هل نضجت الحداثة في الخليج؟

«رؤية 2030» جاءت لتحرّك المجتمع بسرعة تواكب التطور الاقتصادي

نزار قباني
نزار قباني
TT

هل نضجت الحداثة في الخليج؟

نزار قباني
نزار قباني

استكمالاً لما سبق طرحه حول إشكالية مفهوم الحداثة، الذي شغل المشهد الخليجي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، فإننا نبدأ من حيث انتهينا حول إشكالية دخول الحداثة للمنطقة. كما هو معروف، فإن المنطقة لم تخضع لاستعمار تقليدي من قبل الأوروبيين الذين كانوا ينقلون أدواتهم الحديثة ويجبرون السكان على تبني بعض من أديباتهم. فحتى الحاميات البريطانية في سواحل الخليج لم تكن تتدخل بشكل مباشر في حياة الناس، والأمر نفسه ينطبق على الشركات البريطانية والأميركية التي عملت في المنطقة وعزلت رعايا الدول الغربية عن سكان المنطقة الذين كانوا يحتكون بالأجانب في حدود العمل الضيقة.

إن انتقال المواطن الخليجي للعمل في شركات النفط لم يكن وفق آليات الحداثة الغربية، ولا حتى في الدول التي تأثرت بالنمط الصناعي الغربي كالدول الشرق آسيوية. فكثير من المواطنين الذين عملوا في تلك الشركات احتفظوا بالنمط القروي/ البدوي في حياتهم اليومية لأن أداورهم كانت منحصرة في الأعمال التي تتطلب جهداً جسدياً، تماماً كما كانوا يفعلون في الأعمال التقليدية في مجتمعاتهم، بمعنى أن دخولهم في ثقافة الوظيفة في الشركة تأخر كثيراً عن بداياتهم كعمال. لقد انتقل الخليجي من وظيفة الفلاح/ الراعي الأجير إلى عامل الشركة الأجير. والمقصود بالأجير هنا: الشخص الذي يعمل ساعات طويلة بعائد زهيد بالكاد يكفي حاجته.

تأخرت آثار الثقافة الصناعية في المنطقة حتى زاد عدد المنخرطين في التدريب المهني، مما ساعد في ترقية العمال داخل الشركة، الذي مكّنهم من بناء بيوت الإسمنت، وإرسال أبنائهم للمدارس بشكل منظم بدلاً من أخذهم لسوق العمل في مرحلة مبكرة من حياتهم. وعليه، ازداد عدد الملتحقين بمدارس التعليم العام وانتقل جزء منهم للدراسة في الجامعات، وجاء ذلك نتيجة الثقافة الصناعية التي تذهب لكون الارتقاء في التعليم يعني الارتقاء في السلم الوظيفي، الذي يعني الارتقاء في المستوى الاقتصادي للأسرة بغض النظر عن كونها ليست من الأسر أصحاب الأملاك. هذا النوع من التحول الاقتصادي ذي الأساس الرأسمالي/ الغربي شكّل بيئة خصبة لتلقي الأفكار اليسارية/ الشرقية، وذلك لأن تغير نمط العمل والدخل في الأسرة لم تصاحبه ثقافة رأسمالية متكيّفة مع الثقافة العربية/ الإسلامية. هنا جاءت أفكار اليسار، التي برع الناشطون العرب فيها بتكييف بعض القيم الإسلامية (العدالة الاجتماعية، المساواة بين البشر، التواضع) لتناسب الخطابات الحماسية التي كانت تصل للخليج من محيطه العربي. ولعل الخطأ الأساسي الذي ارتكبه اليسار العربي كان يكمن في دخوله في مواجهة لم تكن بالضرورية مع الدين، مما شكَّل رفضاً له من الحاضنة الاجتماعية في الخليج.

جاءت الطفرة النفطية في نهاية الستينات لترفع من عدد أفراد الطبقتين المتوسطة والثرية، مما أعطى للتعليم والثقافة فرصة كبيرة للازدهار. وكما هو معروف، فإن الأدب هو لُب الثقافة العربية، خصوصاً في مجتمعات كانت القراءة والكتابة فيها متركزة عند فئة طلبة العلوم الدينية الذين كانوا ينظرون للأدب بوصفه معيار الثقافة خارج إطار التخصص الشرعي. لذلك لم يكن مستغرباً أن تزدهر الثقافة الأدبية في الخليج بدخول عدد كبير من الشباب الذين تعلموا في المدارس ولديهم الوقت للمطالعة والنقاش المعرفي. لم يكن يشغل هم الناس وقتها غير الأدب والسياسة، ولأن المجتمعات الخليجية محافظة ومستقرة سياسياً ولا ترحب حكوماتها باليسار الثوري، فقد شكّل الأدب ميداناً للتعبير عن التغيرات الجديدة في المنطقة.

