ريجينه أوسن وسورين كيركغارد: الجمال مفقوداً هو الشرط الأهم لصناعة الفن العظيم

خطبها لسنوات ثم انفصل عنها فتزوجت من شليغل

ريجينه أوسن وسورين كيركغارد
ريجينه أوسن وسورين كيركغارد
TT
20

ريجينه أوسن وسورين كيركغارد: الجمال مفقوداً هو الشرط الأهم لصناعة الفن العظيم

ريجينه أوسن وسورين كيركغارد
ريجينه أوسن وسورين كيركغارد

«أريد أن أكون شوكة»، قال الفيلسوف الدنماركي الشهير سورين كيركغارد رداً على سؤال طُرح عليه في طفولته عمّا يتمنى أن يكونه في المستقبل. وحين سئل: «الصبي الشقي والمدلل» عن السبب في ذلك، قال: «حينذاك أستطيع أن أطعن أي شيء أريده على المائدة». «وماذا إذا طاردناك؟» عاد وسأله أحد أفراد عائلته، «حينئذ سأطعنكم جميعاً» أجاب الصبي الذي بات يُطلق عليه لقب الشوكة في منزله العائلي.

كان يمكن لهذا الحوار اللافت الذي يورده يوكيم غارف في كتابه المميز «سورين كيركغارد، سيرة حياة» أن يكون مجرد حادثة عادية تعكس ذكاء الأطفال وسعة مخيلاتهم، لو لم تأخذ تمنيات كيركغارد طابعها الحدسي، مستشرفاً من خلالها مواقفه المناوئة للمفاهيم الفلسفية واللاهوتية الرائجة في عصره، وموقفه المماثل من المرأة التي بادلها الحب، ثم طعنها في الصميم.

ومَن يتابع سيرة كيركغارد سيلاحظ أن حياته على قِصَرِها بدت في حد ذاتها سلسلة من المفارقات. فأبوه مايكل الذي نشأ في عائلة فقيرة، سرعان ما أصبح رجلاً ثرياً بفعل تجارة العقارات. ولم يمر وقت قليل على وفاة زوجته الأولى حتى تزوج من خادمته آنّا التي أنجبت له سبعة أطفال. أما الوفاة المبكرة لخمسة من أشقاء سورين وشقيقاته، وصولاً إلى رحيل والدته، فقد أثقلت قلبه بالحزن وحَمَلته على الإصغاء إلى الأصوات الهامدة للموتى، وفق تعبيره الحرفي. كما ظهرت غرابة سلوكه وتفكيره بشكل جليّ في فترة دراسته الجامعية، بما دفع بعض المحيطين به إلى نعته بالطالب المجنون.

أما علاقته بالمرأة فقد بدت هي الأخرى محكومة بالكثير من المفارقات. فالطالب الذي رد على تشكيك زميل له بقدرات المرأة الفكرية، قائلاً بنبرة تهكمية: «بالكاد خُلق الرجل قبل أن نجد حواء تعمل مدققةً لمحاضرات الأفعى الفلسفية»، هو نفسه الذي كانت نظراته المريبة تربك الخادمات لدى دخولهن إلى غرفته. كما أن كيركغارد الذي طالب بإعادة المسيحية إلى العالم المسيحي، هو الذي كتب في المقابل «إن الزواج لا يعكس حب البشر العميق للحقيقة، ولهذا السبب يقال إن الشخصين يصبحان جسداً واحداً وليس روحاً واحدة، لأن من غير الممكن أن تتحول روحان إلى روح واحدة».

على أن عالِم اللاهوت والرائد الحقيقي للفلسفة الوجودية لم يكن قادراً على كبح رغبات جسده الجامح وهو يتقدم باتجاه الثلاثين، بما جعله يتردد إلى أزقّة كوبنهاغن ذات السمعة السيئة، ليُشبع من خلال بنات الهوى غرائزه ويستعيد توازنه الجسدي والنفسي. ومع أنه لم يُرد للأجيال اللاحقة أن تطّلع على نوازعه الشهوانية، مكتفياً في يومياته ببعض الإشارات المتقطعة إلى صرخات الجسد و«قهقهاته البهيمية»، فإن بعض المؤرخين يشيرون إلى إصابته بالسفلس، وصولاً إلى القول بأنه أنجب في تلك المرحلة طفلاً ضد رغبته.

