في حمّام صيدا

في حمّام صيدا
TT

في حمّام صيدا

في حمّام صيدا

في اللّغة العربيّة التي يصفها الشّاعر الرّوسي يفغيني يفتشينكو: «وكأنّ الطّبيعة سكبت فيها كلّ حنانها»، ليست ثمّة في لغتنا كلمتان قريبتان، إحداهما من الأخرى، وشديدتا التّنافر من كلمتي «الأثَرَة» و«الإيثار». لا يشبه الصّباحُ في صيدا صباحاً في بيروت أو بغداد أو كلّ العالم، فرطوبة البحر تُعطي الهواء لمعاناً خفيفاً، ليقبع كلّ شيء في القلعة التّاريخيّة عند الشّاطئ تحت غطاء صمغيّ مصنوع من الماضي. لكن المدينة ليست في قلعتها أو في سوقها، بل هي كائنة في حمّاماتها القديمة.

تدخل حمّام صيدا، وكأنّك تهبط فجأة إلى مغارة في قلب جبل، حيث السّيادة الصّامتة للظّلّ، وحيث الصّخور ليست حجارة وحسب، فهي تشبه بيضات طائر خرافيّ عملاق. هل تخيّلتم سماع نبض قلب جبل؟ عند كلّ بيضة لا بدّ أن يصغي الزائر إلى هذا النّبض، وتسكن موسيقى ظلام قلب الجبل وضياؤه في وجدانه وسريرته، وتبقى تتردّد.

لا يهمّني من المكان عمره أو هندسته وطريقة بنائه، الذي يعنيني في حمّام صيدا، النّاس. كيف يمكنني التواصل مع جمهور من النساء والرجال ماتوا قبل مئات أو ألوف السنين؟ باستطاعة المرء بواسطة الفن إبطاء الزمن أو العودة به إلى الوراء، وهكذا تخيّلت نفسي أستحمّ وكانت نظافة بدني أو روحي هي آخر ما فكّرت به.

الدم الروحي

هنالك صورة غير مرئيّة لقطرة ماء شفيفة يقتسمها جميع من دخلوا المكان، وجميع من استحمّوا فيه، وجميع السّائحين الذين مرّوا بالمكان. قطرة ماء تشبه التفّاحة التي قطفتها أمنا حوّاء، والتي سوف يقتسمها الجميع فتكفيهم. الفرق هو أن تفّاحتي (قطرة الماء) سوف تزيل الرِّجس عن خطيئتنا، بمن فيهم أمّنا الأولى وأبونا... من يدخل هذا المكان تصيّرهُ القطرةُ فرخاً يسكن بيضة الطائر العملاق، وتبرئه عند باب الخروج طائراً يشقّ بجناحيه الفضاء.

الرواية هي «موبي ديك» أو الحوت الأبيض لهيرمان ميلفل، وعنوان الفصل هو «عصر الأكر الشّحمية»، حيث يشبّه الكاتب الحوضَ الذي يتجمّع فيه زيت الحوت في السّفينة التي كان يعمل فيها بحمّام قسطنطين، الإمبراطور اليونانيّ الذي شيّد حمّامات عامّة ليجبر شعبه على الاستحمام، وكانت تسخّن بواسطة أشعّة الشّمس، من أجل أن تكون الفكرة ويكون الحلم بإهابٍ إلهيّ، وكان الإمبراطور معنيًّا بلا شيء غير الشّعور بالرّفقة بين أبناء قومه، وهي المنزلة التي ينتقل فيها الدّم الروحي من إنسان إلى إنسان.

