«جاذبية الصفر»... توظّيف التاريخ والميثولوجيا في سرد الخراب

عبد الإله يروي أحداث مائة عام من تاريخ العراق الحديث

«جاذبية الصفر»... توظّيف التاريخ والميثولوجيا في سرد الخراب
TT

«جاذبية الصفر»... توظّيف التاريخ والميثولوجيا في سرد الخراب

«جاذبية الصفر»... توظّيف التاريخ والميثولوجيا في سرد الخراب

يتبادر إلى الذهن أولاً، ونحن نقرأ رواية «جاذبية الصفر» للكاتب القاص والروائي والمترجم لؤي عبد الإله، سؤال: هل ما يكتبه الكتّاب العرب في المهاجر يعدّ أدباً مهجرياً كما سبق في القرنين التاسع عشر والعشرين، بما أطلق عليه أدب المهجر؟ أظن أن الأمر مختلف الآن، فما كان في السابق يحتكم إلى اشتراطات الكتابة غير ما هي عليه الآن، كما يحتكم إلى المكان والزمان المنقطع في اتصاله مع الوطن العربي، وكأن أدب المهجر آنذاك شكّل حالة مختلفة في رؤيته للعالم عمّا يُكتب في الوطن، وكتاب عيسى الناعوري «أدب المهجر» يلقي بظلاله على ذاك الأدب بتوسع، في حين أنّ ما يُكتب اليوم في المهاجر لا يُعد أدبياً مهجرياً، إذا سلّمنا أن الكتابة اليوم هي عابرة للأزمنة والأمكنة، كما هي عابرة للأنواع.

تقوم رواية «جاذبية الصفر»، التي صدرت عن دار «دلمون الجديدة» في دمشق للعام 2023، وتقع في 512 صفحة، على تمهيد وثمانية وعشرين مظروفاً أو رسالة، وعنوان الرواية جاء مستلاً من عنوان المظروف الثالث. ولعل عنوان الرواية «جاذبية الصفر» هو إشارةُ العودة إلى نقطة البداية في تسلسل الأحداث، وعلى القارئ أن يرتّب الأحداث في الرواية من جديد كما هو الواقع في حقيقته، أي تسلسلاً منطقياً وليس افتراضياً أو تخيّلاً كما اشتغل عليه الكاتب، أو لعلها تشير إلى أحداث متسلسلة بدأت منذ احتلال بريطانيا للعراق وانتهاء بحكم صدام حسين، وكأن صدام قد أعاد حركة التاريخ إلى نقطة الصفر.

وأحداث الرواية في أغلبها تقوم على لحظات التذكّر، أو ما يسمّى في تقنيات الرواية الحديثة الاسترجاع، ذاك الماضي المحمّل بالحرب والهزيمة والدمار والخيانة والقتل والفقر، أما الحاضر فهو حاضر بائس يراقب تحولات اللحظة الراهنة في قلق وترقّب مستمر، حيث يجتمع عدد من الشخصيات المهاجرة إلى بريطانيا، في بيت الدكتورة عالية إحدى شخصيات الرواية، وتلك الشخصيات قادمة أو مهاجرة من العراق إلى لندن، وهي شخصيات لا تنتمي إلى طائفة أو مذهب أو آيديولوجيا، وإنما جمعتهم أُسر وصداقات في مجالس ومقاهٍ وأرصفة في مدينة لندن، ينشغلون في أحاديث وحوارات فيما بينهم عن الحرب وعبثية الحياة والمستقبل المجهول، وكثيراً ما يجد القارئ أن ثرثارتهم أشبه ما تكون بـ ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ.

يفتتح الكاتب لؤي عبد الإله روايته بقول هوميروس: «الآلهة تحوكُ النحسَ لشعبٍ ما، كي تملكَ الأجيالُ اللاحقةُ شيئاً ما تغنّي عنه». وهذا المفتتح عتبة صغرى أمام عتبات كبرى تقوم عليها الرواية، أو هو مفتتح يوقع القارئ في فخ الكتابة، عن حقبة تاريخية معاصرة مرّ بها العراق منذ الاحتلال البريطاني إلى لحظة سقوط بغداد، أي ما يقارب من مائة عام، وليس هذا يعني أنها رواية تاريخية، بل هي روايةُ تسريد التاريخ، حيث تكشف عن أحداث مرّ بها العراق من زاوية، ومن زاوية أخرى تكشف عن مجتمع مهاجر انشغل بهموم الحرب كما انشغل في ثرثراته اليومية.

