سعيد خطيبي: أكتب لأروّض التاريخ وأستمد منه الحكايات

الروائي الجزائري يقول إن أسئلة الهوية واللغة تشكل ضغطاً على الأدب في بلاده

سعيد خطيبي
سعيد خطيبي
TT

سعيد خطيبي: أكتب لأروّض التاريخ وأستمد منه الحكايات

سعيد خطيبي
سعيد خطيبي

برغم قلة ما صدر له من أعمال روائية، فإنه لفت النظر إليه باعتباره أحد أكثر الأصوات الموهوبة من الجيل الجديد في المشهد الثقافي الجزائري. يركز سعيد خطيبي على العودة إلى التاريخ الحديث فهو وسيلته المفضلة لمساءلة الحاضر سياسياً ومجتمعيا. فازت روايته الجديدة «نهاية الصحراء» بجائزة «الشيخ زايد» في الأدب هذا العام، وسبق أن فاز بجائزتي «كتارا» و«ابن بطوطة» كما وصلت روايته «حطب سراييفو» إلى القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» للرواية العربية. وهو يحمل شهادة على ماجستير في الدراسات الثقافية من جامعة السوربون، ويعمل بالصحافة والترجمة ويكتب في أدب الرحلة أيضاً... هنا حوار معه حول تجربته الروائية:

* بداية تبدو «نهاية الصحراء» عملاً بوليسياً ينتمي لأدب الجريمة لكن مع القراءة المتعمقة يتبين أن النص يحفر في التاريخ المنسي سياسياً واجتماعياً للجزائر في الثمانينات... هل كانت الحبكة البوليسية مجرد حيلة لاستدراج القارئ؟

- الجريمة الحقيقية وقعت في حقّ التّاريخ. في الرّواية جثتان، الأوّلى لشخصية «زازا»، والثّانية جثة بلد. شرعت في كتابتها بنية الكتابة عن رّبع القرن الأوّل من الاستقلال، وصولاً إلى أحداث 5 أكتوبر 1988، حين خرج الناس إلى الشّارع يشتكون الجوع وخيبتهم مما يحصل. ربع قرن كانت كافية كي نكتشف أعطاب التاريخ. إن الاستعمار خرج لكننا لم نبنِ بلداً، لأننا اشتغلنا بخصومات داخلية وصراعات من أجل السّلطة، بينما الشعب ظل على دكة الانتظار. الشّعب هو الذي قام بحرب التّحرير وهو الذي سوف يفضح فشل مشروع الاستقلال. كيف نكتب عن بلد كان يسير صوب هاوية؟ الحبكة البوليسية فرضت نفسها. كتبت عن ذلك الهامش من الحياة الجزائرية، عن أشخاص نسمع عنهم لكن لا صوت لهم. لم يكونوا من المثقّفين ولا من المقرّبين من السلطة. يعيشون في عزلة. يتكفّلون بالبحث عن الجاني في مقتل المغنية «زازا» قبل أن يتبيّن لهم أنّهم بصدد البحث عمن خنق بلدهم.

* ما الذي استفزك في تاريخ الجزائر في حقبة الثمانينات وأردت الكشف عنه رغم أنك من مواليد 1984 وما علاقة ذلك بما تردده حول وجوب «ترويض التاريخ»؟

- تاريخ الجزائر حقيبة أسئلة. المجهول منه أكثر من المعلوم. ما يحصل في الجزائر يحصل في بلدان عربية أخرى، حيث هناك من يستفرد وحده بكتابة التّاريخ، وصار المؤرّخ موظفاً متنازلاً عن حريته. لذلك أكتب، والكتابة تستدعي ترويض هذا التاريخ الرّسمي، عدم السّقوط في اليقينيات. ولا أدّعي امتلاك الحقيقة، بل أكتب دفاعاً عن حقي في الخطأ. أكتب تخييلاً، وليس شيئاً آخر، مقتنعاً بأن الخطأ يقرّبنا من الحقيقة. لم يعد بوسعنا سوى اللجوء إلى الرّواية قصداً لتحقيق مصالحة تاريخية عجزت عنها المؤسسة الرسمية. حقبة الثّمانينات هي أكثر فترة حرجة من تاريخ الجزائر. مع صعود البرجوازيات الجديدة وما ترتب عليها من صراعات اجتماعية، تراجع السّلطة المركزية عقب انهيار أسعار البترول، وبالتّالي ضعف الدولة، مما أدّى إلى صعود خطابات راديكالية. حقبة الثّمانينات شهدت انقلاباً لم ننتبه إليه، بنهاية زمن (المجتمع) وسطوع فكرة (الفردانية)، هذه الحقبة سوف تنتج عنها عشر سنوات من حرب أهلية في التّسعينات، مع توسّع التّطرف الدّيني، الذي صاغ خطاباً تكفيرياً يبيح الموت والدّم.