يتدحرج شحم الحوت إلى حوض واسع في السّفينة، ويقوم العمّال بعَصره ليصير سائلاً. يقول ميلفل: «كنت أغسل يدي بين تلك الكرات النّاعمة اللّطيفة... وأستنشق ذلك العطر الخالص الذي لم تشبْه شائبة - حقّاً وصدقاً - كأنّه رائحة البنفسج في الرّبيع». وتطوف في وجدانه في تلك السّاعة خواطر، هي الأفكار ذاتها التي بلغتني وأنا أتملّى دكّات حمّام صيدا الحجريّة: «أصدقكم القول إنّني عشت لحظة وكأنّني في حقل مسكيّ؛ نسيت كلّ شيء... في ذلك الزّيت الذي لا يحدّه تعبير غسلت يديّ وقلبي معاً؛ حين كنت أستحمّ في ذلك الحمّام شعرت شعوراً سماويّاً بأنّي بريء من كلّ نيّة سيّئة أو من كلّ نكد أو حقد أو أيّ شيء من ذلك». لا توجد لحظات أسمى من تلك التي يتقرّب فيها اثنان، رجل وامرأة، ويعلن الحبّ بينهما عن سطوته على كلّ شيء في الوجود، ويترك الاثنان عندها كلّ ما هو ذاتيّ وأنانيّ وينتميان إلى الرّفاقيّة العامة بين البشر. عندما يقول الفتى أو الفتاة: «أنا أحبّ»، فإن الكلام يظهر إلى الملأ بصوت شديد التّجريد، شديد الخطابيّة، وتصير عند ذلك موسيقى شجيّة تقول ما معناه: «نحن نحبّ». في اللّغة العربيّة التي يصفها الشّاعر الرّوسي يفغيني يفتشينكو «وكأنّ الطّبيعة سكبت فيها كلّ حنانها».

الأثرة والإيثار

ليست ثمّة في لغتنا كلمتان قريبتان، إحداهما من الأخرى، وشديدتا التّنافر من كلمتي «الأثَرَة» و«الإيثار». الأولى تعني الأنانيّة وحبّ الذات، والإيثار هو أعلى المكارم. عند ساعات الحبّ العظيمة تخلع الكلمة الأولى شكلها، وتتطهّر منه، كما أن ما يقوم به المحبّون في حياتهم يعود بفضله إلى هذه المعادلة. ونعود إلى السيّد ميلفل، بارئ ملحمة موبي ديك: «عصراً! عصراً! عصراً! طوال الصّباح كلِّه. عصرتُ ذلك الشّحم حتى كدت أذوب فيه؛ عصرت ذلك الشّحم حتى استولى عليّ نوع فذّ من الجنون، ووجدتني أعصر ـ دون أن أدري ـ أيدي زملائي العاملين معي في الحوض، ظانّاً أن أيديهم كرات لطيفة. ولّد هذا العمل فيّ شعوراً فيّاضاً ودّياً حبيباً متحبباً حتّى إنّني في النّهاية أصبحت أشدّ على أيديهم وأنظر في عيونهم في حنان كأنّني أقول لهم؛ آه يا رفاقي الأعزّاء لِمَ نظلّ بعد اليوم نستطعم أيّ صور الجفاء الاجتماعي أو نتعرّف إلى أقلّ الحسد أو نكد الطّبع! هيّا بنا يشدّ بعضنا على أيدي بعض، بل نعتصر أنفسنا بعضها في بعض، لنعتصر أنفسنا جميعاً نحن الآدميين في حليب اللّطف الوديع وزيته، وكلّ هذا كان من حصّتي، وأنا أتأمّل اللُّحمة البشريّة تعجن خبز المحبّة الدّائمة في حمّام صيدا، وهذه تَكفي البشر جميعاً طعاماً وماءً، كأنهم تحوّلوا إلى طيور يكفيها القليل من الحَبّ للعيش، فهي لا تكتنز شيئاً ولا تخزنه ولا تطلب أكثر من زاد اليوم.

لم يكن البطل الحقيقيّ لملحمة الحوت الأبيض هو الكابتن الحقود آخاب، ولا الرّاوي إسماعيل ذو الأصول الدّينيّة المسيحيّة. اختار المؤلّف رجلاً من أكَلة لحوم البشر اسمه «كويكوج» مثلاً أعلى من بين مئات الشّخصيات التي حكى عنها في الرّواية، وكان المشهد الذي يُلقي فيه كويكوج بنفسه فجراً في البحر الصاخب لينقذ أحد البحّارة من الغرق، دليلاً على أن أسمى ما لدينا هو الإيثار، الذي هو أعلى مراتب الحبّ، فمن يبلغه يكن حامل الرّاية.

\"\"

في القسم الأول من قصيدة الأرض الخراب نقرأ كلاماً للسيّدة ماري، وكانت تتذكّر رحلة قامت بها إلى حيث يسكن ابن عمّها الأرشيدوق: (الأبيات 14 - 16) «أخذني على زلّاقة فأصابني الخوف. قال، ماري ماري، تمسّكي بإحكام، وانحدرنا نزولاً». ثم يقول الشّاعر ساخراً من الهلع الذي تملّك ماري: (الأبيات 20 – 30) «يا ابن آدم أنت لا تقدر أن تقول أو تحزر، لأنك لا تعرف غير... ظلّك في الصّباح يخبّ وراءك أو ظلّك في المساء ينهض كي يلاقيك ولسوف أريك الخوف في حفنة من تراب». الخوف الحقيقيّ هو ليس نشوة الرّعب التي تصاحب ركوب الزلّاقة عندما تنحدر مسرعة في المنعطفات، كما أنه ليس ذلك الذّعر الجنونيّ الذي يشلّ أعصاب وعظام الإنسان عندما يفكّر بالمجاعة. من المعتقدات الصّينية التّقليديّة أن الأمراض تنتج عندما يستنفد الجسد الطّاقة، وهي ليست ذلك النّوع من الطّاقة التي تُدرّس في كتب الأحياء، بل نسخة صوفيّة منها، التي أدعوها طاقة الحُبّ. تعلّمتُ من زيارتي إلى حمّام صيدا أن الخوف الأهمّ في حياتنا هو الجوع إلى الحُبّ، لأن الحال عندها تجعلنا نعيش في عالم وهميّ ولا نكترث بما يجري من حولنا، الخطر النّووي مثلاً، والوحش المسمّى Godzilla الذي يعمل بالطّاقة النّووية والذّكاء الاصطناعيّ القاتل، وكذلك الأوبئة والجفاف وغير ذلك مما يهدّد شمس الحياة بالانطفاء، ويتوعدّ البشر والحيوان والنّبات بالفناء.

يريد الفنّان إعادة إنتاج الحضارة بأساليبَ جديدةٍ تمنح الإنسان وجميع الكائنات فيه وضعاً مغايراً يعطي كلّ شيء في الوجود تعريفاً جديداً، ويعيش الفنّانون في حالة حلُم دائمة في سبيل تحقيق ذلك. هل يمكننا القول إن العالم المُنتج بواسطة الفنّ هو التّعبير الواقعيّ للجنّة التي تخبرنا بها كتب الأنبياء؟ أكل آدم تفّاحته الشّهيرة وأُخرج بسبب ذلك من الجنّة، ونأكل نحن من تفّاحة الفنّ ونعود نسكن الجنّة ثانية، ولن يرغمنا هذه المرّة أحد على المغادرة.

جئتُ إلى مدينة صيدا في ضيافة سيّدةٍ صيداويّة بسيّارة تاكسي قدِمت خصّيصاً إلى الفندق، وأوصلتني إلى المدينة. ثم زرتُ الحمّام القديم، وصارت في قلبي كلّ الكلمات التي قلتها في هذا المقال، وعندما حانت ساعة العودة، اعتذرتُ من مضيّفتي أن تجهّزَ سيّارةَ الأجرة لي، واخترتُ أن أعود بباص يحيط بي الركّاب فيه من كلّ جانب. يقول محمد خضيّر: «ليس هناك أجمل وأشمل وأدفأ من كلمة (النّاس)». في حمّام صيدا كان النّاس الأقدمون يحيطون بي من كلّ جانب، وامتدّ زمان هؤلاء إلى عهد آدمَ، فيا لسعادتي أنني عاشرت في المكان أمّي وأبي...



معرض إيطالي لعشرات اللوحات الفنية المصادرة من المافيا (صور)

امرأة تلتقط صوراً لرسوم توضيحية لـ«روميو وجولييت» لسلفادور دالي في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (أ.ف.ب)
امرأة تلتقط صوراً لرسوم توضيحية لـ«روميو وجولييت» لسلفادور دالي في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (أ.ف.ب)
TT

معرض إيطالي لعشرات اللوحات الفنية المصادرة من المافيا (صور)

امرأة تلتقط صوراً لرسوم توضيحية لـ«روميو وجولييت» لسلفادور دالي في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (أ.ف.ب)
امرأة تلتقط صوراً لرسوم توضيحية لـ«روميو وجولييت» لسلفادور دالي في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (أ.ف.ب)

ينطلق في القصر الملكي في ميلانو «بالاتزو رياله»، يوم الثلاثاء، معرض فني يضم أكثر من 80 لوحة، بينها روائع تحمل توقيع سلفادور دالي، وآندي وارهول، وكريستو، وجورجيو دي شيريكو؛ كلها مصادرة من المافيا جرى إنقاذها على يد محققين متمرسين في تعقّب «الأموال القذرة».

وأوضحت المسؤولة المحلية في المنطقة ماريا روزاريا لاغانا، أن «الأعمال التي كان من المفترض أن تظل مدفونة في دوائر الجريمة المنظمة أُعيدت أخيراً إلى المجتمع لتلعب دوراً رمزياً في مقاومة الجريمة».

منذ سبتمبر (أيلول)، تدير لاغانا الوكالة الوطنية لإدارة الممتلكات المصادرة من عصابات الجريمة المنظمة التي توفّر منصة تتيح للمشترين توجيه أنظارهم إلى الممتلكات المصادرة، بما يشمل سيارات «فيراري» أو دراجات نارية من طراز «هارلي ديفيدسون».

وبينما تُباع هذه السلع بمزادات علنية وباتت في متناول الجميع، يُخصص جزء منها؛ مثل: الشقق، والمنازل، والأراضي الزراعية، مجاناً لمنظمات عامة وأخرى غير حكومية.

أما بالنسبة للأعمال المعروضة في ميلانو، «فهذه سلع كان من الممكن بيعها، لكن تم اختيار الاحتفاظ بها في المتاحف، لأن لها قيمة مهمة»، حسبما أوضحت لاغانا لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

«ولادة جديدة»

وقالت لاغانا: «إنها ولادة جديدة لهذه الأعمال، ويبدو الأمر كما لو كنا نُخرجها من الأرض، مثل علماء الآثار، لعرضها في أماكن يمكن للجميع رؤيتها فيها».

يحتوي المعرض الذي يحمل عنوان «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» على أكثر من عشرين عملاً تمت مصادرتها في عام 2016 من زعيم في مافيا «ندرانغيتا» النافذة في كالابريا.

امرأة تقف بجوار لوحتَي «بيازا دي إيطاليا» لجورجيو دي كيريكو و«كابانو سولا ريفا» لكارلو كارا في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (رويترز)

في الغرفة الصغيرة المخصصة للأعمال التي صادرتها محكمة ريجيو كالابريا، مطبوعة حجرية بالحبر الهندي لـ«روميو وجولييت»، بتوقيع الرسام السريالي الإسباني سلفادور دالي (1904 - 1989)، بجانب لوحة «ساحة إيطاليا» الزيتية اللافتة المرسومة على قماش بتوقيع المعلم الإيطالي جيورجيو دي شيريكو (1888 - 1978).

كما أن جدران الموقع مغطاة بقصاصات من صحف تشهد على هذه المضبوطات المذهلة، في حين مقاطع فيديو من الشرطة المالية في ريجيو كالابريا تُعرض بشكل متواصل عند مدخل المعرض.

ويأتي نحو ستين لوحة أخرى من عملية مصادرة أمرت بها محكمة روما في عام 2013 بصفتها جزءاً من عملية احتيال ضخمة مرتبطة بشبكة دولية لغسل الأموال.

ومن بين هذه الأعمال شاشة حريرية لنجم الفن الشعبي الأميركي آندي وارهول (1928 - 1987) بعنوان: «فنون الصيف في الحدائق»، وطباعة حجرية لـ«فينوس مغلفة» بتوقيع الفنان كريستو (1935 - 2020) لفيلا بورغيزي في روما.

امرأة تسير أمام تمثال «قرص به كرة» لأرنالدو بومودورو في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (رويترز)

وقالت لاغانا: «إبداع وجمال (الفن المتحرر) من الأيدي الإجرامية يتم تقديمه للرؤية الجماعية لتعزيز الثقافة، مع تحفيز الوعي بالطبيعة الخبيثة لآفة المافيا».

وتستخدم المافيا الأعمال الفنية المسروقة بوصفها عملة في تهريب المخدرات والأسلحة. ومن بين أبرز السرقات كانت لوحة «الميلاد مع القديسَيْن فرنسيس ولورانس»، وهي لوحة رسمها كارافاجيو، وسُرقت من كنيسة سان لورينزو في باليرمو عام 1969 وبقيت موضع عمليات بحث مذاك.

ويستمر المعرض الذي يمكن دخوله مجاناً حتى 26 يناير (كانون الثاني) في قصر «رياله» في ميلانو، قبل أن ينتقل إلى قصر الثقافة في ريجيو كالابريا، في الفترة من 8 فبراير (شباط) إلى 27 أبريل (نيسان).