الشكوكية في خدمة الإيمان

في القرن الـ16 استعيدت نصوص الإغريق حولها وترجمت إلى اللغات الأوربية

مونتين
مونتين
TT

الشكوكية في خدمة الإيمان

مونتين
مونتين

تاريخ الفلسفة مليء بالقصص العجيبة، ومنها ما سنحكي عنه اليوم عن خدمة الشكوكية للإيمان في فترة ما. هذا يستفز الأذن ويبدو نشازاً، لكن الشك الذي يتضمن خصومة أساسية مع الإيمان قد خدم كسلاح في يد الكاثوليك مع ثورة حركة الإصلاح اللوثرية في ألمانيا.

إذا كانت الفلسفة البريطانية هي التجريبية، وإذا كانت المثالية هي فلسفة ألمانيا، فما هي صفة الفلسفة الفرنسية؟ إنها بلا شك الفلسفة الشكوكية، التي سبقت عصر ديكارت، بل يمكن أن نقول إن بدايتها كانت مع ميشيل دي مونتين الذي عاش ما بين 1533 - 1592، وهو أيضاً مخترع المقالة الأدبية الحديثة.

يعتمد العلماء المتخصصون عادة على أطول مقال فلسفي كتبه مونتين ككاشف عن فلسفته، ألا وهو «اعتذار لرايمون سيبون»، وعن خطه الفكري. ونظراً لأن «الاعتذار» هو أطول مقالات مونتين وأكثرها فلسفية، فقد تعامل معه العديد من العلماء باعتباره خلاصة لفكر مونتين، وتعاملوا أيضاً مع استعراضه للشكوكية على أنه دليل على التعاطف الشخصي من قِبل المؤلف.

«الاعتذار» كتب بناءً على طلب من الأميرة الكاثوليكية مارغريت للدفاع عن اللاهوت الطبيعي، فرايمون سيبون الذي عاش ما بين 1385 - 1436 هو عالم لاهوت كاتالوني ترجم مونتين أعماله عام 1569. يهدف دفاع مونتين عن سيبون، جزئياً على الأقل، إلى دعم الأميرة مارغريت في الدفاع عن إيمانها الكاثوليكي ضد الإصلاحيين البروتستانت.

ضمن «الاعتذار»، يناقش مونتين وجهة نظر سيبون الذي قرر أن مبادئ الإيمان يمكن إظهارها من خلال العقل الطبيعي. الاعتراض الأول الذي يؤطره خصومه هو أن المسيحيين لا ينبغي أن يدعموا إيمانهم بعقل طبيعي لأن الإيمان له أصل خارق للطبيعة، إنه نعمة إلهية، فالحجة عند البروتستانت هي الضمير وليس العقل. واعتراضهم الثاني هو أن حجج سيبون ستفشل في إثبات العقائد التي يزعم دعمها.

ديكارت

أما الاعتراض الأول فيعتمد على نزاع حول معنى الإيمان، والاعتراض الثاني يتوقف على نزاع يتعلق بقوة حجج سيبون. تعامل مونتين مع الاعتراضين بأن تنازل عن أشياء ورفض أشياء أخرى من كلام الخصوم. رداً على الاعتراض الأول، يقر مونتين بأن الإيمان هو في الواقع نعمة إلهية، ولكنه ينفي استنتاج المعترض بأن الإيمان لا يحتاج إلى دعم عقلاني. واستجابة للاعتراض الثاني، تقدم مونتين بنقد شكوكي يتحدى قوة العقل لإثبات أي شيء بشكل قاطع، ليس فقط في مجال العقيدة الدينية، بل في أي مجال من مجالات الفهم البشري.

من أين أتته هذه الشكوك؟

في القرن السادس عشر جرى استعادة النصوص الشكوكية للإغريق الأوائل وترجمت إلى اللغات الأوربية، وكانت هناك مدرستان، المدرسة الأكاديمية والمدرسة البيرونية، وأثنى مونتين على الأخيرة لفائدتها في السياق الديني، ووصفها بأنه لا يوجد شيء في مخترعات الإنسان يملك من الصدق والفائدة مثلما تملك البيرونية. وأنها تقدم الإنسان عرياناً وفارغاً، خارجاً من كبريائه، معترفاً بضعفه الطبيعي، مع كونه يبقى قادراً على تلقي العون من خارجه، مُجرداً من المعرفة البشرية في نفسه، بعد أن تعطلت قدرته على إصدار الأحكام فانفسح المجال للإيمان من خلال تقويض دعاوى العقل. وهكذا تُجهز البيرونية بنية الإنسان لاستقبال الوحي الإلهي.

مع هذا الارتباط الذي يرسمه مونتين بين النقد البيروني للعقل، واحتضان الإيمان في غياب أي أسس منطقية للفصل بين النزاعات الدينية، مال بعض المؤرخين من مثل ريتشارد بوبكن وفريدريك براهامي إلى وصفه بأنه «مؤيد للإيمانية الشكوكية»، بينما ذهبت البروفسورة آن هارتل إلى أنه لم يكن مؤيداً للإيمان، وأن أولئك الذين نسبوه إلى «الإيمانية الشكوكية» غالباً ما يأخذون عرضه للبيرونية وفائدتها في سياق مسيحي تعبيراً عن وجهة نظره الشخصية حول الدور المحدود للعقل في سياق الإيمان، وأن الأمر ليس كذلك.

نص مونتين جاء في سياق «الاعتذار» وتأييد مونتين للبيرونية وفائدتها في السياق الديني هو جزء من الرد على الاعتراض الثاني على سيبون، فقد انطلق من فرضية أن كل البراهين العقلية المزعومة ستفشل في إظهار صحة العقيدة الدينية وليس هذا محصوراً بجهود سيبون المحددة لإثبات مبادئ الإيمان.