* في روايتك «حطب سراييفو» تنتقل إلى جغرافيا ومأساة أخرى، لكن يبدو أنك لم تغادر الجزائر تماماً... فهل كتبت هذا العمل وعينك لا تزال فعلاً على وطنك؟

- كتبت في «حطب سراييفو» عما وقع في البوسنة والهرسك في تسعينات القرن الماضي، وهي أحداث تتشابه مع ما وقع في الجزائر في الحقبة عينها. أقمت في سراييفو – بضعة أشهر - وشغلتني التّشابهات التّاريخية بينها وبين الجزائر، لا سيما في العنف الذي تعرّضت له. كتبت عن بلدين جمعت بينهما ذاكرة ممزّقة. ما وقع في التسعينات لم ينتهِ. لا يزال التّطرّف حاضراً في المدرسة كما في المسجد، في الكتب كما في التّلفزيون. هنالك ابتذال في ممارسة عنف معنوي ضدّ المرأة، وفي تكفير الكاتب أو الفنان لذلك لا أكتب عن التاريخ من موقع المؤّرخ، الباحث عن استعادة كرونولوجيا، بل أستعير منه حكاياته كي أسرد ما يحصل أمام عيني.

* في روايتك «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» ثمة محاولة لإحياء سيرة واحدة من الشخصيات التاريخية الأكثر إثارة للجدل، وهي الكاتبة والرحّالة السويسرية إيزابيل إيبرهارت التي عاشت جزءاً من حياتها القصيرة في الجزائر، ما سبب اختيارك تلك الشخصية؟

- علاقتي بإيزابيل إيبرهارت بدأت في سنّ مبكرة كعلاقة شخصيّة. فقد سبق لها أن أقامت في مدينة بوسعادة، في بيت جنب بيتنا. ولا تزال الألسنة تحكي حكايتها. قبل أن أكتب عنها رواية، طالعت كلّ أعمالها، من قصص ويوميات. كتبت عنها أكثر من مقال واستطلاع مطوّل يقتفي رحلتها في الصّحراء. شعرت أن من المنطقي أن أستعيد سيرتها بشكل متخيل، بالأحرى سيرة موازية لها، لأنّها تمثل تناقضات الزّمن الذي نعيش فيه: أجنبية في مجتمع مغلق، امرأة في مجتمع ذكوري، على سبيل المثال لا الحصر. كانت أول أجنبية تتعلّم العربية في الجزائر ثم تكتب بها. كونها امرأة فقد كانت ولا تزال عرضة للتشويه، من طرف مؤسسات أكاديمية باتت تمارس قراءات دينية للأدب، رغم أن عاشت بين الأهالي ودافعت عنهم. يسعدني أن هذه الرّواية صارت مرجعاً في الدّراسات ما بعد الكولونيالية، في الجزائر وخارجها. لست أدافع عن إيزابيل إيبرهارت، لكن يهمّني هذا النّقاش الذي لا يزال يدور حولها حتى اليوم.

* هل لجوؤك للتاريخ بمثابة هروب من الواقع؟

- أنا لا أهرب من الواقع، بل إنني في اشتباك دائم معه. لا ألجأ إلى التاريخ بقصد الهروب من رقابة أو تفادياً لممارسة رقابة ذاتية على كتابتي، بل التاريخ هو نافذة أطلّ منها على يجري من حولي. في الجزائر أشعر أنه لا يمكننا الحديث عن حاضر ولا عن مستقبل، بحكم أننا نعيش في حلقة من التّكرار. أحداث ووقائع تعيد نفسها كلّ مرّة. نعيش في ماضٍ مستمرّ. لم نتخلّص من علاقتنا المرضية به.

