«السقراطيّة الجديدة»... عودة الفلسفة إلى الجمهور

على الفيلسوف ألا ينسى أنّ قيمته الفعليّة مستمدة من مدى تأثيره في الجمهور

سقراط
سقراط
TT

«السقراطيّة الجديدة»... عودة الفلسفة إلى الجمهور

سقراط
سقراط

بدأت الفلسفة، وفق ما يخبرنا الكُتّاب الأوروبيّون في شوارع أثينا القديمة، عندما كان سقراط (470 ق.م – 330 ق.م)، المعلّم المحبوب يجتمع بالشبان، وبعضهم من علية القوم مثل أفلاطون وإلسبيادس، ويتحداهم لمساءلة الأوضاع القائمة للعالم من حولهم، في السياسة والطبقات، كما في الأخلاق ومعنى الوجود، طارحاً عليهم أسئلة أساسيّة، ما زالت إلى يومنا هذا موضع أخذ وردّ. وعلى الرّغم من أن سقراط لم يترك إرثاً مكتوباً - إذ نعرف عنه من خلال ما دوَّنه تلميذه أفلاطون - فقد شكلت هذه المجموعة الصغيرة من الشبّان الأثينيين محبِّي الحكمة الذين تحلقوا حول معلمهم المثير للجدل، نواة ما يُعرَف بالفلسفة (الغربيّة)، وأطلقت إلى الفضاء العام في مدينة أوروبيّة بارزة حينئذ مساراً يعتبر الحياة بغير بحث وحديث وشكّ غير جديرة بأن يحياها أيّ إنسان - أقلّه من غير العبيد - ونهجاً منفتحاً للتفكير والتفلسف مع الجمهور وله، خارج الأبراج العاجيّة للأكاديميّات والمدارس العليا.

على أن هذا المزاج الديمقراطيّ في التفكّر التفاعليّ بشؤون الحياة والمجتمع ما لبث أن انزوى تدريجيّاً مع غياب سقراط بقبوله تعاطي السمّ، وفق حكم نخبة أثينا عليه - لإفساده عقول الشبان - وانسحبت الفلسفة تالياً إلى أروقة الخاصّة وغرف الدّرس المنعزلة ومجالس الأثرياء المتنورين، ولم يعد متوقعاً، ولا مسموحاً للعامة، بعبور بوابة العوالم الفلسفيّة، لا بلّ أصبح جزء من الإعداد الفلسفيّ يتعلّق بالتّدريب على استخدام لغة ومصطلحات مغلقة على الجمهور يقتصر إدراكها على ذوي الاختصاص، لا سيّما في العصور الوسطى؛ أي عندما وجد المتعاطون للفلسفة أنّ السلامة في المجتمعات التي تهيمن عليها الأديان تقتضي إبقاء العامة (والسلطات) عند مستوى الظاهر حصراً.

عزل الفلسفة (الغربيّة) - وحاملها العربي/ الإسلامي خلال عصور الظلام الأوروبيّة - عن العامّة، زرع في ذهن الجمهور ردّة فعل سلبيّة تجاه الخطاب الفلسفي بعمومه، وأصبح تعاطيها عند رجل الشارع - وغالب أرباب السلطة - كناية عن إزجاء الوقت بما لا طائل من ورائه، ولا منفعة عمليّة، ومهنة من لا مهنة له.

وقد استمرت هذه الحال إلى وقت قريب، رغم محاولاتٍ بذَلها بعض فلاسفة الأنوار، ولاحقاً كارل ماركس، ورفيقه فريدريك إنجلز، خلال القرن التاسع عشر، لتقريب بعض المفاهيم الفلسفيّة الأساسيّة للناشطين من العمّال والنّقابيين، لكّن تلاميذهما ما لبثوا وخلعوا على الممارسة الماركسيّة للفلسفة غموضاً نخبوياً، وانتهت الماركسيّة بدورها كما أنظمة التفكير الفلسفيّ الأخرى، نادياً مغلقاً على الخاصّة والمتفرغين.