قُدر لريجينه أن تعيش عقوداً خمسة بعد كيركغارد الذي عزف طيلة حياته عن الزواج وظلَّت رغم زواجها وفيَّةً لذكراه

اللقاء الأول

وسط تلك العاصفة العاتية من الأفكار والنوازع المتناقضة، تشاء الصدف أن يلتقي كيركغارد مع ريجينه أولسن عام 1837، التي كانت مأخوذة آنذاك بمعلمها الوسيم فريدريك شليغل، وكان الطرفان عازمين على إعلان خطوبتهما بين لحظة وأخرى. إلا أن كيركغارد سرعان ما أُغرم بريجينه، التي لفتتها ثقافته وطلاقة لسانه. وإذ حاولت أن تشرح له حراجة موقفها تجاه خطيبها المستقبلي أجابها بشكل حاسم: «بمقدورك أن تتحدثي عن شليغل حتى يوم القيامة، وما كان ذلك ليهمّ على الإطلاق لأنني أريدك».

ولم تكن النشوة التي اعترت كيركغارد في تلك الفترة متأتية من استحواذه على قلب ريجينه فحسب، بل من شعوره الغامر بالانتصار على شليغل، غريمه في الحياة والكتابة. إلا أن الرحيل المفاجئ لأبيه الثريّ والمهتم في كهولته بشؤون الثقافة والفكر، سرعان ما أدخله في حالة من الكدر والتشوش النفسي والذهني. ولأن علاقة الأب بابنه الأصغر كانت شديدة التعقيد ومكتنفة بالخلافات، فقد ولّد هذا الأمر مشاعر متناقضة في نفس سورين، حيث الراحة المتصلة بانزياح الطغيان الأبوي، وبالثراء المستجد للوريث الشاب، قابلها شعور ممضٌّ بالخسارة وفقدان السند والظهير.

وفي غمرة انبهاره بريجينه أحس كيركغارد كما لو أنه التقاها قبل آلاف السنين، مسترجعاً نظرية التذكر لدى أفلاطون، ومعتبراً إياها الضوء الحقيقي الذي سيكشف له عن طريق المستقبل، حيث يخاطبها بالقول: «أنتِ يا من ترين المخفيّ هل سأعيش معكِ خاتمة كل المقدمات الغريبة لحياتي؟ هل أضمّك في أحضاني أم ثمة أوامر أخرى؟ أواه، سأتخلى عن كل شيء كي أصبح خفيفاً بما يكفي لأتبعك». وحين لم يقوَ على الابتعاد عنها، وهرع مسرعاً إلى منزلها العائلي طالباً من أبيها موافقته على خطوبتهما، سارعت الفتاة إلى إبداء موافقتها على طلبه دون أي اعتراض من الأب.

إلا أن تلك «الأوامر الأخرى» التي وردت بشكل غامض في نص كيركغارد، ما لبثت أن اتخذت صورة أكثر وضوحاً، حين بدأت الفتاة تطالب خطيبها بالاهتمام بها كامرأة من لحم ودم، وترجمة افتتانه النظريّ بها إلى واقع ملموس وارتباط دائم. فقد اعتقد كيركغارد أن كليهما؛ العاطفة والانجذاب الجسدي، لا ينبغي بالضرورة أن يفضيا إلى الزواج، مؤْثراً أن يظل جمال ريجينه بمثابة المادة الزائلة التي يُصنع منها الفن العظيم. لكن الأدهى من ذلك أنه لم يكتفِ بإشاحة الوجه عن الرغبات الجسدية لخطيبته، بل كان يطلب منها الاستعانة على رغباتها بقراءة الإنجيل، محذراً إياها من الانسياق وراء الغرائز البعيدة عن اللياقة.

الحرية والحب

بعد ذلك بدأ كيركغارد يُخلف مواعيده مع خطيبته، ويلحّ على فكرة الحرية بوصفها رديفاً طبيعياً للحب. وإذ بدأت حرارة مشاعره بالتراجع، أخذ يضمّن رسائله إشارات دالّة على أن هذه الرسائل ستمثل عمّا قريب «زمناً مضى» و«ذكريات قديمة». وحين أرسلت إليه في عيد ميلاده الثامن والعشرين محفظةً مطرزة باللؤلؤ، أرسل إليها في المقابل وردة ذابلة مرفقة برسالة جاء فيها: «لقد ذوت الوردة في يدي. وبخلافكِ أنتِ لم أكن شاهداً سعيداً على نموها، بل كنت شاهداً حزيناً على ذبولها التدريجي». وبعد أيام معدودة أعاد لها خاتم الخطوبة، طالباً منها أن تسامحه على فعلته، ومعتذراً عن عدم قدرته على إسعادها.

