ريجينه أوسن وسورين كيركغارد: الجمال مفقوداً هو الشرط الأهم لصناعة الفن العظيم

خطبها لسنوات ثم انفصل عنها فتزوجت من شليغل

ريجينه أوسن وسورين كيركغارد
ريجينه أوسن وسورين كيركغارد
TT

ريجينه أوسن وسورين كيركغارد: الجمال مفقوداً هو الشرط الأهم لصناعة الفن العظيم

ريجينه أوسن وسورين كيركغارد
ريجينه أوسن وسورين كيركغارد

«أريد أن أكون شوكة»، قال الفيلسوف الدنماركي الشهير سورين كيركغارد رداً على سؤال طُرح عليه في طفولته عمّا يتمنى أن يكونه في المستقبل. وحين سئل: «الصبي الشقي والمدلل» عن السبب في ذلك، قال: «حينذاك أستطيع أن أطعن أي شيء أريده على المائدة». «وماذا إذا طاردناك؟» عاد وسأله أحد أفراد عائلته، «حينئذ سأطعنكم جميعاً» أجاب الصبي الذي بات يُطلق عليه لقب الشوكة في منزله العائلي.

كان يمكن لهذا الحوار اللافت الذي يورده يوكيم غارف في كتابه المميز «سورين كيركغارد، سيرة حياة» أن يكون مجرد حادثة عادية تعكس ذكاء الأطفال وسعة مخيلاتهم، لو لم تأخذ تمنيات كيركغارد طابعها الحدسي، مستشرفاً من خلالها مواقفه المناوئة للمفاهيم الفلسفية واللاهوتية الرائجة في عصره، وموقفه المماثل من المرأة التي بادلها الحب، ثم طعنها في الصميم.

ومَن يتابع سيرة كيركغارد سيلاحظ أن حياته على قِصَرِها بدت في حد ذاتها سلسلة من المفارقات. فأبوه مايكل الذي نشأ في عائلة فقيرة، سرعان ما أصبح رجلاً ثرياً بفعل تجارة العقارات. ولم يمر وقت قليل على وفاة زوجته الأولى حتى تزوج من خادمته آنّا التي أنجبت له سبعة أطفال. أما الوفاة المبكرة لخمسة من أشقاء سورين وشقيقاته، وصولاً إلى رحيل والدته، فقد أثقلت قلبه بالحزن وحَمَلته على الإصغاء إلى الأصوات الهامدة للموتى، وفق تعبيره الحرفي. كما ظهرت غرابة سلوكه وتفكيره بشكل جليّ في فترة دراسته الجامعية، بما دفع بعض المحيطين به إلى نعته بالطالب المجنون.

أما علاقته بالمرأة فقد بدت هي الأخرى محكومة بالكثير من المفارقات. فالطالب الذي رد على تشكيك زميل له بقدرات المرأة الفكرية، قائلاً بنبرة تهكمية: «بالكاد خُلق الرجل قبل أن نجد حواء تعمل مدققةً لمحاضرات الأفعى الفلسفية»، هو نفسه الذي كانت نظراته المريبة تربك الخادمات لدى دخولهن إلى غرفته. كما أن كيركغارد الذي طالب بإعادة المسيحية إلى العالم المسيحي، هو الذي كتب في المقابل «إن الزواج لا يعكس حب البشر العميق للحقيقة، ولهذا السبب يقال إن الشخصين يصبحان جسداً واحداً وليس روحاً واحدة، لأن من غير الممكن أن تتحول روحان إلى روح واحدة».

على أن عالِم اللاهوت والرائد الحقيقي للفلسفة الوجودية لم يكن قادراً على كبح رغبات جسده الجامح وهو يتقدم باتجاه الثلاثين، بما جعله يتردد إلى أزقّة كوبنهاغن ذات السمعة السيئة، ليُشبع من خلال بنات الهوى غرائزه ويستعيد توازنه الجسدي والنفسي. ومع أنه لم يُرد للأجيال اللاحقة أن تطّلع على نوازعه الشهوانية، مكتفياً في يومياته ببعض الإشارات المتقطعة إلى صرخات الجسد و«قهقهاته البهيمية»، فإن بعض المؤرخين يشيرون إلى إصابته بالسفلس، وصولاً إلى القول بأنه أنجب في تلك المرحلة طفلاً ضد رغبته.