قفزات الألفية الثالثة

وإذا كان الفلاسفة في القرن العشرين قد نجحوا - لعوامل عدّة متقاطعة - في نيل مكانة أكثر قبولاً من الجمهور، وتحوّل بعضهم مثل جان بول سارتر، وجيل دولوز، إلى مشاهير، إلا أنّ ذلك لم ينعكس بالضرورة على الخطاب الفلسفي (الغربيّ)، الذي ظلّ إلى حد بعيد نخبوياً ومتحذلقاً، وساعدت السلطات - لأسباب مفهومة وبشكل مباشر أو غير مباشر - في تكريس إبعاده عن الحياة اليوميّة للمواطنين. ولعلّ قراءة أي عمل لدولوز مثلاً تُظهر سريعاً استغلاق المقاصد على غير المتخصص، والحاجة إلى تدريب مستفيض قبل الإقدام على محاولة عبور النّص واستكناه معانيه.

على أنّ اقتراب الألفيّة الثالثة جلب معه قفزات هائلة في العلوم النظريّة بالاستفادة من تطور تكنولوجيا الاتصال والذكاء الاصطناعي وأدوات البحث العلمي على نحو انتقلت معه مادة العمل الفلسفيّ، ربما من دون اسمها، إلى مجالات الفيزياء وعلوم الأعصاب والجيولوجيا والآثار والرياضيّات والعقول الإلكترونيّة والقانون، فيما انتهت مدارس الفلسفة بالأكاديميات الغربيّة دون مادتها إلى الارتباك، وانقسمت بين الفضاءات الرئيسة الثلاثة لها الألمانية والفرنسيّة والأنجلوسكسونية، إلى مجالات غير مترابطة: في مكان ما تسعى إلى وضع معايير محددة للدّقة أو العدالة أو الحقيقة، دون أن يعبأ بها أحد، وفي مكان آخر تعمل على معالجة قضايا نظرية أو عملية موغلة في التخصص بحيث يتعذّر الاستفادة من معطياتها، أو هي في مكان ثالث لا تزيد عن مصانع خريجين خبرتهم مضغ التراث الفلسفي المتراكم منذ «جمهوريّة» أفلاطون، وكتابة مطولات في المقارنة بين المدارس الفلسفيّة لا يقرؤها أحياناً سوى أفراد معدودين على الأصابع، وينتهي أغلبهم إلى تولّي وظائف في البنوك، أو يعملون مساعدين للسياسيين.