«إذن لعبتَ لعبة فظيعة معي» قالت ريجينه المخذولة لكيركغارد الذي حاول تبرير فعلته بالقول إنه لا يريدها واقعاً يومياً مكرراً ومحدود الصلاحية، بل صورة للجمال الأقصى مدونةً على الورق. ومع أنه الطرف الذي بادر إلى إنهاء العلاقة، فقد شعر بالصدمة حين علم بنبأ زواجها من شليغل، الذي لطالما نظر إليه بعين الخصومة الفكرية والشخصية. وهو إذ يرسل إليها في السنة التالية لانقطاع العلاقة، زجاجةً من عطرها المفضل ملفوفةً برسائلها إليه، والتي ستقوم بإحراقها عام 1865، يحاول أن يكشف للقادمين من بعده، عمّا غمض من ألغاز عالمه الداخلي، فيشير إلى أنه خشي وهي تستسلم لحاجاتها الجسدية أن تتحول إلى صورة أخرى من شراهة أبيه وسقوطه الجنسي. إلا أنه عاد واعترف لاحقاً بأن الشخصين اللذين أحبهما كل الحب ولهما يَدين بكونه كاتباً، هما رجل عجوز بأخطائه وحكمته النبيلة، وفتاة تكاد تكون طفلة لا أكثر، بعدم فهمها للحبيب.

ويكتب كيركغارد في يومياته، مبرراً قراره الانفصال عن ريجينه: «لو لم أكرّمها كزوجة مؤجلة إلى المستقبل، أكثر مما كرمت نفسي. لو لم أكن أشد حماساً لصون شرفها من صون شرفي الشخصي، لآثرت الصمت وسمحت لنفسي بالزواج منها. هناك زيجات تُخفي حكايات صغيرة، وأنا لم أُرِد أن تكون هذه حالتي، لأنها كانت ستصبح جاريتي حينذاك، وكنت أفضّل قتلها على أن تكون كذلك». كما كتب بلغته المترعة بالطرافة المُرّة: «كان من الصواب أن تتزوج شليغل، فلقد عانت الكثير بسببي. غير أنني كنت أخشى عليها أن تصبح مربيّة ولكنها لم تصبح كذلك، بل أصبحت الآن حاكمة جزر الهند الصينية». إلا أن كل محاولته لتمويه حبه لها قد أخفقت تماماً، وهو الذي كتب على فراش احتضاره «كانت هي الحبيبة، وليس عملي الفكري سوى أثر تذكاري لتمجيدها، وسآخذها يقيناً معي إلى التاريخ».

وإذ قُدر لريجينه أن تعيش عقوداً خمسة بعد فيلسوفها العاشق، الذي عزف طيلة حياته عن الزواج، فقد ظلت رغم زواجها وفيَّةً لذكراه. وعند رحيل شليغل قبلها بسنوات، لم تتوانَ عن إفشاء قصتها مع كيركغارد أمام غير واحد من كتّاب السيرة، مؤكدة على الدوام أنه كان حب حياتها الأعمق وخطيبها الأبدي.


مقالات ذات صلة

هدى بركات: عنف الحرب الأهلية اللبنانية أعاد تربيتي

ثقافة وفنون هدى بركات

هدى بركات: عنف الحرب الأهلية اللبنانية أعاد تربيتي

لم تتأقلم الكاتبة الروائية هدى بركات مع باريس وغيومها الرمادية وأجوائها الباردة، برغم إقامتها فيها ما يزيد على ثلاثة عقود،

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مجسم أنثوي من محفوظات متحف قلعة البحرين

وجه أنثوي من قلعة البحرين

تُعد قلعة البحرين من أشهر الحصون التاريخية في الخليج العربي، وتشكّل جزءاً من موقع أثري شُيّد منذ أكثر من 4000 سنة، أُدرج على قائمة التراث العالمي

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون لمى الكناني في دور عزيزة

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

اخترت موضوعاً لهذه المقالة جزءاً صغيراً، فعلاً سردياً ربما لم يلفت انتباه كل مشاهدي «شارع الأعشى». جزء مهم لغرض المقالة، ولوجود تشابه بينه وبين عنصر آخر

د. مبارك الخالدي
ثقافة وفنون الإماراتي جمال مطر: محور روايتي يدور حول السلطة ومفهوم العدالة

الإماراتي جمال مطر: محور روايتي يدور حول السلطة ومفهوم العدالة

صدرت حديثاً عن دار النشر الباريسية العريقة «لارماتان»، ترجمة فرنسية لرواية «ربيع الغابة» للكاتب الإماراتي جمال مطر، حملت توقيع المترجمة المغربية وفاء ملاح،

شاكر نوري (دبي)
ثقافة وفنون العُمانية آية السيابي تكتب عن «الحياة في سجنِ النّساء»

العُمانية آية السيابي تكتب عن «الحياة في سجنِ النّساء»

صدرت حديثاً للقاصّةِ والروائيّةِ العُمانية آية السيابي روايةٌ جديدةٌ بعنوان «العنبرُ الخامسُ... الحياة في سجن النّساء»، عن دار «الآن ناشرون وموزعون»، بالأردن.