* العام الحالي يشهد مرور 100 عام على صدور أول رواية جزائرية مكتوبة باللغة الفرنسية، إلى أي حد لا يزال «سؤال الهوية» وثنائيتا «الفرنسية والعربية» و«الاستعمار ولاستقلال» عناصر ضاغطة في المشهد الأدبي الجزائري المعاصر؟

- الرواية الجزائرية أقدم من ذلك. بحكم أن رواية «خضرة راقصة أولاد نائل» صدرت عام 1910 (مع أنّها رواية أنثروبولوجية تتطابق في رؤيتها للأهالي مع الرّؤية الكولونيالية). صحيح أننا نعيش انقساماً في الجزائر. لا توجد رواية واحدة، بل نحن في مواجهة روايتين. الأوّلى ناطقة بالفرنسية والثّانية بالعربية لم يتعد عمرها نّصف القرن (بالإضافة إلى رواية جديدة مكتوبة بالأمازيغية). لا يزال سؤال الهوية سؤالاً مركزياً في الأدب الجزائري. ففي ظلّ تغييب العلوم الإنسانية، بات الأدب وحده بديلاً عن هذه الدّراسات في الجزائر. قد يقول البعض إن من أزمات الجزائر فشل الدّيمقراطية، الرّشوة والفساد، وقضايا أخرى مشابهة، لكن برأيي أن أزمة الجزائر ولدت منذ اللحظة التي جرى فيها تحييد العلوم الإنسانية، تزامناً مع الإعلاء من شأن الشّريعة في المدارس والجامعة. في هذا الجو لا يمكن أن نتفاءل بميلاد مواطنين أسوياء. مسألة اللغة أيضاً لا تزال في واجهة الخصومات. كلّما حصل سوء فهم دبلوماسي بين الجزائر وفرنسا، فإن الأدب هو من يدفع الثّمن. يصير كلّ كاتب جزائري باللغة الفرنسية خائناً. هكذا ببساطة، مع أن اللغة الفرنسية حاضرة ولا يمكن محوّها، تحوّلت من «غنيمة حرب» إلى «بارود حرب». من جهة أخرى لا تزال اللغة العربية محتجزة بين ضفتين: بين لغة فقهاء تراوح بين الحلال والحرام، أو لغة ساسة يستغلونها في حملاتهم الانتخابية، برأيي أن مهمّتنا الأخرى في الكتابة هي إعادة اللغة العربية إلى موضعها الطّبيعي، كلغة حوار وانفتاح على الآخر، بعيداً عن تجاذبات الدّين والسّياسة.

تاريخ الجزائر حقيبة أسئلة. المجهول منه أكثر من المعلوم، وما يحصل في الجزائر يحصل في بلدان عربية أخرى، حيث هناك من يستفرد لوحده بكتابة التّاريخ

سعيد خطيبي:

* حصلت على جائزتي «كتارا» و«الشيخ زايد للكتاب»، فضلاً عن جائزة «ابن بطوطة» في أدب الرحلة... هل ترى أن الجوائز يمكن أن تكون سلاحاً ذا حدين؟

- النّاشر هو من يرشح الرّواية، وليس الكاتب. وأشكر ناشري (هاشيت أنطوان/ نوفل) على ثقته. تاريخ الجوائز الأدبية هو تاريخ قصير، مقارنة بتاريخ الأدب العربي. من المنطقي أن يثار نقاش حولها كلّ سنة، وسوف يستمر الحال كذلك في السّنوات القليلة المقبلة. لكن يجب ألا ننسى أن الجائزة الأدبية من شأنها المشاركة فيما يمكن أن نُسميه (الاقتصاد الثّقافي)، فهي ترفع من عائدات سوق الكتاب، والمستفيد هو النّاشر قبل الكاتب. كما أنها تتيح اهتماماً غربياً بالكتاب العربي، على عكس ما كان يحدث في الماضي. من المفيد تنويع الجوائز، وتدشين جوائز للقرّاء والمكتبات، والأهم من ذلك أن نؤمن بديمقراطية الأدب. وبحقّ النّقاد من لجان التّحكيم في التّصويت على كتاب، وأن ذلك لا يعني إنقاصاً من قيمة كتاب آخر. في النهاية هدفنا واحد: إعادة الكتاب إلى قائمة أولويات المواطن العربي.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.