في فصل «تمهيد» من الرواية أشبه ما يكون مفتتحاً لمتواليات سردية تقوم على لحظات التذكّر في استدعاء الماضي، وعلى اللحظة الراهنة في إدارة الحوار بين الشخصيات، ففي التمهيد يلعب القدر أو الصدفة الحتمية انتهاك خصوصية الآخر، ذاك المسافر، العائد من برلين إلى لندن، يأخذ حقيبة شخص آخر، تلك الحقيبة التي تشبه حقيبته، «فلونها الأسود وحجمها وعلامتها التجارية لا تشي بأنها حقيبة أخرى». (ص7) وعند وصوله البيت يكتشف أنها ليست حقيبته، فيدفعه الفضول إلى فتحها، وسط دهشة زوجته التي قرأ في عينيها «التوقف عن المضيّ في العبث بأشياء شخص غريب». (ص8) إلا أن تبريره لزوجته يأتي في باب الفضول ليس أكثر، فيجد في الحقيبة «رزماً متجاورة من المظاريف القديمة، قابعةً في قاع الحقيبة، ومخبّأةً تحت ورق بلاستيكي سميك وشفاف، غطى بالضبط طولها وعرضها». (ص8)، سحب الرزمة فكانت عبارة عن «مظاريف خمسة مشدودة معاً بشريطٍ فضّي على شكل صليب، وعلى وجه الأول منها نُقشت كلماتٌ إنجليزيةٌ غامضة في معناها وطريقة كتابتها.استطعتُ أن أقرأ اسم المرسَل إليه فقط، من دون أن يكون هناك أثر لعنوانه: ج. م». (ص8)

يفتح السارد المظاريف فيجد ثمانية وعشرين مظروفاً، يقوم بترجمتها، ومن هنا تبدأ فصول الرواية، ولكل فصل عنوان، ولبعض الفصول عناوين وتواريخ، وتلك العناوين تكشف عن أحداث تتعلق بغزو العراق عام 1990، وانتهاء بسقوط بغداد أو العراق، وهذا التمهيد أشبه ما يكون بإزاحة الستار عن مسرحية مشغولة بمشاهد سينمائية.

لا تحمل الرواية إدانة مباشرة لـصدام حسين ونظامه البائد، وإنما تلك المشاهد الساخرة التي تلقي ظلالها على شخصية صدام حسين تشير إلى فعل الإدانة، في حين تفتقد الرواية لفعل الإدانة للاحتلال الأمريكي تحت أي مسوغ من مسوغات الحرب على العراق، وتترك للقارئ موقفه من الحرب والمحتل معاً.

ما يسجّل لهذه الرواية تميّز الكاتب بالإمساك بخيوط شخصياتها وأحداثها، وهي الرواية التي جاءت في 512 صفحة، أي رواية بهذا الحجم قد تُرهق القارئ في تفاصيلها الصغيرة، وكأن الكاتب سعى إلى إنجاز عمل ملحمي روائي بحجم الكارثة التي حلّت بالعراق، ولو عمل على إصدار الرواية في أجزاء ثلاثة لخفف من وطأة القراءة المشتبكة بتفاصيل الحرب وحياة شخصياتها، وإن كانت الرواية أشبه ما تكون بحلقات أو حبّات عِقد محكمة الصنع إن فرطت حلقة أو حبّة ينفرط العِقد كله، وهذا قد يبرر للكاتب أن يصدر روايته بهذه الحجم. كما يسجّل للكاتب تميّزه باستخدام تقنيات السرد الحديث، من استرجاع واستباق وقطع وحوار ومونولوج وتقارير إخبارية ووثائق وغيرها، وقد وظّفها توظيفاً متقناً، وإن دلّ على شيء فإنما يدل على وعي الكاتب في لحظة الكتابة السردية، كما يدلّ على مرجعيته الثقافية الواسعة، كي تستوعب كل تلك الأحداث، وأيضاً ما يسجّل للكاتب تلك اللغة الشاعرية التي ترقى بخيال القارئ وذوقه، وهي من محمولات العمل الأدبي السردي المتقن.

تبرز شخصية الدكتورة عالية وهي تستذكر أيام بغداد وأيام الشباب، وهي تلتقي عائلتها وأصدقاءها في بيتها، ويرتدّ بنا السرد إلى الماضي من خلال السارد العليم، وتتعدد الشخصيات (لورا زوجة السارد يوسف، وأسعد وزوجته مريم وابنته أمل ووالديه، وسوزان، ومنى، والعم، وماهر، وهاجر وسارة وزوجها جوناثان وهما ابنتا الدكتورة عالية، وآدم حفيد عالية، وكريس، وعدنان، وسعاد، ووداد، وهادي، والدكتور يوسف الصباغ، وكاف، وسوزان، ومنى، والطبيب هاني، وغيرهم)، عدا عن الشخصيات السياسية والعسكرية التي خاضت الحرب في العراق، والشخصيات التي قامت بدور الوساطة قبل الحرب، أي هناك عشرات الأسماء من الشخصيات التي تتحرك على مساحة واسعة من الأحداث، والتي تمتد مائة عام من عمر العراق.

تقدم الرواية نفسها للقارئ المثقف وليس للقارئ العادي، فتقوم على ثيمات متعددة من الأساطير (مثيولوجيا) وعلى مرجعيات دينية ووثائق وتقارير صحفية، وتقترن الأساطير القديمة باللحظة الراهنة للأحداث في العراق، وفيها إسقاطات على الواقع، فيبرز اسم صدام في الرواية بـ«سَدَم» كما يلفظه الأوروبيون، وهو نوع من السخرية بشخصه، بوصفها أسطورة، فلم يعرف «سَدَم» متى ولد، ويستعير يوم ميلاده من صديقه الذي كان يسميه أمام الآخرين بـ«توأمي الذي لم تلده أمي» (ص134)، وهو يتيم الأب، وعلى لسان السارد: «لا بدّ أنه قارن نفسه بالنبي «محمد» (ص)، فهو مثله يتيم الأب قبل ولادته». (ص167) وهو أيضاً أشبه ما يكون «بسرجون» المتوفى عام 2279 قبل الميلاد، فسرجون يعود إلى «الحياة في نسخة هزلية أخرى بعد أكثر من أربعة آلاف سنة وفي بقعة الأرض نفسها». (ص168).

تنتهي الرواية بالمظروف الثامن والعشرين بعنوان «المظروف الأخير: أخبار متأخرة» على جملة: «لنشرب في صحة أحبابنا الأحياء، قالت الدكتورة عالية، وهي ترفع كأسها شبه الفارغ، وللراحلين الذكر الحسن». (ص509) هنا لا يشعر القارئ أن للرواية نهاية مغلقة، بل نهاية مفتوحة على التأويل؛ وهذا ما يدفع بالقارئ إلى إعادة ترتيب أحداثها من جديد بصورة منطقية أو واقعية كما ذكرت سابقاً.

يبقى القول أن الرواية عمل سردي ملحمي وظّف التاريخ والميثولوجيا توظيفاً متقناً ومتميزاً، وهو العمل الثاني للمؤلف بعد رواية «كوميديا الحب الإلهي».

* ناقد أردني


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
ثقافة وفنون صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة

شوقي بزيع
ثقافة وفنون قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة

دلايات ودبابيس جنائزية من الإمارات

كشفت أعمال التنقيب في الإمارات العربية المتحدة عن سلسلة كبيرة من المدافن الأثرية حوت كثيراً من الحلي والمجوهرات المصوغة من الذهب والفضة والنحاس والبرونز والرصاص

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون أغلفة روايات القائمة الطويلة

إعلان القائمة الطويلة لـ«بوكر» العربية

شهدت الدورة الحالية ترشيح كتّاب إلى القائمة الطويلة وصلوا إلى المراحل الأخيرة للجائزة سابقاً.

«الشرق الأوسط» (لندن)

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».