«الشرق الأوسط» ( الدمام)

جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي
TT
20

جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي

لم يأتِ رحيل المبدع العراقي جمعة اللامي في السابع عشر من هذا الشهر مفاجئاً لمعارفه ومحبيه. إذ لم تحمل السنوات الأخيرة الراحة له: فقد سكنه المرض، وتلبدت الذاكرة بضغوطه، فضاع كثير من الوهج الذي تميزت به كتاباته. وتجربة جمعة اللامي فريدة؛ لأنه لم يكن يألف الكتابة قبل أن يقضي سنواتٍ عدة سجيناً في عصور مضت. لكنه خرج من هذه أديباً، وصحافياً متميزاً.

ربما لا يعرف القراء أنه شغل مدير تحرير لصحف ومجلات، وكان حريصاً على أن يحرر الصحافة من «تقريرية» الكتابة التي يراها تأملاً بديعاً في التواصل بين الذهن واللغة. خرج من تلك السنوات وهو يكتب الرواية والقصة. وكانت روايته «من قتل حكمت الشامي» فناً في الرواية التي يتآلف فيها المؤلف مع القتيل والقاتل. ومثل هذه المغامرة الروائية المبكرة قادت إلى التندر. فكان الناقد الراحل الدكتور علي عباس علوان يجيب عن تساؤل عنوان الرواية: من قتل حكمت الشامي؟ جمعة اللامي. لكن الرواية كانت خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ماورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية). وسكنته روح المغامرة مبكراً. وكان أن كتب مسرحية بعنوان «انهض أيها القرمطي: فهذا يومك»، التي قادته أيضاً إلى محنة أخرى، لولا تدخل بعض معارفه من الأدباء والمفكرين. وجاء إلى القصة القصيرة بطاقة مختلفة جزئياً عن جيله. إذ كان جيل ما بعد الستينات مبتكراً مجدداً باستمرار. وكان أن ظهرت أسماء أدبية أصبحت معروفة بعد حين وهي تبني على ما قدمه جيلان من الكتاب: جيل ذو النون أيوب، وما اختطه من واقعية مبكرة انتعشت كثيراً بكتابات غائب طعمة فرمان، وعيسى مهدي الصقر وشاكر خصباك، وجيل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي، والذين بنوا عليه وافترقوا عنه كمحمد خضير، وموسى كريدي، وأحمد خلف، وعبد الستار ناصر، وعدد آخر. وكان جمعة اللامي ينتمي إلى هذا الجيل، لكنه استعان بهندسة القصة لتكون بنية أولاً تتلمس فيها الكلمات مساحات ضيقة تنوء تحت وقع أي ثقل لغوي. ولهذا جاءت قصصه القصيرة بمزاوجة غريبة ما بين الألفة والتوحش، يتصادم فيها الاثنان، ويلتقيان في الأثر العام الذي هو مآل القص.

وعندما قرر اللامي التغرب وسكن المنفى، كان يدرك أنه لن يجد راحة البال والجسد. لكنه وجد في الإمارات ورعاية الشيخ زايد حاكم الدولة، وبعده عناية الشيخ الدكتور سلطان القاسمي ما يتيح له أن يستأنف الكتابة في الإبداع الأدبي وكذلك في العمود الصحافي. ولمرحلة ليست قصيرة كان «عموده» الصحافي مثيراً لأنه خروج على المألوف، ومزاوجة ما بين العام والشخصي، اليقظة والحلم، المادية والروحانية. وعندما ينظر المرء إلى مسيرة طويلة من الكد الذهني والجسدي فيها الدراية والعطاء، يقول إن الراحل حقق ذكراً لا تقل عنه شدة انتمائه لمجايليه وأساتذته وصحبه الذين لم يغيبوا لحظة عن خاطره وذهنه، كما لم يغب بلده الذي قيَّده بحب عميق يدركه من ألِفَ المنافي وسكن الغربة.

سيبقى ذكر جمعة اللامي علامة بارزة في أرشيف الذاكرة العراقية والعربية الحيّة.

 كانت روايته «مَن قتل حكمة الشامي؟» خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ما ورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية)