عمر الأنصاري: الرواية أنقذتني من جنون الصحوة... وأنا روائي الطوارق

يقول أنه قطع الصحراء الكبرى بحثاً عن ذاته

عمر الأنصاري
عمر الأنصاري
TT

عمر الأنصاري: الرواية أنقذتني من جنون الصحوة... وأنا روائي الطوارق

عمر الأنصاري
عمر الأنصاري

ينحدر الروائي والكاتب عمر الأنصاري من غرب أفريقيا. في رصيده الآن أربع روايات. يبدو مقلاً ولكنه عميق، يتأنى في الكتابة وكأنه ينسج حكايات جده الأعلى. إنه الكاتب المهاجر، الذي وجد ضالته المنشودة في السرد والذاكرة والأسطورة. ويقول إنه أمام كم هائل من الحكايات الشفاهية التي يحرص أن يحولها كتابة؛ لأن كل ما هو خارجها يذهب أدراج الرياح.

هنا حوار معه حول تجربته الروائية، وسر عشقه للصحراء والطوارق اللذين يشكّلان عالمه الروائي:

* أولاً، كيف تعرّف نفسك... صحفي أم روائي؟

- للأسف، ليس أي منهما هويتي الحقيقية، ولا مهنتي التي حلمت بها في خطواتي الأولى في الحياة... ففي سن الخامسة، كان جُل حلمي أن ألتحق بأبناء عمومتي الرعاة في سهوب تمبكتو الخضراء حينها... وأن أرافق غنمناً وأبقارناً في المراعي للتحرر من سطوة خيمتنا، وأن أستظل مع قربة مائي تحت سمرة وارفة الظل، وكنت بعد تحقيق ذلك الحلم أتطلع إلى ركوب صهوة جواد والدي، وأن أتعلم الغطس في نهر تينبكتو، لكن تلك الأحلام كلها وئدت، وتوارت من حياتي في لمح البصر، لأجد نفسي كمن عبر من ثقب أسود إلى حافة زمكان جديد. لقد انتقل بي الزمن سريعاً... فمن صمت مطبق في الصحراء الكبرى... وجدت نفسي واقفاً أمام بقايا آثار رصاص جهيمان الذي اخترق جدران وأعمدة الحرم المكي، وما لبثت بعدها حتى وجدت موجة ما عُرف بالصحوة قد حملتني وأقلعت بي دون أشعر، فحملتني إلى كل محطاتها وإلى أقصى حدودها الموجودة حينها، فتنقلت بين مراتبها، من مريد إلى فاعل... إلى تجليات بعيدة جداً كان من شأنها أن تجعلني وسط قادة المشهد في النهاية، لكني ترجلت عن تلك الموجة في الوقت المناسب بعد أن اكتشفت نفسي واكتشفت حقيقة أني مختطف.

روايات وكتب الأنصاري

* وكيف حدث هذا التحول؟

- كان رحلة البحث عن النفس، أو أسئلة الوعي التي داهمتني، سبباً رئيسياً، فصحوت من سبات عميق، ومثُلت أمامي كل الأسئلة الوجودية وأنا في سن الثامنة عشرة، يومها اكتشفت أني من تمبكتو، ويومها كان التحول الذي أطلقني في رحلة بحث عن خيمتي في تمبكتو.

* وهل وجدتها؟

- نعم، وجدت خيمتي، وكان الفضل في ذلك لأستاذنا القدير الفيلسوف والروائي إبراهيم الكوني، الذي ساعدني في البحث عن خيمتي وإيجادها، حين أخبرني أن الوطن ليس بالسكنى فيه، بل بسكناه فينا، وحين أخبرني ألا أبحث عن خيمة هي تسكنني في الأصل، وحين قال لي إن رحلة ميلاد الروح لا تكون دون خروج الإنسان من رحم الأم إلى غربة الوجود.