سارتر

على أنّ ثمة شبحاً جديداً يحوم، اليوم، في سماء الفلسفة الغربيّة: الفلسفة الشعبيّة. لقد أدرك بعض أساتذة الفلسفة المعاصرين عبث خروجهم التاريخي عن نهج سقراط، وانطلق بعضهم في البحث عن مناهج وقنوات لأخذ منافع ما تبقّى من مادة علمهم إلى الجمهور، وطرح أفكار حول طرائق يمكن من خلالها لغير المتخصصين - أفراداً ومجموعات لا بل ومجتمعات - الاستفادة من الفلسفة في تفكيك علاقة الإنسان بالعالم حوله، في ظلّ انتهاء الأفكار اليقينيّة الكبرى التي استعان بها أجدادنا على تمضية الوقت، والقناعة المتزايدة باستحالة التنبؤ بالمستقبل بأي درجة مقبولة من الدّقة. فظهرت في ألمانيا مثلاً مدرسة «التوجه أو Orientation Philosophy» التي أطلقها البروفسيور ويرنر ستيغماير وتلميذه الدكتور راينهارد موللر وتخاطب أساساً الأفراد غير المتخصصين، وتمكِّنهم من استخراج خلاصات عمليّة من مجمل النتاج الفلسفي المتراكم، وتوظيفها بعيداً عن المسائل المغرقة في التجريد، للنظر في وسائل أكثر نجاعة عند إدارة تموضعهم من العالم والأشياء والناس والأحداث، ومنح إنسان القرن الحادي والعشرين الأدوات للتعاطي مع المؤقت والعابر والمتغيّر، وتحسين قدرته على اتخاذ القرارات في أجواء عدم التيقّن الغالبة، مع محاولة القبض على الكيفيّة التي تكتسب فيها تلك القرارات (العمليّة) قيمة معنوية وأخلاقية، وكيف تتأثر بالظواهر المستجدّة للعولمة والرّقمنة، وأسرار علاقتها بالميتافيزيقا، ودائماً دون توقع أسباب أو مبررات أو تقييمات عالمية سرمديّة الطابع. أما في فرنسا، فقد توسعت ظاهرة «الفلسفة الشعبيّة» أو «مقاهي سقراط»، وعمد فلاسفة جدد مثل روى مارك سوتيه إلى تعميم الممارسة الفلسفيّة، عبر إصلاح لغة الخطاب الفلسفيّ باعتماد نماذج مبسطة تمكِّن الإنسان العاديّ من استيعاب مغازيها، وكذلك بطرحها موضوعات راهنة وعمليّة، واستخدام قنوات متعددة للربط مع الجمهور، سواء من خلال وسائل الإعلام، أو مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، أو حتى من خلال المقاهي الفلسفيّة، ونزول الفلاسفة من معتزلاتهم إلى الشارع مجدداً. أما في الحيّز الأنجلوساكسوني فقد تبلور ما يُعرَف بـ«الفلسفة العامّة»، وهما فعلياً مدرستان متوازيتان، إحداهما تستهدف جلب الفلسفة إلى حيّز الفضاء العام، عبر تقديم معالجات لمسائل مطروحة وآنيّة في السياسة والقضايا الاجتماعية وأخلاقيات العلم والقانون ومن أشهر ممثليها كورنيل ويست ومارثا نوسباوم وجاك راسيل وينشتاين (ويوازيهم في ألمانيا يورغان هابرماس)، والأخرى بجلب الفلاسفة أنفسهم إلى الأماكن العامة، والانخراط في نقاشات فلسفيّة مع الجمهور غير المتخصص ضمن بيئات غير أكاديميّة على فلاسفة مثل الناشطة جين آدم والسلوفيني سلوفاج جيجيك.

عودة متأخرة لسقراط

جيل دولوز

وتطرح هذه العودة المتأخرة للفلسفة إلى الطريقة «السّقراطيّة» تساؤلات حول التأثيرات بعيدة المدى للاشتباك المُستعاد بين «محبة الحكمة» والجمهور العام، فهل سينعكس توسيع نطاق الجدل الفلسفيّ وقاعدة المنخرطين به إيجاباً على «المحتوى»، أم أنّه سيؤدي في المحصّلة إلى ابتذال الخطاب، وانخراط الفلسفة في دوامة الشعبوي والمسيَّس والمنفعل؟

إن الفلسفة، اليوم - بعد أن فقدت حصريتها في تعاطي الأسئلة الكبرى لمصلحة العلوم الصاعدة - تتطلب أن يصبح الفيلسوف تلميذاً للمعرفة المجتمعية، وألا ينسى أنّ قيمته الفعليّة مستمدة من مدى تأثيره في الجمهور، وأنّه في النهاية جزء من هذا الجمهور، مع الإقرار بأن المحتوى الفلسفيّ يمكن أن يستفيد بقدر كبير من التواصل مع الفضاء العام، أقله لناحيّة طرح الأسئلة، أو إعادة صياغتها، تماماً كما يمكن للجمهور أن يستفيد من الاحتكاك بالفلسفة في العثور على إجابات قد تكون أكثر عقلانيّة - بمعنى التغلّب على الأحكام المسبقة، والمعلومات المضللة، والمنطق الخاطئ، والمواقف الغريزية - تجاه التحديات التي تستمر الحياة باستيلادها له. وقد يكون ذلك أفضل ردّ اعتبار للحكيم سقراط من نخبة أثينا، التي أرعبها أن يبدأ العامة التفكير وطرح الأسئلة.



الندوي: 55 ألف مخطوطة عربية في متاحفنا غير محققة

مجيب الرحمن الندوي
مجيب الرحمن الندوي
TT

الندوي: 55 ألف مخطوطة عربية في متاحفنا غير محققة

مجيب الرحمن الندوي
مجيب الرحمن الندوي

يعد الناقد والمترجم الهندي دكتور مجيب الرحمن الندوي أحد أبرز الوجوه الأكاديمية والثقافية المعاصرة التي تخصصت في اللغة العربية وآدابها عبر قارة آسيا عموماً والهند بشكل خاص. يعمل حالياً أستاذاً للأدب العربي بجامعة «جواهر لال نهرو» العريقة وترأس لعدة سنوات مركز الدراسات الأفريقية والعربية بالجامعة. ترجم إلى العربية روايتي «نهر النار» عن الأردية للروائية قرة العين حيدر، و«الوشاح المدنس» عن الهندية للكاتب فانيشوار ناث رينو؛ فضلاً عن بعض المؤلفات الفكرية مثل «مواطن الحداثة» لديبيش شاكرابارتي، و«فكرة الهند» لسونيل خيلناني. يتحدث العربية الفصحى بطلاقة ويكتب في مختلف الدوريات عن أحدث الإبداعات في الأدب العربي، كما يترأس تحرير دورية «قطوف الهند» التي تصدر بالعربية وتستهدف صنع جسر للتواصل بين الثقافة الهندية والعالم العربي. هنا حوار معه:

> عشت طفولة قاسية في بيئة لا تشجع كثيراً على التفوق العلمي... ماذا عن البدايات الأولى وكيف تجاوزت تلك الصعوبات؟

- نشأت في قرية نائية في شرق بيهار الهندية، حيث كان معظم الناس يعملون بالزراعة، ولا يهتمون بتعليم أولادهم بسبب الفقر وقلة الوعي. والدي، رحمه الله، كان يدرك أهمية التعليم، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة، فأصر على تعليم أبنائه الخمسة. تم اختياري لمدرسة دينية وأكملت المرحلة الابتدائية في «كُتّاب» القرية رغم محدودية الموارد. التحقت بمدرسة في المدينة ثم بـ«دار العلوم بندوة العلماء» في مدينة «لكناو» حيث درست الأدب العربي والمواد الإسلامية. أكملت الليسانس والماجستير في التاريخ الهندي الحديث بالجامعة الملية الإسلامية في نيودلهي، والماجستير الثاني والدكتوراه في الأدب العربي بجامعة جواهر لال نهرو، حيث أعمل حالياً أستاذًا ورئيساً لقسم اللغة العربية. تجاوزت التحديات بفضل دعم عائلتي وإصراري على التعليم وتحقيق النجاح الأكاديمي.

> لماذا اخترت التخصص في اللغة العربية وكيف كانت رحلتك معها؟

- اختياري للتخصص في اللغة العربية كان نتيجة لعدة عوامل متشابكة أثرت في رغبتي واهتماماتي الشخصية. بدأت الرحلة من خلال دروس مدرسة كُتّاب القرية وهو ما تم بالصدفة، لكن شدتني هياكلها اللغوية المعقدة وجمالياتها الأدبية الفريدة. تزايد اهتمامي وتعمقت معرفتي باللغة العربية خلال الدراسات الجامعية، حيث درست النحو والصرف والأدب العربي الكلاسيكي والمعاصر. استمتعت بقراءة الأعمال الأدبية الكبرى في الشعر والرواية والتعرف على أساليب الكتابة المختلفة والقضايا التي تناولها الأدباء والشعراء. ما جعل تخصصي أكثر إثراءً هو التفاعل المستمر مع النصوص العربية، سواء في الدراسات الأكاديمية أو في الحياة اليومية، حيث أستمتع بالترجمة والتنظير والنقد الأدبي. والآن أعتز بثقافتي العربية مثل أي عربي، وقد منَّ الله علي منناً كثيرة بفضل اللغة العربية، وأعد عضويتي في مجلس أمناء «مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية» شرفاً كبيراً لي، كما زرت أكثر من 25 بلداً في آسيا وأوروبا وأميركا.

> لك تصريح مثير للجدل تقول فيه إن اللغة العربية تشكل هوية الهنود، حتى لو كانوا عجماً، ما الذي تقصده بالضبط؟

- لم أقل إن اللغة العربية تشكل هوية الهنود عموماً، بل قلت إن اللغة العربية تشكل هوية المسلمين الهنود بشكل خاص وأنا منهم، وأقصد بالضبط أن اهتمام المسلمين الهنود باللغة العربية كبير جداً بدافع حبهم الشديد للإسلام والقرآن الكريم، والدليل على ذلك انتشار المدارس الدينية في القرى والمدن، وعلى أقل تقدير توجد في الهند أكثر من ثلاثين ألف مدرسة عربية وإسلامية وجميعها تدار بتبرعات أهل الخير من المسلمين، وتعاني هذه المدارس الدينية من نقص شديد في التمويل، وتمر بظروف صعبة جداً خصوصاً بعد وباء الكورونا. ومع ذلك تواصل هذه المدارس تأدية دورها الديني والثقافي، حرصاً على الحفاظ على دينهم وعقيدتهم، وأيضاً تدرس اللغة العربية في أكثر من أربعين جامعة حكومية، ولذلك قلت في أحد حواراتي إن العربية تجري في دماء وعروق المسلمين الهنود، وهم يفتخرون بالانتماء للعربية مع كل ما يعانونه من عوز مالي واقتصادي. وأنجبت الهند في الماضي كبار علماء اللغة العربية والفنون العربية والإسلامية؛ منهم العلّامة مرتضى الزبيدي صاحب «تاج العروس»، والصغاني، والشاه ولي الله الدهلوي، والنواب صديق حسن خان القنوجي، وحميد الدين الفراهي، وغلام علي آزاد البكرامي، وعلي الندوي، وكثيرون ممن لا يأتي عليهم الحصر، وخلّف هولاء مآثر ذهبية في الثقافة العربية الإسلامية في الهند.

> إلى متى يظل حضور اللغة العربية في الهند قاصراً على الفضاءات الأكاديمية والدينية دون أن يشتبك مع الحياة اليومية؟

- حضور اللغة العربية في الهند، كما في كثير من البلدان غير العربية، يرتبط بالاستخدامات الدينية والأكاديمية بشكل رئيسي. تاريخياً، لعبت اللغة العربية دوراً مهماً في الدين والتعليم في الهند، خاصة في العصور الوسطى. تم استخدامها لتدريس الدين الإسلامي والعلوم المتعلقة به، بالإضافة إلى الاستخدام في العلاقات الدبلوماسية والتجارة.

لم تكن العربية في يوم من الأيام اللغة الرسمية للهند حتى في فترة حكم السلاطين المسلمين الطويلة الممتدة إلى ثمانية قرون، ولكنها كانت لغة الكتابة والتأليف العلمي، وظل نطاق استخدامها الحديثي محصوراً في بعض العائلات فقط، فلم تصبح لغة الحديث اليومي. وقد رجّح الاستعمار البريطاني للهند الكفة لصالح اللغة الإنجليزية التي سرعان ما أصبحت اللغة المهيمنة على كل الفضاءات العلمية والثقافية والسوقية، محلياً وعالمياً، مما أضر باللغة العربية كثيراً.

>لماذا تراجع دور «المجمع العلمي العربي – الهندي» الذي أسسه مختار الدين أحمد، رئيس قسم اللغة العربية في جامعة عليكره عام 1976؟

- هذا المجمع كان مؤسسة مهمة تهدف إلى تعزيز دراسة اللغة العربية والأدب العربي في الهند، وكان له دور بارز في تعزيز التواصل الثقافي بين العالمين العربي والهندي. ومع ذلك، تراجع دوره يمكن أن يُعزى إلى عدة عوامل منها تحديات التمويل وتراجع الهبات. ومن إنجازات المجمع إصدار مجلة علمية محكمة «مجلة المجمع العلمي العربي»، التي يشرف عليها رئيس قسم اللغة العربية بجامعة عليكره، وهي تعد من أرقى المجلات العلمية الصادرة في الهند باللغة العربية ويرأس تحريرها حالياً علامة الهند الأستاذ محمد ثناء الله الندوي.

> أطروحتك للدكتوراه تتناول المواضيع الاجتماعية المشتركة بين الرواية العربية ونظيرتها الأردية في الفترة من 1900 حتى 1950... ما أبرز نقاط التلاقي في هذا السياق؟

- من بين أبرز نقاط التلاقي في هذا السياق النضال ضد الاستعمار الغربي، والبحث عن الهوية الوطنية. وكتب الروائيون من الجانبين عن الطبقة الوسطى، والتحولات في النسق الاجتماعي ومواقف المجتمع من حقوق النساء وتعليمهن ومشاركتهن في الحياة العامة. وكذلك التغيرات الاقتصادية والتحديات الاجتماعية مثل الفقر والبطالة، والتأثيرات الاجتماعية للتحولات الاقتصادية مثل الهجرة الريفية إلى المدن، والحركات الفكرية والثقافية التي قامت في كلا القطرين في ظل الاستعمار الغربي.

> ماذا عن أوجه الشبه والاختلاف بين الأدب العربي ونظيره الهندي في الوقت الراهن؟

- الهند قارة بأكملها وتزخر بتعددياتها اللغوية الهائلة، فليس هناك أدب هندي واحد، بل آداب؛ منها الهندي، والأردو، والبنغالي، وغيرها (طاغور كتب باللغة البنغالية وحاز جائزة نوبل)، والأدب العربي هو أدب كل العرب. ورغم التشابهات في التراث الثقافي والشعبية الدولية، يظل الأدب العربي والأدب الهندي يتمتعان بخصوصيتهما الثقافية واللغوية التي تميزهما وتجعلهما يعبران عن تجارب وثقافات فريدة تعكس التنوع الثقافي في كل منطقة.

> أنت متابع جيد للرواية العربية الحديثة، ما أبرز ملاحظاتك عليها ولماذا لم تنل حتى الآن مكانتها العالمية مقارنة بنظيرتها الهندية المكتوبة بالإنجليزية؟

- أعتقد أن الأدب العربي الحديث والمعاصر، لا سيما الرواية العربية، لا يعاني من أزمة الإبداع أبداً، وإنما يعاني من أزمة ثقافية تتمثل في تدني مستوى القراءة في العالم العربي وعدم الترجمة على نطاق واسع. وأتفق مع المفكر الكبير إدوارد سعيد الذي قال إن الرواية العربية المعاصرة رواية عالمية وثرية، وكثير من الروائيين يستحقون جائزة نوبل، فهي أزمة ثقافية بالدرجة الأولى.

الروائيون العرب لم يقصروا قط في الإبداع، وبالفعل هناك روائيون عالميون يكتبون روايات مدهشة لو أنها كُتبت باللغات الأوربية لعُدّوا نجوماً في بلادهم. قال لي صديقي الروائي السوري الكبير نبيل سليمان إن كتاباً في أوروبا يصدر على الأقل في 10 آلاف نسخة، في حين لا تتجاوز، في أحسن الاحوال، طبعة كتاب عربي 500 نسخة، وهذا يدل على مدى الإهمال والتهميش الذي يعيشه المبدع العربي في وطنه. أنا في الحقيقة معجب جداً بمستوى الإبداع الروائي لدى الروائيين الشباب الذين أتقنوا فنهم أيما إتقان.

للأسف لا تتم ترجمة أعمالهم، إلا نادراً، للغات العالمية فيظلون مغمورين للقارئ العالمي. ولولا ترجمة روايات نجيب محفوظ إلى الإنجليزية لظلت شهرته محصورة في العالم العربي. أما الهنود الذين يكتبون باللغة الإنجليزية فتكون أعمالهم في متناول القارئ العالمي مباشرة، فتحقق لهم الشهرة والقبول على المستوى العالمي.

> سبق أن نوهت بوجود كنز معرفي من آلاف المخطوطات العربية في الهند التي تنتظر تحقيقها ونشرها. ما أبرز تلك المخطوطات، وما الذي يعيق الاهتمام بها؟

على أقل تقدير، هناك ما يزيد على 55 ألف مخطوطة عربية، في مواضيع متنوعة، وكانت هناك جهود لفهرستها، ولا أدري إن تمت فهرستها أو لا، الأمر الذي يعيق الاهتمام بها هو قلة الاعتناء بالتراث بشكل عام بسبب التدهور الاقتصادي والمعيشي والثقافي الذي يعاني منه المسلمون اليوم في الهند، فليست هناك جهود مؤسسية للاعتناء بها كما ينبغي. ويعود تاريخ بعض المخطوطات إلى القرن الأول الهجري، وعلى رأسها مخطوط «تاريخ دمشق» لابن عساكر، و«التبيان لتفسير القرآن» لأبي جعفر الطوسي، و«تحفة الغريب» للدماميني.

> أين توجد تلك المخطوطات تحديداً؟

- يحتوي «متحف سالار جونغ» في مدينة «حيدر آباد» على بعض أنفَسِ المخطوطات العربية التي تقدر بـ2620 مخطوطة، وكذلك مكتبة «خدا بخش» الشرقية العامة في مدينة «بتنه» التي تحوي نحو 9 آلاف مخطوطة وتتوزع المخطوطات الأخرى على مكتبات جامعات دلهي مثل الجامعة الملية الإسلامية و«همدرد»، و«مولانا أزاد» في جامعة عليكره الإسلامية، و«دار العلوم» و«الجمعية الآسيوية» في كلكتا التي أسسها الإنجليز.

>ما المعايير التي تحكم خياراتك بصفتك مترجماً عند نقل أعمال بعينها من الأردية إلى العربية والعكس؟

- معظم الأعمال التي قمت بترجمتها كانت جزءاً من مشروع الترجمة لدائرة السياحة والثقافة بأبوظبي، وأفضل هذا النوع من الترتيب لأنه يجنبي كثيراً من المشقات والصعوبات الإدارية، وسبق أن تم اختيارها من قبل لجنة محكمة. وكلما أخُيّر بانتقاء كتاب للترجمة أختار الذي يعجبني ويشدني إليه، وأعتقد أن أي كتاب قمت بترجمته يجب أن يكون شائقاً ومفيداً على السواء.

> تترأس تحرير المجلة الفصلية «قطوف الهند» التي تصدر بالعربية منذ ما يقرب من عامين لتكون «جسراً للتواصل بين أبناء الثقافة الهندية والعالم العربي»، وتهتم بنشر الأدب العربي، ونظيره الهندي مترجماً إلى العربية... كيف تقيم تلك التجربة، وهل نجحت المجلة في تحقيق أهدافها؟

- أحدثت مجلة «قطوف الهند» الإبداعية دويّاً كبيراً في أوساط اللغة العربية في الهند، وعُقدت عليها آمال كبيرة من جهة تنشيطها بيئة الإبداع لدى الشباب من كتّاب العربية، وبالفعل لوحظ إقبال كبير لدى أدباء على كتابة القصة القصيرة، والمجلة ما زالت فتية تجاوزت بالكاد سنتين من عمرها، وما زالت أمامنا طريق طويلة.