أدب الجريمة يهيمن على عالم الرواية كماً ومبيعاً

كُتابه يرون أن هدفهم توسيع مساحة الوعي بالعدالة

«أدب الجريمة» له الهيمنة في عالم الرواية من ناحية الانتشار
«أدب الجريمة» له الهيمنة في عالم الرواية من ناحية الانتشار
TT

أدب الجريمة يهيمن على عالم الرواية كماً ومبيعاً

«أدب الجريمة» له الهيمنة في عالم الرواية من ناحية الانتشار
«أدب الجريمة» له الهيمنة في عالم الرواية من ناحية الانتشار

إذا كانت الرواية تلقى حالة من الرواج في الثقافة العربية منذ سنوات، حتى أن الناقد الراحل الدكتور جابر عصفور سمَّاها، كما هو معروف: «ديوان العرب»، فإنه يبدو أن «أدب الجريمة» تحديداً تظل له الهيمنة داخل عالم الرواية من ناحية الكم والمبيعات.

تُقبل الأجيال الجديدة على تلك النوعية من الإبداع بحثاً عن أجواء التشويق والإثارة النفسية المعتمدة على جريمة قتل غامضة، ثم عمليات البحث عن القاتل؛ لكن السؤال الذي يفرض نفسه، خصوصاً في ظل «إدمان» بعض المراهقين هذا النوع من الكتابة: هل يمكن أن يتحول القارئ إلى مجرم تأثراً بأجوائها؟ وما سر اكتساح هذا اللون من الإبداع مبيعات الأدب حول العالم، وليس عربياً فقط؟

في هذا التحقيق، استطلعت «الشرق الأوسط» آراء كتاب ونقاد وناشرين حول «أدب الجريمة» وما قد ينطوي عليه من مخاطر تؤثر نفسياً في قارئه.

ميرنا المهدي (كاتبة شابة، ومن مؤلفاتها سلسلة أعمال «تحقيقات نوح الألفي»، و«صديقي السيكوباتي»، و«دليل جدتي لقتل الأوغاد») تقول: «لطالما راودتني قصة أن الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان تعرض لمحاولة اغتيال بسبب تأثر أحد مشاهدي فيلم Taxi Driver (سائق التاكسي) بمعاناة البطل، وقرر أن ينفِّذ محاولة اغتيال كبيرة مثله، حتى يصير بطلاً في عين المجتمع، وعين الفتاة المعجب بها. أيعني هذا أن أعمال الجريمة هي سبب رئيس في إلهام القارئ المختل بتنفيذها؟ لا أعتقد؛ فارتكاب جريمة يتطلب كثيراً من العوامل النفسية والاجتماعية حتى يُقبل عليها أي شخص مختل. ما من شخص سوي سيقرأ رواية أو يشاهد فيلماً ويقرر فجأة أن ينفذ الجريمة نفسها. قد يصير هذا العمل هو القشة التي قصمت ظهر البعير لا أكثر. إلا أن العكس صحيح، فقد تعرض رواية جريمة أو قضية تؤثر على عقلية القارئ بالإيجاب، أو يرى فيها موعظة ما تجعله يعيد التفكير قبل إيذاء أحد. هناك كثير من المسلسلات البوليسية والوثائقية ساهمت في فضح مخططات المجرمين والقتلة المتسلسلين، مما جعل المشاهدين أكثر تيقظاً وحذراً، وعليه تمكنوا من تجنب الوقوع في فخاخ المحتالين والسفاحين بفضل تلك الأعمال المفصلة، هذا إلى جانب فضل كثير من الأعمال التي ساهمت في رفع وعي المجتمع بالعوامل القادرة على خلق مجرم، مثال ذلك أعمال مثل (سايكو) و(صمت الحملان) التي حمَّست علماء النفس والجريمة لتوسيع أفق البحث وعرضها على المجتمع ليحمي أفراده».

نهى داود (متخصصة في أدب الجريمة)، تقول: «إن تأثير النص الروائي يتسع ويتمدد بمرونة كأي عملية إبداعية يشترك فيها الطرفان، الكاتب والقارئ، ليحققا أكبر قدر من التماهي، فليس كافياً أن يكون النص مكتوباً بشكل إبداعي ويحتوي على أفكار ورؤى قيِّمة وذات تأثير ممتد، إن لم يكن القارئ على قدر الإبداع الفكري والمرونة والانفتاح لتقبل النص والتفاعل معه والتماهي فيه. وفي رأيي: تأثير النص يتحقق من خلال طيف واسع يبدأ بتحقيق المتعة دون تقديم أية رسالة. فالمتعة في حد ذاتها رسالة كافية في كثير من الأحيان، والرواية هي فن ترفيهي في المقام الأول، إن انتفى عنه ركن المتعة تهاوى مهما كان علوه. ثم ترتقي مستويات التأثير لتتخطى المتعة، وتمتد إلى الفكرة والرسالة، وقد تصل إلى التحدي وقلب الموازين وبلبلة الأفكار، وهي تمارين عقلية فيها من المتعة والثقافة والتغيير ما يتوق له القراء ويبحثون عنه في طيات الروايات وشخوصها، من خلال التفاعل معهم والتماهي مع تحدياتهم وصراعاتهم مع أنفسهم ومع الآخر ومع المجتمع، فيجد القارئ مرآته، ويرى نقاط ضعفه وقوته، فيحاسب نفسه ويضع لها المحددات من أجل تجربة ثرية وغد أفضل».

وتضيف: «لا أعتقد أن أدب الجريمة يمكن أن يدفع القارئ لارتكابها. الأمر عكس ذلك تماماً. أدب الجريمة دوره هو نصرة العدالة وتعظيم الضحية والقصاص من المجرم مهما كانت دوافعه تبدو مقنعة أو مستحقة للتعاطف. هذا هو دورنا بوصفنا كتاب أدب جريمة، أن نقدمها في ثوب واقعي يدرأ عن المجتمع وقوعها من خلال تقديم المجرم للعدالة ومحاسبته. وإلا فكان أولى بصفحات الحوادث أن تكون هي الدافع للقراء لارتكاب الجرائم على اختلاف صنوفها ودوافعها وأدوات ارتكابها. ولكن الهدف من إيرادها يكون العظة والحكمة، وتعلُّم إدارة الغضب والتحكم فيه، لمنع النفس عن الوقوع في براثن الجريمة».

أدب الجريمة قد يؤثر إيجابياً

ميسرة الدندراوي (كاتب ومترجم) يقول: «للنص الروائي تأثير كبير على القارئ؛ حيث يمكن أن يؤثر في مختلف جوانب حياته وتفكيره عاطفياً، مما قد يولد لديه أحياناً ردود فعل غير محسوبة، أو أن يمنحه أفكاراً أكثر جموحاً وخيالاً مما قد يصل إليه عقله، لكنه نادراً ما تكون نتيجته أن يرتكب القارئ جريمته متأثراً بالنص الروائي. ولا أعتقد أن أدب الجريمة يمكن أن يؤثر بصورة سلبية على قارئ هذا النوع من الأدب، إلا إذا تهيأت له الظروف الشخصية والنفسية والاجتماعية التي قد تدفعه لارتكاب جريمة. على الجانب الآخر، أعتقد أن أدب الجريمة قد يؤثر إيجابياً على متلقيه، مثل زيادة الوعي المجتمعي بخطورة الجرائم، وتوسيع ثقافة القراء بالتحقيقات الجنائية، واستفزاز عقولهم في أغلب الأحيان للتفكير الخلاق؛ خصوصاً لو كان النص الروائي يحترم عقلية القارئ، ويراعي دائماً إنشاء حبكة متقنة ومشوقة بلغة سلسة، ويعطي كل تفصيل أهميته الشديدة، وأن تكون الشخصيات واقعية ومتعددة الأبعاد».

علاج نفسي

الدكتورة أسماء علاء الدين (استشارية العلاج النفسي، وكاتبة)، تقول: «إن سر الجاذبية الشديدة التي ينطوي عليها أدب الجريمة وتأثيره نفسياً على القراء، يعود إلى أنه يغوص في المناطق الداكنة من النفس البشرية في إطار أحداث ممكنة الحدوث وأقرب لواقعنا، فنفكر ونستنتج ونشك في شخصية المجرم، ونضع أكثر السيناريوهات درامية بأنفسنا، كل ذلك في إطار من التشويق و(كوكتيل) من المشاعر الصارخة، من المفاجأة والتوتر والرعب والفضول والتناقض والخوف والنشوة حين نصل للحل الصحيح، فنضمن بذلك إفراز المخ للدوبامين والسيروتونين والإندورفين، وبالتالي ننال الشعور بالسعادة دون إدمان ودون مخالفة لضمائرنا».

وتضيف: «من المشاعر التي نختبرها في أدب الجريمة أيضاً: تحقق الانتقام، وهو ما يرضي تلك الغريزة لدينا أحياناً، حينما نملك أعداء حقيقيين أو أشباحاً من الماضي نتمثلها في تلك الحالة، فيمن عانوا مرارة الانتقام! ويبقى استكشاف ومشاهدة أسوأ ما في النفس البشرية في قصص الجريمة دون أن نضطر لمواجهته على أرض الواقع، الدافع الأهم والأكثر تأثيراً في تفضيل القراء عبر العصور، وفي كافة أنحاء العالم لأدب الجريمة».

وعلى عكس الشائع من تأثر القارئ بالجريمة وتقليدها، تكشف عن مفاجأة تتمثل في استخدام هذا اللون من الأدب في علاج المرضى النفسيين. وتشير إلى بعض الأبحاث التي أجريت في جامعتي تورينو الإيطالية وجرونيجن الهولندية، بين عامي 2013 و2017، في إطار ما يسمى العلاج بالقراءة، أو «Bibliotherapy»؛ إذ أظهر المشاركون في 6 دراسات تحسناً كبيراً في درجات الاكتئاب، بعد خضوعهم على مدار 3 سنوات لدورات العلاج بالكتابة. ولعبت دراما الجريمة هنا دوراً لافتاً في تحسن حالة المرضى.

مسابقات لكُتاب الجريمة الشباب

محمود عبد النبي (مدير النشر بدار «إبييدي»)، يقول: «ربما لا يعلم كثيرون أن عالمنا العربي عرف رواية أدب الجريمة منذ حكايات (ألف ليلة وليلة)؛ حيث كانت حكاية (التفاحات الثلاث) من أوائل القصص في هذا السياق، عندما حكت شهرزاد أن هناك صندوقاً وجده صياد في نهر دجلة وبه فتاة مقتولة بداخله. وعندما علم هارون الرشيد بالأمر أمر وزيره أن يكشف ملابسات الحادث ويفض غموضه في غضون 3 أيام أو يُقطع رأسه. وكان يهدف بذلك إلى ممارسة أكبر قدر من الضغط عليه حتى لا يخفق في تنفيذ المهمة».

ويضيف: «رغم الانتقادات التي يتعرض لها أدب الجريمة عربياً، مثل التأثر بالنماذج الغربية، ونقل حبكات من أفلام عالمية، فإنه يظل في صدارة المبيعات، وهذا ما دعا دار (إبييدي) إلى تنظيم مسابقة بين الأدباء الشبان في هذا السياق، لاكتشاف المواهب وإتاحة الفرص للنشر. وهناك عدة معايير تضمن نجاح رواية الجريمة، ففضلاً عن الحبكة المشوقة والأسلوب المتماسك لا بد من أن تكون القصة بأكملها تتوافق والتقاليد العربية، وأن تكون أحداثها واقعية نابعة من البيئة العربية حتى تكتسب مصداقيتها».

قراؤه ليسوا شباباً ومراهقين فقط

شريف بكر (مدير عام النشر بدار «العربي»)، يقول: «لي تجربة خاصة مع أدب الجريمة، فقد شاركت في ورشة تدريب بالتعاون مع معهد (جوته) الألماني بالقاهرة عام 2009، ولاحظت ضعف تيار أدب الجريمة عربياً في ذلك التوقيت. ومن هنا جاءت فكرة إطلاق سلسلة لرواية الجريمة المترجمة عالمياً، تطرح لقارئ العربية أهم إصدارات هذا اللون في كل بلد على حدة؛ لا سيما في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية. نجحت السلسلة وتنوعت كماً وكيفاً حتى أصبح في جعبة دار (العربي) منذ ذلك الحين عشرات الأعمال المتخصصة في هذا الأدب».

ويضيف: «من المفاهيم الخاطئة حول أدب الجريمة أن قراءه يقتصرون على الشباب والمراهقين، والحق أن فئات ونماذج عمرية أخرى تُقبل على هذا اللون بكثافة؛ لكنها لا تفصح عن ذلك خوفاً من الانطباع السائد المتعلق بأن هذا الأدب يفتقر للعمق ويتسم بالسذاجة ولا يناسب المثقفين، وهو بالطبع انطباع خاطئ، ولو صدق في بعض الأعمال لا يصدق في البعض الآخر بالضرورة».


مقالات ذات صلة

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».