نازك الملائكة... قدرة شعرية لم تكن بمستوى قدرتها النقدية

تحضر بقوة في العراق وفي بلدان عربية مما يستدعي حضوراً نقدياً موازياً

نازك الملائكة... قدرة شعرية لم تكن بمستوى قدرتها النقدية
TT

نازك الملائكة... قدرة شعرية لم تكن بمستوى قدرتها النقدية

نازك الملائكة... قدرة شعرية لم تكن بمستوى قدرتها النقدية

نادراً ما يحتفل العرب بولادات الشعراء، إذ نجدهم دائماً يحتفلون بذكرى وفاتهم، كأننا أمم جاهزة للندب لا للفرح، لذلك جاء احتفال العراقيين هذه المرة مغايراً، حيث احتضنت بغداد فعالية كبيرة ليومين عن نازك الملائكة رعاها رئيس الوزراء العراقي المهندس محمد شياع السوداني، وحضرها بنفسه وألقى كلمة بالمناسبة، وفي الوقت نفسه حضر الفعالية أكثر من ستمائة شخصية عراقية من الوسط الأدبي والثقافي فضلاً عن حضور عشر شخصيات عربية لها مكانتها وحضورها. إذاً نازك تحضر بقوة هذه المرة وتستعيد عافيتها الأدبية والفكرية من جديد، حيث تمّت طباعة أعمالها الشعرية الكاملة في مجلدين من دار الشؤون الثقافية، وكذلك طباعة عملين نقديين عن تجربتها الإبداعية، فضلاً عن إعلان الحكومة العراقية تخصيص ساحة من ساحات بغداد ونصب تمثال لنازك الملائكة في تلك الساحة، وهذا يحدث لأول مرة حيث يُصنع تمثال لسيدة عراقية ويوضع في ساحة عامة.

مبادرة غير مسبوقة

وقبل أكثر من شهرين صدر تعميم على كل مدارس العراق بأن تكون كلمة يوم الخميس لطلاب المدارس موجَّهة عن نازك الملائكة ودورها التحديثي ودور المرأة بشكل عام، وهذا أيضاً يحدث لأول مرة؛ أن يصدر مثل هذا التعميم في الحديث عن نازك الملائكة في ساعة واحدة ولكل طلاب العراق، وكذلك صدر تعميم للبريد العراقي بأن توضع صورة نازك الملائكة وذكرى مئويتها على طابع بريدي عراقي.

إذاً نازك تحضر بقوة في العراق وفي بلدان عربية كثيرة أخرى، وهذا الحضور يستدعي حضوراً نقدياً موازياً لها، ذلك أن نازك من أكثر الشخصيات الإبداعية التي تثير الجدل وتدعو لأكثر من وقفة إزاءها. نازك الشاعرة والناقدة والتنويرية والثائرة والمنعزلة أيضاً، نازك التي كسرت عمود الشعر وفحولته التي امتدت لأكثر من أربعة عشر قرناً، حيث كان أجدادها يقولون في الشواعر أمثالها (إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها) وإذا بها بعد هذه المدة تمسك الديك وتنتف ريشه، وتطلق نظرية جديدة تخالف آراء أجدادها الشعراء، حيث تنظر إلى الوزن والقافية على أنهما عبارة عن سلسلة ثقيلة يجرّها الشاعر وراءه، حيث تقول:

«وقد يرى كثيرون معي أن الشعر العربي لم يقف بعدُ على قدميه بعد الرقدة الطويلة التي جثمت على صدره طيلة القرون المنصرمة الماضية. فنحن عموماً ما زلنا أسرى، تسيّرنا القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام، ما زلنا نلهث في قصائدنا ونجر عواطفنا المقيّدة بسلاسل الأوزان القديمة وقرقعة الألفاظ الميتة»، وهذا جزء من مقدمة ديوانها «شظايا ورماد» عام 1949، فكيف بفتاة لا تتجاوز الثلاثين من عمرها تنطلق بمثل هذه الآراء الجريئة التي تتجاوز فيها على روح الثقافة العربية التي يقف الشعر في قلبها، فالمساءلة والنقد للشعر العربي والانقلاب على ثوابته يعني فيما يعنيه الانقلاب على روح الثقافة العربية ومركزيتها، فمن أين أتت نازك بهذه الطاقة والقوة لكي تقلب الطاولة على رأس الشعر التقليدي؟

تنظير متقدم

نازك خرجت من بيت مثقف ثقافةً تقليديةً لا تمرُّد فيها، بل إن أباها وعائلتها كانوا يسخرون منها حين كتبت قصائدها الجديدة، كما أن التجارب التي سبقتها ومحاولات التمرد لم تكن تشكل ظاهرة تسحب أقدام الشعراء نحوها، غير أن العالم بدأ يتغير بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والحياة بدأت تأخذ مسارات مختلفة عمّا قبلها، فالحياة التعليمية والسفر والترجمة بدأت تنمو في العالم كله، ولم يكن العراق بمعزل عن العالم، ذلك أن كبريات المجلات كانت تصل إلى بغداد، كما أن التراجم بدأت بالانتشار، والشعراء بدأوا يطّلعون على آداب العالم، ومن هنا صرحت نازك في مقدمتها لـ«شظايا ورماد»: «والذي أعتقده أن الشعر العربي يقف اليوم على حافة تطور جارف عاصف لن يبقي من الأساليب القديمة شيئاً....

أقول هذا اعتماداً على دراسة بطيئة لشعرنا المعاصر واتجاهاته، وأقولها لأنها النتيجة المنطقية لإقبالنا على قراءة الآداب الأوروبية ودراسة أحدث النظريات في الفلسفة والفن وعلم النفس، والواقع أن الذين يريدون الجمع بين الثقافة الحديثة وتقاليد الشعر القديمة أشبه بمن يعيش اليوم بملابس القرن الأول للهجرة، ونحن بين اثنين: إما أن نتعلم النظريات ونتأثر بها ونطبقها، وإما ألا نتعلمها إطلاقاً، وقد يفيدنا أن نتذكر دائماً أن التطور الذي يحدث في الفنون والآداب في عصر ما أكثر ما يكون ناشئاً عن التقاء أمّتين وأكثر».

إذاً نازك تصرّح بشكل واضح بأن التقاء ثقافات الأمم هو الذي أسهم في تغير خريطة الشعر العربي. وهذا واضح، فالأمم المغلقة لا تُنتج ولا تكرر إلا نفسها ولا تعيد إلا ما صنعه أجدادها، ولكن السؤال الأهم: هل استطاعت نازك أن تكسر فعلاً النمط التقليدي للشعر العربي؟ بمعنى هل تغيُّر عدد التفعيلات ونقصانه أو زيادته يعد كسراً للثقافة العربية ونمط تفكيرها طيلة عقود؟ أم أن التحديث لا يرتبط بالشكل فقط إن لم يكن منطلقاً من الجوهر، وأعني به التحول في الفكر ووجهة النظر والنظر إلى الآخر والمختلف عنك نظرةً معاصرةً، وإلا ما فائدة التحولات الشكلية إن لم ترافقها تحولات موضوعية وعضوية في الوقت نفسه؟

من الرومانسية إلى الواقعية

هل كانت ثورة نازك الملائكة ورفاقها ثورة عروضية فقط؟ هل أربكوا عدد التفاعيل في السطر الواحد واطمأنوا إلى أنهم أحدثوا شيئاً مهماً في تاريخ الأدب وحركته؟ أم أن الأمر أوسع من فتح أطراف البيت الشعري التقليدي وتمطيط قافيته؟ يعني هل هناك ما هو أوسع من فكرة التفاعيل؟