وثمة أدلة تشير إلى أن تأييد مونتين لمذهب البيرونية يجب أن يُفهم في سياق خطاب إلى متلقٍ مقصود بهذا المقال. بعد عرضه المفصل للبيرونية وقدرتها على دعم نسخة إيمانية من الكاثوليكية، يخاطب مونتين شخصاً غير مسمى باعتباره ذلك المتلقي المقصود، ويفترض عادةً أن يكون هذا المرسل إليه هو الأميرة مارغريت. في خطاب مونتين للأميرة، يصف عرضه المتعاطف للبيرونية بعبارات متناقضة، واصفاً إياها بـ«خدعة المبارزة النهائية» و«السكتة الدماغية اليائسة» التي يجب استخدامها «بحذر»، وفقط عندما تكون «الملاذ الأخير». وفي مواضع أخرى، يحث مونتين الأميرة على تجنب الحجج البيرونية والاستمرار في الاعتماد على الحجج التقليدية للدفاع عن لاهوت سيبون الطبيعي ضد الإصلاحيين البروتستانت، ويحذر من عواقب تقويض العقل دفاعاً عن الإيمان الكاثوليكي.

بعد إعادة مونتين الصياغة لأنماط الشكوكية، أكمل عمله بإعادة صياغة مشكلة معيار الصواب والخطأ، وهل هو العقل أم الحس أم الضمير، مقرراً أن الحكم على المظاهر التي نتلقاها من الأشياء، يحتاج إلى أداة حاكمة، وللتحقق من هذه الأداة، نحتاج إلى برهان، أي أداة للتحقق من الظاهرة، وبالتالي فنحن في دائرة مغلقة. إذا كانت الحواس لا يمكن أن تكون بمثابة معيار للحقيقة، يتساءل مونتين عما إذا كان العقل قادراً على القيام بدور المعيار، ثم يخلص إلى أن الإثبات يؤدي إلى تسلسل لا متناهٍ، وأن تعليق الحكم، هو الرد التقليدي الشكوكي على غياب معيار مناسب للمعرفة. تعليق الحكم يبقي قضية الإيمان خياراً مقبولاً عنده، كموقف عملي يستند على الضمير وشيء من دعم العقل.

* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

آل الشيخ يكشف عن أعضاء «جائزة القلم الذهبي للأدب»

المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
TT

آل الشيخ يكشف عن أعضاء «جائزة القلم الذهبي للأدب»

المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)

كشف المستشار تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية، الأربعاء، عن أعضاء لجنة «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، والتي تهدف إلى إثراء صناعة السينما بالمنطقة، ودعم المواهب الإبداعية في كتابة الرواية من جميع الجنسيات والأعمار.
وتَشكَّلت لجنة الجائزة من أعضاء يملكون خبرات واسعة في مجالات الأدب، والكتابة السينمائية، والإنتاج والإخراج السينمائي، حيث جاءت برئاسة الأديب والروائي السعودي الدكتور سعد البازعي، والروائي والمترجم والسيناريست السعودي عبد الله بن بخيت نائباً له.

وتضم اللجنة في عضويتها كلاً من الكاتب والروائي السعودي عبده خال، والروائي الكويتي سعود السنعوسي، والروائي المصري أحمد مراد، والروائية السعودية الدكتورة بدرية البشر، والكاتب والسيناريست السعودي مفرج المجفل، والكاتب والسيناريست المصري صلاح الجهيني، والناقد السينمائي المصري طارق الشناوي، والسيناريست المصري شريف نجيب، والخبير عدنان كيال مستشار مجلس إدارة هيئة الترفيه، وكاتبة السيناريو المصرية مريم نعوم، والمخرج المصري محمد خضير، والمنتج السينمائي المصري أحمد بدوي، والمخرج المصري خيري بشارة، والمنتج اللبناني صادق الصباح، والمخرج السينمائي المصري مروان حامد، والمخرج والمنتج السينمائي السعودي عبد الإله القرشي، والكاتب والسيناريست المسرحي السعودي ياسر مدخلي، والكاتب والروائي المصري تامر إبراهيم.

وتركز الجائزة على الروايات الأكثر جماهيرية وقابلية لتحويلها إلى أعمال سينمائية، مقسمة على مجموعة مسارات؛ أبرزها مسار «الجوائز الكبرى»، حيث ستُحوَّل الروايتان الفائزتان بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين، ويُمْنح صاحب المركز الأول مبلغ 100 ألف دولار، والثاني 50 ألف دولار، والثالث 30 ألف دولار.

ويشمل مسار «الرواية» فئات عدة، هي أفضل روايات «تشويق وإثارة» و«كوميدية» و«غموض وجريمة»، و«فانتازيا» و«رعب» و«تاريخية»، و«رومانسية» و«واقعية»، حيث يحصل المركز الأول على مبلغ 25 ألف دولار عن كل فئة بإجمالي 200 ألف دولار لكل الفئات.
وسيحوّل مسار «أفضل سيناريو مقدم من عمل أدبي» العملين الفائزين بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين سينمائيين مع مبلغ 100 ألف دولار للأول، و50 ألف دولار للثاني، و30 ألف دولار للثالث.
وتتضمن المسابقة جوائز إضافية أخرى، حيث سيحصل أفضل عمل روائي مترجم على جائزة قدرها 100 ألف دولار، وأفضل ناشر عربي 50 ألف دولار، بينما يُمنح الفائز «جائزة الجمهور» مبلغ 30 ألف دولار، وذلك بالتصويت عبر المنصة الإلكترونية المخصصة.