قُدر لريجينه أن تعيش عقوداً خمسة بعد كيركغارد الذي عزف طيلة حياته عن الزواج وظلَّت رغم زواجها وفيَّةً لذكراه

اللقاء الأول

وسط تلك العاصفة العاتية من الأفكار والنوازع المتناقضة، تشاء الصدف أن يلتقي كيركغارد مع ريجينه أولسن عام 1837، التي كانت مأخوذة آنذاك بمعلمها الوسيم فريدريك شليغل، وكان الطرفان عازمين على إعلان خطوبتهما بين لحظة وأخرى. إلا أن كيركغارد سرعان ما أُغرم بريجينه، التي لفتتها ثقافته وطلاقة لسانه. وإذ حاولت أن تشرح له حراجة موقفها تجاه خطيبها المستقبلي أجابها بشكل حاسم: «بمقدورك أن تتحدثي عن شليغل حتى يوم القيامة، وما كان ذلك ليهمّ على الإطلاق لأنني أريدك».

ولم تكن النشوة التي اعترت كيركغارد في تلك الفترة متأتية من استحواذه على قلب ريجينه فحسب، بل من شعوره الغامر بالانتصار على شليغل، غريمه في الحياة والكتابة. إلا أن الرحيل المفاجئ لأبيه الثريّ والمهتم في كهولته بشؤون الثقافة والفكر، سرعان ما أدخله في حالة من الكدر والتشوش النفسي والذهني. ولأن علاقة الأب بابنه الأصغر كانت شديدة التعقيد ومكتنفة بالخلافات، فقد ولّد هذا الأمر مشاعر متناقضة في نفس سورين، حيث الراحة المتصلة بانزياح الطغيان الأبوي، وبالثراء المستجد للوريث الشاب، قابلها شعور ممضٌّ بالخسارة وفقدان السند والظهير.

وفي غمرة انبهاره بريجينه أحس كيركغارد كما لو أنه التقاها قبل آلاف السنين، مسترجعاً نظرية التذكر لدى أفلاطون، ومعتبراً إياها الضوء الحقيقي الذي سيكشف له عن طريق المستقبل، حيث يخاطبها بالقول: «أنتِ يا من ترين المخفيّ هل سأعيش معكِ خاتمة كل المقدمات الغريبة لحياتي؟ هل أضمّك في أحضاني أم ثمة أوامر أخرى؟ أواه، سأتخلى عن كل شيء كي أصبح خفيفاً بما يكفي لأتبعك». وحين لم يقوَ على الابتعاد عنها، وهرع مسرعاً إلى منزلها العائلي طالباً من أبيها موافقته على خطوبتهما، سارعت الفتاة إلى إبداء موافقتها على طلبه دون أي اعتراض من الأب.

إلا أن تلك «الأوامر الأخرى» التي وردت بشكل غامض في نص كيركغارد، ما لبثت أن اتخذت صورة أكثر وضوحاً، حين بدأت الفتاة تطالب خطيبها بالاهتمام بها كامرأة من لحم ودم، وترجمة افتتانه النظريّ بها إلى واقع ملموس وارتباط دائم. فقد اعتقد كيركغارد أن كليهما؛ العاطفة والانجذاب الجسدي، لا ينبغي بالضرورة أن يفضيا إلى الزواج، مؤْثراً أن يظل جمال ريجينه بمثابة المادة الزائلة التي يُصنع منها الفن العظيم. لكن الأدهى من ذلك أنه لم يكتفِ بإشاحة الوجه عن الرغبات الجسدية لخطيبته، بل كان يطلب منها الاستعانة على رغباتها بقراءة الإنجيل، محذراً إياها من الانسياق وراء الغرائز البعيدة عن اللياقة.

الحرية والحب

بعد ذلك بدأ كيركغارد يُخلف مواعيده مع خطيبته، ويلحّ على فكرة الحرية بوصفها رديفاً طبيعياً للحب. وإذ بدأت حرارة مشاعره بالتراجع، أخذ يضمّن رسائله إشارات دالّة على أن هذه الرسائل ستمثل عمّا قريب «زمناً مضى» و«ذكريات قديمة». وحين أرسلت إليه في عيد ميلاده الثامن والعشرين محفظةً مطرزة باللؤلؤ، أرسل إليها في المقابل وردة ذابلة مرفقة برسالة جاء فيها: «لقد ذوت الوردة في يدي. وبخلافكِ أنتِ لم أكن شاهداً سعيداً على نموها، بل كنت شاهداً حزيناً على ذبولها التدريجي». وبعد أيام معدودة أعاد لها خاتم الخطوبة، طالباً منها أن تسامحه على فعلته، ومعتذراً عن عدم قدرته على إسعادها.

«إذن لعبتَ لعبة فظيعة معي» قالت ريجينه المخذولة لكيركغارد الذي حاول تبرير فعلته بالقول إنه لا يريدها واقعاً يومياً مكرراً ومحدود الصلاحية، بل صورة للجمال الأقصى مدونةً على الورق. ومع أنه الطرف الذي بادر إلى إنهاء العلاقة، فقد شعر بالصدمة حين علم بنبأ زواجها من شليغل، الذي لطالما نظر إليه بعين الخصومة الفكرية والشخصية. وهو إذ يرسل إليها في السنة التالية لانقطاع العلاقة، زجاجةً من عطرها المفضل ملفوفةً برسائلها إليه، والتي ستقوم بإحراقها عام 1865، يحاول أن يكشف للقادمين من بعده، عمّا غمض من ألغاز عالمه الداخلي، فيشير إلى أنه خشي وهي تستسلم لحاجاتها الجسدية أن تتحول إلى صورة أخرى من شراهة أبيه وسقوطه الجنسي. إلا أنه عاد واعترف لاحقاً بأن الشخصين اللذين أحبهما كل الحب ولهما يَدين بكونه كاتباً، هما رجل عجوز بأخطائه وحكمته النبيلة، وفتاة تكاد تكون طفلة لا أكثر، بعدم فهمها للحبيب.

ويكتب كيركغارد في يومياته، مبرراً قراره الانفصال عن ريجينه: «لو لم أكرّمها كزوجة مؤجلة إلى المستقبل، أكثر مما كرمت نفسي. لو لم أكن أشد حماساً لصون شرفها من صون شرفي الشخصي، لآثرت الصمت وسمحت لنفسي بالزواج منها. هناك زيجات تُخفي حكايات صغيرة، وأنا لم أُرِد أن تكون هذه حالتي، لأنها كانت ستصبح جاريتي حينذاك، وكنت أفضّل قتلها على أن تكون كذلك». كما كتب بلغته المترعة بالطرافة المُرّة: «كان من الصواب أن تتزوج شليغل، فلقد عانت الكثير بسببي. غير أنني كنت أخشى عليها أن تصبح مربيّة ولكنها لم تصبح كذلك، بل أصبحت الآن حاكمة جزر الهند الصينية». إلا أن كل محاولته لتمويه حبه لها قد أخفقت تماماً، وهو الذي كتب على فراش احتضاره «كانت هي الحبيبة، وليس عملي الفكري سوى أثر تذكاري لتمجيدها، وسآخذها يقيناً معي إلى التاريخ».

وإذ قُدر لريجينه أن تعيش عقوداً خمسة بعد فيلسوفها العاشق، الذي عزف طيلة حياته عن الزواج، فقد ظلت رغم زواجها وفيَّةً لذكراه. وعند رحيل شليغل قبلها بسنوات، لم تتوانَ عن إفشاء قصتها مع كيركغارد أمام غير واحد من كتّاب السيرة، مؤكدة على الدوام أنه كان حب حياتها الأعمق وخطيبها الأبدي.


مقالات ذات صلة

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

كتب روبرت نوزيك

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

لم تعد تصريحات الرئيس الأميركيّ دونالد ترمب ومواقفه تثير القلق الشديد عند نصف مواطنيه أو الحماس الصاخب عند نصفهم الآخر فحسب، بل وتحولت إلى ما يشبه عرضاً يومياً

ندى حطيط
ثقافة وفنون شوقي ضيف

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

من مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

تحوي إمارة دبي مواقع أثرية عدة؛ أبرزها موقع يُعرف باسم ساروق الحديد، يبعد نحو 68 كيلومتراً جنوب شرقي مدينة دبي، ويجاور حدود إمارة أبوظبي.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون Instagram, Facebook and WhatsApp/ /dpa

كيف تقتلنا شبكة الإنترنت؟

قبل أن ينتشر التنوير بمختلف أرجاء أوروبا، ويُلهم أمثال توماس باين وتوماس جيفرسون داخل أميركا في عهد الاستعمار، كان يجري النظر إلى أغلب الناس

فرانك ماكورت
ثقافة وفنون «عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

من خلال رؤية فانتازية تطرح رواية «عملية تجميل» للروائية المصرية زينب عفيفي مفهوم الجمال من خلال لعبة مع الزمن، حيث العُمر يعود أدراجه الأولى، مخالفاً سنن الحياة

منى أبو النصر (القاهرة)

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي.

ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية.

ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار.

ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية.

وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف.

وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع.

وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق.

وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي.

ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا.

وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