* كيف كان ذلك الوجود؟

- أنا من مواليد «الأزمنة المفقودة»، وليس هذا مجازاً بل هو حرفي، فقد أبصرت الحياة وسط الصحراء، وكان من الممكن أكون في العهد الروماني ويداهمنا جنرال روماني ثائر فيأسرنا ونكون عبيداً في روما، ويمكن أن يداهمنا عُقبة ابن نافع فيدخلنا في الإسلام، وممكن أن يجمعنها يوسف بن تاشفين فيفتح بنا الأندلس، كنت مهيأً في طفولتي لأي من ذلك؛ لأننا في عزلة من الزمن، وفي هامش التاريخ. وأتتني أول إجابة واضحة عن الزمن بعد رؤيتي أول سيارة في سن السابعة تقريباً، ثم لطائرة تمرّ من فوقنا، وهنا بدأت القصة تتغير وبدأت أستعد لمفاجآت الحياة التي لم تنتهِ حتى اليوم بسبب العزلة الكبيرة التي كنت فيها وأنا طفل كُتب عليه اكتشاف الحياة شيئاً فشيئاً.

* هل انتهت علاقتك بالصحراء منذ زمن جهيمان كما تسميه؟

- لم تنته، بل بدأت بعد ردتي عن آيديولوجية الصحوة، التي كانت سترسلني فاتحاً ومبشراً لها في الصحراء، لكن تلك الرحلة ورحلات أخرى هي التي ردتني إلى عقيدة الطفولة، وإلى فطرة الصحراء الخالية من الأدلجة، فقطعت الصحراء الكبرى طولاً وعرضاً وغصت في رمالها واستنشقت هواءها حتى شعرت بالتحرر الكامل وبميلاد جديد، الميلاد الذي أعادني إلى رشدي وألهمني كتابة قصة تلك الصحراء.

* تُعد من أقرب الناس للروائي إبراهيم الكوني...هل تقلد أستاذك، ما الفرق بينكما وهل تنسج أعمالك من هوامش عوالم الكوني؟

- نعم، الكوني أستاذي، وهو مَن دفع بي وشجعني إلى المضي في كتابة أدب الصحراء الذي لا يشبه أي أدب آخر، وقبل أن ألتقيه قبل سنوات كنت قد عقدت النية على كتابة روايتي «طبيب تينبكتو»، لكن حين اتضح لي أن أدب الصحراء يختلف عن أدب المدينة توقفت مدة 10 سنوات، وأنا أفكر في التفاصيل التي يمكن أن تجود بها خيمة أبي وأبقار أمي ومغامرات عمي، لأكتب قصة يمكن أن تسمى رواية. وقد اصطدمت فعلاً باختلاف الأدبين (المدينة والصحراء)، فبقدر سهولة ويسر كتابة تفاصيل المدينة الصاخبة، بقدر ما يواجه الكاتب الصعوبة في كتابة صمت الصحراء، فأدب الصحراء ليس نزهة، بقدر ما هو تأمل في الحياة والفلسفة والخلق وناموس الصحراء.

وكوني كتبت عن الطوارق الذين كتب عنهم أستاذنا الكوني، فأنت كمن ينتقد من يأتي ويكتب عن الحارة المصرية بعد نجيب محفوظ، أو عن الشميسي بعد تركي الحمد، فهذه مقارنات في غير محلها.

لكن ببساطة أستميح أستاذي الكوني في أن أنال أنا لقب روائي الطوارق؛ لأن الكوني لم يكن يوماً روائي الطوارق، بل فيلسوف الصحراء والوجودية وعوالمه أكبر من تحصر في الطوارق الذين ما زلت أحبو في فضائهم.

* ماذا يعني لك المكان؟

- لم يعد المكان يمثل لي أي معنى منذ خرجت من تمبكتو، فأمكنتي - كما قلت - أحملها معي وتعيش في داخلي، ولا يمكن أن أهاجر بعيداً عنها، وكل مكان يشبه تينبكتو وروحها هو مكاني، أولها حارات مكة التي شهدت ميلاد كل أحلامي، مروراً بالدرعية ودبي وأبوظبي، فأي مكان ألمح فيه جداراً من الطين فهو مكاني... لأن بين جدران الطين فقط وُلد الأنبياء والملهمون ووُلد إنسان الصحراء النبيل.

على البوصلة الأدبية في دول الخليج أن تعيد ضبط وجهتها نحو الصحراء الحُبلى بالأسرار والأساطير

* ما نظرتك للأدب في الخليج، وأنت ابن صحراء، وخليجي أيضاً بحكم النشأة والتكوين؟

- تجربة الخليج، أو البعث الأدبي ناقص ولن يكتمل أبداً ما لم يكن أدب الصحراء في قلب التجربة، بل ومدماكها، بمثل ما كانت المعلقات مدماكاً للأدب العربي، وسيندم أي جيل خليجي ينصرف عن هذا الأدب الذي أنجب روحه الخلاقة وصنع تاريخه وتحولاته... فعلى البوصلة الأدبية في دول الخليج أن تعيد ضبط وجهتها نحو الصحراء الحبلى بالأسرار والأساطير والقصص التي لا تنتهي، فشعب يضيّع أساطيره شعب يضيّع ويفرّط في تاريخه... وفي بلدنا العزيز المملكة العربية السعودية تحديداً انتهى زمن الأعذار والتردد، بفضل الانفتاح والتحول الكبيرين، فيمكن لأي كاتب اليوم الذهاب لكتابة ونسج رواية أسطورية تحت ظلال بوابات الحجر (مدائن صالح)، ويمكنه تناول الأساطير وشتى القصص التي كان مُحرماً تناولها في السابق أو حتى التفكير فيها.

وأتمنى من المهتمين بالثقافة وبالصحراء إنشاء معاهد عن الصحراء وأدب وثقافة الصحراء، تكون نبعاً صافياً ننهل منه معارف الصحراء وآدابها وأخلاقها، أو معاهد أدب مثل معهد غوركي للآداب في موسكو الذي يتخرج فيه أدباء كل عام، كان إبراهيم الكوني من بينهم، فالتطور الحاصل في المنطقة لا بد أن يكون مبنياً على روح الأصالة، وإذا لم نفعل ذلك، فسنجد شباننا يكتبون روايات أبطالها يمتطون سيارات فيراري وقصص الحب فيها تدور في مقاهي ستاربكس، بدل قصص قادمة من التراث بروح الصحراء، وهي القصص التي ستقدمنا للعالم لا قصص منسوجة من عوالم مستوردة لن يتقبلها التاجر الذي صدرها لنا... والذي ينتظر رواية يقرأ فيها روح أزمنتنا وطموحاتنا وما نعيشه من تحولات.

* ما آخر عمل لك بعد رواياتك الثلاث وكتاب «الرجال الزرق»؟

- انتهيت من كتابة عمل جديد بطلب من ناشر فرنسي، هو عبارة عن سيرة ذاتية أكثر منه رواية، سيصدر بالفرنسية أولاً، ولاحقاً سأصدر منه نسخة عربية، وهو يحكي قصة التحولات والسيرة الذاتية لجيلي الذي وُلد ونشأ في أزمنة الفقد.


مقالات ذات صلة

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

ثقافة وفنون الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

تحت عنوان «النقد الفلسفي» انطلقت، صباح اليوم، فعاليات مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة بدورته الرابعة، الذي يقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة.

ميرزا الخويلدي (الفجيرة)
يوميات الشرق منحوتاته تعكس صمود نساء يثابرن رغم ما يُعرقل (كارين أخيكيان)

الأرميني كارين أخيكيان لـ«الشرق الأوسط»: منحوتاتي صوت معارك النساء

كارين أخيكيان نحّات من أرمينيا، تستكشف أعماله موضوعات الصمود والعواطف المركَّبة. باستخدامه أسلاك الحديد والنحاس، يبتكر منحوتات تعكس تخبُّط الروح وإنجازاتها.

فاطمة عبد الله (بيروت)
آسيا البابا فرنسيس أثناء وصوله إلى مطار سوكارنو هاتا الدولي في جاكرتا (أ.ف.ب)

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في مستهل أطول رحلة خارجية خلال ولايته

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في محطة أولى ضمن جولة له على 4 دول. وتتمحور الزيارة بشكل خاص حول الحوار الإسلامي المسيحي.

«الشرق الأوسط» (جاكرتا)
ثقافة وفنون غازي القصيبي

غازي القصيبي... صيغة مركبة

مبادرة غازي القصيبي امتازت بما أسميه «الإبداع المركب»، فهل بسبب كونه شاعراً، اصطبغت محاضراته في التدريس الجامعي أستاذاً في العلاقات الدولية والعلوم السياسية.

محمد رضا نصر الله
يوميات الشرق بدء فعاليات ماراثون «أقرأ» بمكتبة الإسكندرية (مكتبة الإسكندرية)

«ماراثون القراءة» يجذب الشباب في السعودية ومصر والمغرب

يسعى «ماراثون أقرأ» الذي أطلقه مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في ثلاث مدن عربية إلى توسيع دائرة القراءة لتكون مصدراً للإلهام لدى الشباب العربي.

محمد الكفراوي (القاهرة)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».