من حيث الموضوع، كل بدايات نازك هي امتداد للرومانسيين العرب والإنجليز من الشعراء والكتاب، ومعظم أجواء قصائدها تدور في هذا الفلك المعتم والكئيب، حيث يهيمن الليل على مناخات قصائدها، فمثلاً قصيدتها «مأساة الحياة» هي نفسها تقول عنها: «وهو عنوان يدل على تشاؤمي المطلق، وشعوري بأن الحياة كلها ألمٌ وإبهامٌ وتعقيد»، ولكنها لا تستقر على حالة واحدة، وهو جزء من تناقضات نازك وتحولاتها، فمن الذات المغلقة والعتمة والليل إلى المشاركة في الحياة العامة السياسية والاجتماعية من خلال قصائدها التي تمشي حافية القدمين في الشوارع العربية، وهنا تتحول من شاعرة رومانسية إلى شاعرة أكثر من واقعية، حيث تتبنى قضايا الأمة العربية وتدافع عن فلسطين والقدس وتدعو بقصائد ذات نبرة خطابية عالية للدفاع عن الأرض وتحريرها، حيث كرّست ديوانها الأخير «للصلاة والثورة» لفلسطين ودافعت عن القدس دفاعاً شديداً، وقد جاء هذا الديوان بعد انقطاع 3 أعوام عن الكتابة الشعرية، حيث هزّتها بطاقة تهنئة وصلت إليها، عليها صورة قبة الصخرة، فكتبت مباشرةً بعد ذلك الانقطاع:

يا قبة الصخرة

يا ورد يا ابتهالة مضيئة الفكرة

ويا هدى تسبيحة علوية النبرة

وكتبت وكتبت حتى انتهت الفسحة الفارغة على ظهر البطاقة. بعدها تواصلت بكتابة القصائد لفلسطين حتى اكتملت مجموعتها الأخيرة «للصلاة والثورة».

ولكن الذي يحدث أن النبرة الخطابية العالية والمعالجة البسيطة للقضايا الشائكة توقِع النصوص الشعرية في البرودة، والمفارقة في الأمر أن نازك الملائكة تحمل وعياً كبيراً جداً في هذا الشأن، حيث تذكر في مقدمة ديوانها «للصلاة والثورة» أن ما تكتبه لا علاقة له بالمستقبل، فهي تفترض قارئاً مستقبلياً سيأتي بعد مائة عام من ديوانها، هذا يعني في عام 2073، وتظن أن القارئ المستقبليّ لن يتفاعل مع نصوصها لأنها لم تكتب الفن لأجل الفن، إنما تكتب للدفاع عن الأرض ولتعرية الصهاينة في تلك المدة، ولكن السؤال الأهم يدور حول وعي نازك وحساسيتها تجاه الجماليات، فهي تملك حساً عالياً إزاء الجماليات الشعرية، لذلك تقول ما معناه إن نصوصها لا مستقبل لها لأنها منشغلة بالحاضر وهي لا تعير اهتماماً للمستقبل الشعري وللمتلقي المستقبلي، وهذه النظرة هي أيضاً جزء من تحولات نازك -كما ذكرنا قبل قليل- حيث تقول في مقدمة ديوانها «للصلاة والثورة»: «... هل ينبغي أن نطمس أحاسيسنا اليوم من أجل أن يتذوق قصائدنا حفيد شاعر سيعيش عام 2073؟ هل نترك دماءنا تُراق وجثثنا تُرمى من شبابيك الطابق الرابع من المباني الصهيونية دون أن نصوّرها في شِعرنا لمجرد أن نُرضي هذا الحفيد الذي يعيش أبعاداً ثلاثة أخرى غير أبعادنا الثلاثة؟

الجواب: لا. إن ذلك سيكون منّا انتحاراً، لا بل إن سكوتنا قد يقتل هذا الحفيد ويحرمه فرصةً يولَد فيها، فنحن نقاتل بشِعرنا وقوافينا من أجله»، إذاً نازك واضحة تمام الوضوح وبقصدية عالية في كتابة الشعر وبوصف الشعر لديها سلاحاً تدافع فيه، فنحن نقاتل بشِعرنا وقوافينا، على حد قولها، ولكنها في المقدمة ذاتها وبين الأسطر تناقض نفسها حين تذكر أن «القصيدة الحيّة تُديم التاريخ بكل أبعاده وتعطيه الخلود...»، إذاً هي تفكر في خلود القصيدة أيضاً، وما كلامها عن ذلك الحفيد الذي سيأتي بعد مئة عام إلا انفعال عاطفي أمْلته عليها ظروف المرحلة، إلا أن هذه النظرة المتناقضة جزء من تحولات نازك الملائكة المعروفة، فهي تقدح الشرارة العظيمة وحين تصبح ناراً يتدفأ بها الكثيرون، تأتي وتنفخ على تلك النار المتوقدة فتطفئها، ومن ثم تعود بعد أيام وتقدح ناراً جديدة.

تعاليم صارمة

وهكذا تواصل تناقضاتها واستفزازاتها الأدبية الكبرى، وهذا الأمر لا يتعلق بالشعر فقط إنما في أفكارها النقدية المهمة أيضاً، فهي الرائدة الكبيرة التي تحمل وعياً عظيماً في التنظير والتجديد والتحديث مقارنةً برفاقها الرواد، حيث قرنت كل دواوينها الشعرية بمقدمات نظرية تطرح من خلالها رؤيتها للتحولات الشعرية، وما مقدمتها لديوان «شظايا ورماد» إلا بيان نقدي للحداثة الشعرية، ومن ثم توالت رؤيتها النقدية في كتابها الأشهر «قضايا الشعر المعاصر»، ولكنها لم تستمر على هذا النمط، إنما تحولت إلى معلمة شديدة السطوة على الشعراء وبدأت تطلق تعاليمها على الأجيال الشعرية: اكتب كذا ولا تكتب كذا. ومن يعد لمقدمة «شظايا ورماد» يجدها استشهدت في السطر الأول بعبارة برناردشو «اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية»، وتتخذ من هذه العبارة قاعدة تسير عليها ملؤها التمرد والتجدد، ولكنها تعود بعد سنوات في كتابها «سيكولوجية الشعر» لفرض قواعد على الشعراء الذين جاءوا بعدها، وبدأت تفرض قوانينها على الحركة الشعرية، مما عرّضها لموجة من النقد الشديد وُصفت بالرِّدة عن مشروع الحداثة، بل إنها وقفت في وجه الكثير من الشعراء الشباب الذين حاولوا الخروج عن أو على مشروع الريادة، وبهذا فإن مشروع التحديث لدى نازك الملائكة مربك بصراحة، فهي تملك الوعي العالي بمشكلات الشعر العربي، وتشخّصه بدقة تامة.

العودة للأصول

ولكنها بعد مدة تعود للأصول كأي عربي متمسك بأصوله التقليدية، والمسألة الأخرى هي المقدرة الشعرية، فهي مقارنةً بوعيها العالي نجد المنجز الشعري في منطقة أخرى إلا في بعض الاستثناءات التي يقول عنها عبد الوهاب البياتي إنها لو استمرت كما بدأت لكانت أعظم شاعرة عربية، ولكنّ قدرتها الشعرية لم تكن بمستوى قدرتها النقدية، وهذا يبدو جزءاً من شخصية نازك المنطوية والمنفتحة والحداثية والتقليدية والمغامرة والمترددة والصامتة والصادحة ولكنها تبقى علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي الحديث وصوتاً مهماً عبَّر عن مرحلته أفضل تعبير، لهذا دخلت نازك لكل مناهج التربية والتعليم في الوطن العربي وحفظ قصائدها كل الفتيان والشباب بوصفها شاعرة مجددة في مرحلة من مراحل شعرنا العربي.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.