أن شغفه بشخصيات رواياته يصل به لدرجة بحثه عنهم في الشوارع، لذلك فهو يرى أن عالمه الروائي هو العالم الحقيقي.

ولفتت الكاتبة الصحافية عبلة الرويني إلى أن هناك اختلافاً في معنى الشغف، فهي ليست روائية وإنما كاتبة، وشغف الكتابة الإبداعية يختلف عن الكتابات الأخرى، وتساءلت: «في النهاية كل كتابة هي شغف وإلا فما جدوى الكتابة؟»، وقالت: «لا يوجد لديّ شغف بفعل الكتابة في ذاته، لأنه مشقة وجهد وقلق فهي حالة مزعجة لكنها تنقل الشغف لنوع من المسئولية. فالاهتمام ليس بفعل الكتابة وإنما بمعنى الكتابة ورسالتها، فالكتابة مسئولية يجب أن يكون الكاتب على قدرها».

وحول تجربته مع الكتابة، أوضح الروائي عزت القمحاوي أنه سبق وتساءل منذ 20 عاماً بشكل ساخر، إذ افترض أن الكُتَّاب فئة من المختلين نفسياً، فلماذا يحاول إذن أن يكتب، ويضع نفسه في هذا الاختبار، وهو في وسعه أن يكون قارئًا فحسب؟ وأضاف: «كان هذا تساؤلاً ساخراً لكن مع الوقت زاد اقتناعي أن المبدع غالباً ما يعاني من إعاقة ما، فهو لديه شعور أنه غير مفهوم، ويريد أن يكون مفهوماً، وبالتالي يكتب بشراهة ليحقق ذلك». وأوضح أنه بمجرد أن ينتهي من كتابة عمل يشعر أنه فرغ تماماً دون أن يحقق ما كان يراه، وبهذا الإحباط يبدأ في كتاب جديد.

ومن جانبه، أشار الروائي حمدي الجزار إلى أن ما كان يفتح شهيته للإبداع القراءة والاطلاع، خاصة في الأدب والفلسفة والتاريخ، وكذلك المشي المستمر في أحياء القاهرة بأوقات مختلفة، وكلا الفعلين أديا به إلى الكتابة. ولفت إلى أن محبته للقصة والمسرح والسينما حفزته لأن يصنع جمالاً مشابهاً، وولعه بالمشي في شوارع القاهرة هو ما خلق لديه الرغبة في محاولة تصويرها والتعبير عنها.

وفي ندوة حول «الكتابة الذاتية» رأت الشاعرة إيمان مرسال أن تصنيف الكتابة إلى كتابة ذاتية غير تخييلية، وأخرى تخييلية تبتعد عن الذات هو تصنيف إشكالي، فمثل هذه التصنيفات ما بين تخييلي وغير تخييلي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وكتب عنها الكثير من الأدباء، في حين أن أحد مميزات الأدب العربي القديم أن مفهومه كان أوسع لدى العرب كثيراً من مفهومه في البلاد الغربية، إذ كان مفهوم الأدب يضم الذاتي وإنتاج المعرفة في آن.

وضربت إيمان مرسال مثالاً بما حدث حتى نهايات القرن التاسع عشر في مصر ولبنان وفلسطين، حيث كان يُحتفى بفكرة إنتاج المعرفة، مستشهدة بكتاب بعنوان «روضة النجاح الكبرى في العمليات الجراحية الصغرى»، الذي كتبه محمد بن علي بن محمد البقلي، وهو جراح سافر إلى أوروبا أثناء النهضة التعليمية والبعثات التي أرسلها محمد علي في القرن التاسع عشر، فروى في البداية حكايات عن نفسه ورحلاته ثم تدوين علمه. هذا المثقف حاول إيجاد لغة يشاركنا فيها معرفته. وأضافت: «كان لدينا في الأدب العربي شيء جميل لكن لم نستطع مشاركته مع العالم».

وخلصت إيمان مرسال إلى أن معظم الجدل الذي أثير حول كتابات ذاتية كان لكاتبات، المشكلة نابعة من المشهد الثقافي نفسه وليس خارجه، أكثر من ينتقد كتابة امرأة عربية هو كاتب زميل، فالمشكلة أو الصراع آيديولوجي وثقافي.

واعتبرت الروائية ميرال الطحاوي أن التعبير عن الذات فاضح، كما لا يمكن إنكاره فيما بعد، فالناس تستشعر صدق التجربة من عدمها، مشيرة إلى أنها كانت تعتقد أن التمويه في الكتابة عبقرية، لكن اتضح أنه كلما حاولنا الابتعاد عن الذات في الكتابة انجذبنا أكثر كما المغناطيس.

ويحظي المهرجان بحضور ثقافي كبير، وشدد الكاتب والسيناريست محمد هشام عبية على أن المهرجان مبادرة شجاعة في كل شيء، أولاً في كونها مبادرة ثقافية بالأساس معنية بالكتب والتفاعل بين الكتاب والفنانين والمثقفين والجمهور، وثانياً لأن توقيتها في ذروة شهور الصيف، وهي شهور غالباً ما تقل فيها الأنشطة الثقافية ومعارض الكتب بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وأخيراً لأنها مبادرة من كيانات غير حكومية.

ورأى الكاتب الصحافي سيد محمود أن جزءاً كبيراً من أهمية مهرجان «دواير» يتمثل في استعادة حيوية منطقة وسط البلد بوصفها فضاءً ثقافياً لم يعرف مهرجانات وأنشطة ثقافية مصرية كبرى منذ فترة ليست بالقليلة، لافتاً إلى أن اختيار سينما راديو بكل حمولاتها التاريخية كمكان وقفت أم كلثوم على خشبته لتكون مكان انعقاد هذا الحدث له دلالة مهمة تتمثل في توظيف الإمكانات الثرية لتلك المنطقة.


مقالات ذات صلة

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق لوحة ألوان زاهية (أ.ف.ب)

مناطيد الهواء الساخن تُزيِّن سماء النيبال

أطلقت بوخارا أول مهرجان لمناطيد الهواء الساخن يُقام في النيبال، إذ تحوّلت سماء المدينة لوحةً من الألوان الزاهية ضمن مشهد شكّلت ثلوج قمم «هملايا» خلفيته.

«الشرق الأوسط» (بوخارا (النيبال))
يوميات الشرق حوار ثقافي سعودي عراقي في المجال الموسيقي (وزارة الثقافة)

«بين ثقافتين» التقاء الثقافتين السعودية والعراقية في الرياض

يقدم مهرجان «بين ثقافتين» الذي أطلقته وزارة الثقافة في مدينة الرياض، رحلة ثريّة تمزج بين التجارب الحسيّة، والبصريّة.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق لقطة من فيلم «شرق 12» (الشركة المنتجة)

الفيلم المصري «شرق 12» يفتتح «أسبوع النقاد» في «مهرجان برلين»

عُرض «شرق 12» في السعودية والبرازيل وأستراليا والهند وشاهده جمهور واسع، ما تراه هالة القوصي غاية السينما، كونها تملك هذه القدرة لتسافر وتتفاعل مع مختلف الثقافات

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق المخرج شريف البنداري يتسلم جائزة «التانيت الفضي» لأفضل فيلم قصير (إدارة المهرجان)

السينما المصرية تقتنص 3 جوائز في «أيام قرطاج»

فازت السينما المصرية بـ3 جوائز في ختام الدورة الـ35 لـ«أيام قرطاج السينمائية» التي أقيمت مساء السبت على مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة بتونس.

انتصار دردير (القاهرة )

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «البيدوفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي