تُعدُّ معاجم الرِّجال، أو تراجم الرِّجال أو الطَّبقات، أو الوفيات، أو الكتب التي عرفت بالفهارس، أحد أقدم مجالات التَّأليف وأهمها، في دراسة التَّاريخ، ويصعب تحديد الأقدم في هذا الضَّرب مِن التَّأليف، لكنْ يبقى الخطيب البغداديّ (ت: 463هـ) صاحب ابتكار في تقديم تاريخ البلدان مِن تراجم شخوصها، وعلى هذا صَنف «تاريخ بغداد»، ثم تبع أسلوبه ابن عساكر (ت: 571هـ) في تصنيف «تاريخ مدينة دِمشق»، أمَّا في الطَّبقات فيصعب تحديد مؤرخٍ أقدم مِن طبقات خليفة بن الخياط (ت: 240هـ)، وطبقات ابن سعد (ت: 230هـ)، وظهرت كُتب عديدة تختص بطبقات شريحة مِن المؤلفين، أو طبقات مذهب مِن المذاهب، أو ضرب مِن ضروب التخصص،
مثل: «طبقات النّحاة»، و«طبقات القراء»، و«طبقات النَّحويين»، ومعجم مثل «رجال الحديث»، و«الضعفاء مِن الرّجال»... إلخ.
بيد أنَّ هناك مَن جعل معجمه شاملاً، وكل معجم يحوي ما ورد في السَّابق وزاد عليه، لذا تجد «سير أعلام النبلاء» لشمس الدِّين الذَّهبيّ (ت: 747هـ)، أوسع مِن «وفيات الأعيان» لابن خِلكان (ت: 681هـ)، ومرآة سبط ابن الجوزي (ت: 654هـ) أوسع من تاريخ الرّجال في منتظم جده أبي الفرج بن الجوزيّ (ت: 597هـ)، ووافي صلاح الدّين الصَّفديّ (ت: 768هـ) أوسع مِن السَّابقين.
جاء بعد الطّبقات التَّأليف في تتماتها أو ذيولها، أيّ يبدأ المتأخر حيث انتهى المتقدم، وهي كثيرة، مثل «ذيل مرآة الزَّمان» لقطب الدِّين اليونينيّ (ت: 726هـ)، وهذا جرى في كتب التّاريخ أيضاً، مثل «تاريخ الأمم والملوك» لأبي جعفر الطّبريّ (ت: 310هـ) وذيوله: «صلة تاريخ الطَّبري» لعريب بن سعد القرطبي (ت: 369هـ)، و«تكملة تاريخ الطَّبري» لمحمد بن عبد الملك الهمذاني (ت: 521هـ)... إلخ.
ليس موضوعنا تاريخ معاجم الرّجال، وتاريخ كتابة التَّاريخ، فهذا يذهب بنا بعيداً عمّا قصدناه في هذا المقال، إنّما أردنا القول إنْ ما قام به محمَّد خير رمضان يوسف في تأليف «تتمة الأعلام للزِّرِكليّ» (وفيات 1976 - 1995)، كان سائداً عند القدماء، فقد بدأ حيث انتهى خير الدّيِن الزِّركليّ (ت: 1976) في كتابه «الأعلام» (قاموس تراجم لأشهر الرِّجال والنّساء مِن العرب والمستعربين والمستشرقين).
شَرع الزِّركلي في تأليف قاموسه في عام (1912)، وأصدره بثلاثة مجلدات في عام (1927)، وظل يعمل مضيفاً إليه، حتّى أتم إنجازه في (1952) واستمر طبعه بعشرة مجلدات (بين 1954 - 1959)، وحسب مقدمة هذه الطبقة أنّه صرف في «الأعلام» أربعين عاماً مِن عمره، خلا منها فترات إجازة أو قضاء مهمة. طاف على المكتبات والمتاحف والمكتبات الشّخصيَّة، ووجد باحثين لم يتعاونوا معه فسمَّى هذا الظاهرة بـ«خلاقيَّة غير مرضيَّة»، وكان في نيته ضم الأحياء مِن الأعلام، لكنه وجد أنَّ الحيّ يزيد وينقص ويتغير، وقد أراده تراجم ثابتة، وهذا لا يتحقق إلا للأموات، لذا صرف فكرة ضم الأحياء له.
جعل الزّرِكليّ قاموسه «الأعلام» حاوياً لتراجم سابقة، وأردفه باللاحقين مِن العصور المتأخرة، جعل تسلسل الأسماء على الحروف والتَّواريخ، مِن الأقدم إلى الأحدث. زيَّن كتابه بالصُّور، ومَن لم يجد له صورة استعان بصورة خطه، وله القول: «الخط في الأحايين ينوب عن الصُّورة الشَّخصيَّة». إنَّ ما عمله هذا السُّوريّ الأبوين والنشأة، اللبنانيّ الولادة، لا أظن باحثاً أو طالب معرفة استغنى عن كتابه، وإنْ لم يُدرجه في المصادر في أحايين كثيرة، فإضافة إلى تراجم الرّجال وتواريخ وفياتهم، وثَّق لكلِّ مترجم بالمصدر، وبهذا أفاد الكثيرين، وجعله القليلون ضمن ثبت مصادرهم ومراجعهم. ولأنه دائم البحث جعل المجلد العاشر مستدركاً، أدخل فيه تعديلاً في ترجمة شخصية ما، أوما فاته ترجمته، وختمه بسيرته الذَاتية الغنية.
حذا الزّركليّ حذو المعتدلين مِن القدماء في تراجم أو طبقات الرّجال، لا يضعون حكماً، ولا يتبنون فكرةً، وفي مقدمتهم يأتي القاضي ابُن خِلّكان في «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزَّمان»، لذا تجد صاحب «البداية والنّهاية» ابنُ كثير ينتقده لمجرد عدالته، فيقول فيه لأنه كان محايداً في ذِكر ابن الرّاونديّ (ت: نحو 245هـ): «وَقَدْ ذكره ابن خِلكان في الوفيات، وقلس عليه، ولم يخرجه بِشَيْءٍ، وَلا كَأَنَّ الكَلْبَ أكَلَ لهُ عَجِينًا، عَلَى عَادَتِهِ فِي العُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، فَالشُّعَرَاءُ يُطِيلُ تَرَاجِمَهُمْ، وَالْعُلَمَاءُ يَذْكُرُ لَهُمْ تَرْجَمَةً يَسِيرَةً، وَالزَّنَادِقَةُ يترك ذكر زندقتهم» (ابن كثير، البداية والنهاية). أراد ابن كثير (ت: 774هـ) مِن ابن خِلكان أنْ يقول ما قاله هو بابن الرّوانديّ: «المُلْحِدِ الْجَاهِلِ السَّفِيهِ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ» (البداية والنِّهاية). بينما ابن خِلكان كان معرفياً في ترجماته، وليس قاضياً أو حاكماً، مع أنّه كان قاضياً مِن المخلصين للمذهب الشَّافعي، لكنه كمؤلف يضع العقيدة والموقف جانباً، ويتعامل بالمعرفة، والأخيرة لا تُنال إلا بالحياد.
هذا ما فعله متمم الأعلام للزّركلي، تبنى موقف ابن كثير، وانتقد الزّركليّ على علميته المعرفيّة، وتجنبه للموقف العقائديّ، فلو مررت على التّراجم التي ترجم لها في أعلامه ستجد الصّفحات ملأى بالحياد، لا يعطي رأياً بشخص غير ذكر أعماله وسنوات حياته ومماته، مِن دون حكم، والسَّبب أن الزّرِكليّ ليس حزبياً، إنما كان باحثاً، ولا يُسقط البحث إلا التَّعصب والانحياز. فنجده قد أتى بالقصة ذاتها، عاتباً على الزّركليّ أنه لم يتخذ موقفاً ممِن ترجم له.
يرى محمَّد خير يوسف، بنفس إخواني واضح، صاحب الأعلام، أنّه اعترف بالدَّولة الوطنيَّة، يُفهم ذلك مما قاله في مقدمة «التَّتمة»: «وإذا كان مأساة الحدود والانفصال واقعة، بين العرب وإخوانهم المسلمين، فماذا يُقال فيما هو كائن بين العرب والعرب؟ إنه الألم الذي يعصر قلبي، كُلما بينتُ اسم دولة المُترجم له بحدودها الاستعماريَّة، وما كاد هذا الألم يُغادر قلبي في كلّ بيان أذكره في التَّرجمة». أيّ أنه يريدها «خلافة إسلاميَّة»، على نهج الإخوان، ولا اعتراف بالدول الوطنيَّة، لذا تجد الكثيرين قد جردهم مِن الانتماء الوطنيّ عند التَّرجمة لهم.
لم يكن عادلاً ومحايداً في التَّراجم، فعندما يضطر إلى ذِكر اللبناني حسن حمدان، المشهور بمهدي العاملة (اغتيل: 1987)، ذكره بسطور قليلة، ولم يذكر اغتياله ولا شيء عن سيرته، بينما يتوسع عن اغتيال أحد الإسلاميين، ويستغرق الحديث عنه صفحتين أو ثلاث، وهذا ما فعله مع كل «مجاهد» مِن «مجاهدي أفغانستان»، أو شخصية إخوانية، ويسبق حديثه عنهم بألقاب التّبجيل.
تجده عندما يذكر ذي الفقار بوتو (أعدم: 1979) لا يتردد مِن ذِكر عبارة «المجرم الرّئيسي»، ويذكر فرج فودة (اغتيل: 1992) بما يوحي للقارئ أنّه كان يستحق القتل، وأنه كان كذاباً ومراوغاً، يدعو للتعايش مع إسرائيل، ويفخر أنه صديق سفير الصهاينة، وكان عدواً للإسلام، ويُبجل الذي شهدوا لصالح قتلته، وهم مِن الإخوان المسلمين. عندما يذكر آية الله الخميني (ت: 1989) يجعله كان ضد «الشّاه العلمانيّ المرتبط بالغرب»، أيّ يعطي تصوراً بأن ذلك العلماني يستحق الثّورة ضده.
صاحب «تتمة الأعلام» يريدها «خلافة إسلاميَّة»، على نهج الإخوان، فلا اعتراف بالدول الوطنيَّة
عندما يأتي بترجمة الإخواني عبد الله عزام (اغتيل: 1989)، يلقبه بأمين المجاهدين، ويفرد صفحات لسيرته ومناقبه، كذلك يجعل عنوان «الشّاب المجاهد الشّهيد» لخالد معلا الأحمديّ (1089)، بينما عندما يذكر رشاد خليفة المصري (اغتيل: 1990)، ينعته بمدعي النبوة والبهائيّ، وأنه «كان معروفاً منذ الصّبا بسوء الخلق». كذلك الحال عندما يذكر الشّيخ محمد محمود طه (أعدم: 1985) حسبه كان مدعياً للنبوة، وذكره «المقتول مرتداً»! والرجل كان صائماً مصلياً. بينما عندما يذكر إخوانياً، ولا ينسى مفردة «الشّهيد» أمام حسن البنا كلما ورد اسمه، يقول فيمَن ترجم لهم مِن الإسلاميين: «وكان قوياً لا تأخذه في الله لومة لائم»، والثّناء والإطراء كان مِن حصة قاتل الرَّئيس أنور السَّادات (1981) خالد الإسلامبولي.
ما يهمنا في الأمر، أنَّ صاحب تتمة الأعلام، مِن المفروض، وقد قبل إكمال ما بعد صاحب الإعلام، عليه الالتزام بأسلوبه، ولا يبني على كتابه ما يشوه عبارته، أو كان عليه أنْ يستقل ويكتب في طبقاته ما يشاء. مع علمنا أنَّ الكتابة في تراجم الرّجال وطبقاتهم تحتاج إلى العدالة، والعدالة لا تتحقق إذا لم يكن الحياد أُسها.
ولسنا مدافعين هنا عن ابن خِلكان والزِّركليّ، الرَّجل الذي خبر الدُّنيا طولاً وعرضاً، إنما هذا هو المنهج، فيصعب على الباحث الجاد اعتماد معلومة وردت مِن منحاز، لا يعرف قاموسه معنى الحياد. هذا هو الفارق بين الأعلام للزِركلي (آخر جزء طبعه: 1959 القاهرة: مطبعة كوستا توماس) وتتمة الأعلام (بيروت: دار ابن حزم 2002) لمحمد خير رمضان يوسف.