نازك الملائكة

أصبح الأدباء - بشقيهم الإسلامي والمدني - فرسان الساحة الثقافية التي كان منبرها الرئيسي هو الصحافة. ولعل تزامن الصحوة مع عودة عدد كبير من خريجي الجامعات الغربية في مجال الدراسات الأدبية قد لعب دوراً في «علانية» الصراع. لم يكن أساتذة العلوم السياسية والاجتماعية بوارد الدخول في صراع مع الصحويين وذلك لأن عدد الكُتّاب من تلك الخلفيات أقل بكثير من عدد المشتغلين بالأدب. وحتى من كان يكتب في الصحافة منهم، لم يكن يتعاطى مع موضوعات تستفز الصحويين. بالمقابل، فإن الأدباء والنقاد الأدبيين كانوا يتصدرون ساحة التبشير بالحداثة، محتفين بأبرز رموز الشعر الحديث في الوطن العربي.

كان طرح أسماء مثل نزار قباني، ونازك الملائكة، والسيَّاب، والبياتي، وأدونيس كافياً ليثير حفيظة الصحويين الذين أخضعوا شعراء الحداثة لمحاكمات دينية ذات أفق ضيق يختصر قيمة المبدعين في «تصور الصحويين» لعقائدهم. بالمقابل، دافع الأدباء عن «أدبية الأدب» وعدم محاكمة النص الأدبي بناء على قيم غير أدبية، مهما كانت. لن نخوض في تاريخ هذا الصراع، الذي كُتب حوله الكثير، فما يهمنا هنا ما سقط من ذلك الصراع! أي الحداثة نفسها.

نزار قباني - السياب

لم يكن بوارد المتصارعين أن الحداثة تطور ثقافي يجيء نتيجة تطور مادي قائم على الصناعية، وهذا ما لم يكن متجلياً في مجتمعاتنا. لذلك، فقد شُغل المشهد الفكري بالنزاع حول الحداثة في إطار ضيق يتمحور حول الصراع بين شرعية «أدبية الأدب» و «خطورة الأدب على العقيدة». وكأن هذا الصراع يعيد الإشكالية التراثية في النزاع حول المبنى والمعنى.

في الوقت الذي كان الغرب فيه مشغولاً بفلسفة ما بعد الحداثة والاقتصاد بعد الصناعي، انشغل مشهدنا الثقافي باتهام وتبرئة الشعر الحديث من إخلاله بالعقيدة. وحتى من أبدع من فرسان المعركة كان يركّز على الآليات النقدية التي ترفع من مستوى جمالية تلقي النص الأدبي. وهذا أمر طبيعي، كون الفارق الزمني بين التحول من ركوب الدابة إلى السيارة كان قياسياً، وقس على ذلك أموراً مثل الفارق الزمني القصير جداً بين انتشار التلفزيون في البيوت ودخول الفيديو والفضائيات لها. لقد انتقل المواطن من موقع الفلاح/ الراعي إلى الموظف في فترة قياسية جعلته «يحدّث» حياته المادية دون وجود خطاب ثقافي حديث يواكب المرحلة، حيث انشغل ذوو الأقلام في معركة ترف فكري لا تناغم احتياجات المجتمع ولا تسبر أغوار التغيرات التي يمر بها. وعليه، فقد اختلطت مفاهيم الحداثة بما بعد الحداثة، تماماً كما اختلطت مفاهيم الصناعية (التحول للعمل في وظائف الإنتاج بأجور) بما بعد الصناعية (التحول للأعمال الخدمية غير الإنتاجية). حتى على مستوى الدراسات الأدبية، فقد اختلطت البنيوية بالتفكيك عند كثير من طلبة الأدب كونها مفاهيم نقدية أكاديمية دخلت في فترة متزامنة، مقارنة بالمرحلية الفكرية في الغرب.

ختاماً، لقد شكَّل النفط نعمة كبيرة على منطقتنا بأن غيَّر المنظومة الاقتصادية التي أسهمت بشكل كبير في «تحديث» المجتمع. ولكن السرعة المهولة التي نما فيها الاقتصاد كانت أكبر بكثير من أن يستوعبها المجتمع، ولذلك بقيت قيم المحافظة الدينية والقبلية تحكم تصرفات الناس ليبقى الفلاح/ الراعي كما هو وإن حمل أعلى الشهادات. لقد احتاجت تلك التحولات الاقتصادية/ المادية إلى قرارات جريئة تعثرت بمفهوم «خصوصية المجتمع» حتى جاءت «رؤية 2030» لتحرّك المجتمع بسرعة تواكب التطور الاقتصادي. لذلك، فإن الجيل الذي ولد في القرن الحالي لا يشعر بالاغتراب وأزمة الهوية بمستوى جيل آبائه، فهو يعيش حياة متناغمة مع التطور التقني ويعتز بهويته الوطنية التي كانت مُختطفة بشعارات أممية عابرة للحدود ولا تعبر عنه. نحن عرب دون الغرق في مشروع قومي توسعي، ومسلمون دون انجرار لمناطق الصراع تحت ذريعة نصرة الأمة الإسلامية. هي ذي الفترة التي يعيشها هذا الجيل متصالحاً مع ما بعد الحداثة التي لا يشعر أنه تأخر فيها كثيراً.



عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»
TT

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته، وشجاعته، وطارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجالا للبحث والاهتمام.

يعيدنا وزير خارجية ليبيا السابق، في روايته الجديدة «القائد العاشق المقاتل»، الصادرة عن «دار الرواد للنشر والتوزيع» إلى فترة تاريخية، كان لا يزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة المعارك، وللشهامة قيمة أخلاقية. تحكي الرواية سيرة مقاتل ليست ككل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ بالمزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف المعرفة.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته المتوثبة والكاريزما التي تمتع بها، وحبه للثقافات، أصبح صديقاً للعرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس لمجالسهم. وحين أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسياً نشطاً، وسائحاً هائماً.

«القائد الشيطان»

تقول الرواية: «عشق أميديو السلاح كما عشق المرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد المقدام الذي تقترن بطولاته بغرام دائم، وعشق لا ينقطع. ويتنقل القارئ بين الأحداث السياسية وشراسة الأطماع الاستعمارية، وحكايات أميديو مع عشيقاته اللواتي شغلن الجزء الذي لم تملأه الحروب من يومياته.

«القائد الشيطان»، هذا هو لقبه، الذي استحقه عن جدارة. فبعد أن خاض أميديو الحرب الأهليّة الإسبانيّة إلى جانب قوات الملكيّين قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيين، وحارب المقاومة الليبية، عاش قصة حب حارقة مع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علاجه في مستشفى في طرابلس، من إصابة تعرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لريزا بـ«قوامها الممشوق ووجهها الأبيض الوضاء وعينيها الواسعتين وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تهديد النازيين لها ولعائلتها ولملتها، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القوانين العنصرية التي فرقت بينهما.

الحبيبة ريزا

ريزا هي كما غيرها من اليهود الذين «اضطروا إلى الهرب خارج العاصمة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأماكن إقامتهم». لكن مهمة الضابط المغامر الذي يمتطي صهوة جواده، ويتقدم الفرسان، ويهاجم كما لو أنه نسي الموت، لا تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريتريا، حيث يطور هناك أساليبه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حين يعيش قصة حب جديدة مع خديجة الإثيوبية، التي «بثت فيه عشقاً لم يعرفه أبداً». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الجمال الخمري التي تحفظ الشعر العربي، تتسلل إلى خيمته كل ليلة، تجالسه، تحادثه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة المحاربين. يصف الكاتب خديجة «الطويلة الرشيقة، بلباسها الملون، وعطرها الفواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نسي حبيبته الطرابلسية ريزا، التي صارت إلى المجهول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته الإيطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجه القديم منها، فقد طوتها عيون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها».

خديجة تشد أزره

على هذا النحو الآسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من اضطرابات، وتوترات وقلق، مع العقيد الذي يخوض غمار معاركه، مستعيناً على ذلك بنساء كنّ له الظهر والسند. غير أن خديجة هذه بقيت شيئاً آخر. و«لأول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى الأبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب».

جاءته الأوامر من روما أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوساً منه. جهزت له خديجة فرساناً أشداء، وقالت له: «قاتل ولا تستسلم يا حبيبي، لقد خلقك الله لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة».

بين جبهات الحروب الشرسة، وجبهات الحب العاصفة، ينقلنا الكاتب، وهو يبدع في رسم علاقة أميديو مع عشيقاته، وتوصيف علاقته مع كل منهن، وكأن كل واحدة أنارت له جانباً مختلفاً من شخصيته، وأضافت لفضوله معارف جديدة، وفتحت أبواباً للضوء. فقد كان أميديو يتمتع بشخصية مغامرة وجذابة، مما جعله محبوباً بين النساء. يقول لخديجة وقد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على الاستمرار في محاربة البريطانيين. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلاثين نفراً، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب».

المرحلة اليمنية

ولما كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تمرده على الأوامر، والوضع المتأزم هناك، يمم وجهه صوب اليمن، وقد صار اسمه أحمد عبد الله الرضائي. وصل إلى ميناء الحديدة، بعد مغامرات كادت تودي به وبرفيق الرحلة. طلب اللجوء السياسي، شك اليمنيون في أمره، وأخضعوه شهراً للسجن والاستجواب. محادثاته المتناسلة مع سجانيه وصلت إلى قصر إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلاقة الوطيدة سريعة مع الإمام وسيكلفه تدريب كتائب جيشه وشرطته.

المرحلة اليمنية من حياة أميديو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة الاجتماعية، والأجواء السياسية في تلك المرحلة، في هذه المنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر المقوس وسط حزامه. جلسة مع خلان سيتعرف عليهم، يخزنون القات معاً، ويسهرون الليالي في مطارحات شعرية إلى أن يدركهم الصباح، ويخرجون ليروا مباني المدينة الشاهقة المزخرفة بألوان، تضيف الانشراح إلى الأرواح». وفي اليمن أيضاً سيلتقي بياتريس.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية

صفحة حب جديدة

بياتريس الحبيبة الجديدة. هذه المرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلة البزق وتهرّب الأسلحة، حين يلزم الأمر. امرأة جذابة يلفها الغموض «عندها عصارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مثقفة ودارسة متبحرة في عالم النفس، ولها القدرة على قراءة ما في فناجين الرؤوس».

لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح بالإمام، ويحلّ الجدري، وينفضّ الجمع، ولا يبقى لـ«القائد الشيطان» سوى الهرب.

بأسلوبه الرشيق والمشوق، يقصّ شلقم من خلال روايته، حكاية هذا القائد الإيطالي الذي تحول إلى أسطورة، وشبهه البعض بلورانس العرب، لتشابه بين سيرتيهما، مستفيداً من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفاً إليها حبكته ونكهته المستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مرات عدة في النص. وقد عاش أميديو من العمر قرناً كاملاً وسنة، تمكن خلالها من الانتقال إلى حياة دبلوماسية، لا تقل أهمية عن حياته العسكرية. عين سفيراً لدى عدد من الدول العربية بينها الأردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعين الرجل سفيراً لدى المغرب، ويكتب له أن يشهد حادثة انقلاب الصخيرات الشهيرة، التي نقرأ تفاصيلها في الرواية كما عاشها أميديو، وكأننا في قلب الحدث.

التاريخ يعيد نفسه

مفاصل تاريخية كثيرة، عن فترة مفصلية من عمر العرب، والتدخلات الأجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشياً، في ما يطغى حضورهم الاجتماعي في الرواية، كل ذلك مشدود إلى أوتار عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، تلهم القائد المقدام.

وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مع أميديو، وقد استقر به الحال أخيراً متقاعداً يستعيد ذكرياته ويتأمل مشواره بهدوء ودعة. وتشاء الظروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعداء الأمس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات والاعترافات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثاً، أو كأنهم كانوا جزءاً من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها.

الرواية تعيدني ثمانين سنة إلى الوراء، ولعالم غير الذي نعيشه اليوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها لا تزال هي نفسها، والمآلات تبدو متشابهة وتستحق المقارنة والعبرة والتأمل.