كاد يطغى شعورٌ بخواء وثائقي «لويس كابالدي: كيف أشعر الآن» (Lewis Capaldi: How I’m Feeling Now- «نتفليكس») وفراغه من الجدوى. يمرّ وقتٌ على المُشاهدة قبل بلوغها ذروتها بنبش المستور وعبور القشور؛ فيتبيّن أنّ المغنّي وكاتب الأغنيات الأسكوتلندي الشاب (26 عاماً) يحمل في داخله صراعات حاول إخفاءها إلى أن باغتته وظهرت على شكل ارتعاشات عصبية لاإرادية، أرغمت كتفه على الارتجاج وجعلته مُعذّباً بالقلق واستحالة السكينة.
باعترافات أمه، هو الطفل الذي لا يزال يتجوّل في المنزل بسراويل داخلية، وأمامه الكثير لينضج. يمرّ نحو نصف مدّة الوثائقي (ساعة و36 دقيقة) قبل اكتشاف الحقيقة. لمَن لا يتابع النجم المتصدّر أرقام الاستماع والأكثر مبيعاً على شباك تذاكر الحفلات، ستبدو المسألة بالنسبة إليه مملة. فهو دائم التلفّظ بنوع من الشتيمة، تدور مَشاهده حول قيادته السيارة في موطنه واحتساء الجعة مع الأصدقاء في الحانة. البُعد الإنساني للوثائقي يتجلّى بقسوة عملية خلق الموسيقى، بعد مَشاهد عابرة. فهي رحلة تجعله يتآكل وتضع صحته العقلية على المحك.
التنقيب في حياة لويس كابالدي يُظهر عِقداً يتستّر عليها بفكاهة السلوك واللسان. عضّ على جرحه وهو يرتجل كلمة خلال تسلّمه جائزة مرموقة في بريطانيا، وحوَّل الوجع إلى دعابة. أخبر المصفّقين له أنّ جدته التي أحبّته توفيت، وراح يوجّه تحية لهذه الوفاة! كانت تلك طريقته في الاختباء ونفض الأسى. فالجدة الراحلة كالخالة المُنتحرة، عمّقتا الندوب وكثّفتا المخاوف حيال نفاد الوقت وسطوة الموت. هو بوصف والديه: «يرى الإنسانية وتلك الظلمة، ويمكنه التعبير عنهما».
بضع سنوات كفلت انتقاله من الحانات إلى النوادي الليلية والساحات، فحشود المهرجانات الهائلة. الوثائقي للقول إنّ النجاح باهظ، أقسى أثمانه الإحساس بعدم الأمان. وهو إذ يهزأ من الشهرة ويكشف أنها تنفع فقط في تسريع شراء البيتزا عوض الانتظار في الصف؛ يبدو نموذجاً للفنان المتألّم بالويلين: التحليق والإخفاق. فإن حلَّق أُصيب بالخوف من الخطوة المقبلة، وإن فشل اعترته لوعة العمر.
تساءلت والدته وهي تراقب جروحاً تكمن خلف صورة الشاب السعيد، خفيف الظل: «هل يستحق الأمر هذا العناء؟». تفاقمت اضطراباته منذ نجاح ألبومه الأول جراء الخشية من إعطاء الأقل. وسكنته الأسئلة: أي الغناء يرضي المزاج وكيف يصوّب الخطوات إلى الأمام؟ لازمه هاجس: «أيمكنني فعلها مجدداً؟»، منطلقه شبح الفشل الحائم حول الأفكار والتشكيك بالقدرات؛ وهما جحيم الفنان وإن حقّق ما يذهل.
يطلّ والداه وأصدقاؤه المقرّبون بينهم فريقه الفني، فيخبرون عنه الحكايات. أكثر ما يشغل الأم هو ألا تمسّ ابنها تبدّلات الطبائع بفعل مغريات الزمن. يشيد الأب بابن يمتلك قلباً نقياً، لا يتّصف بالغرور والغطرسة؛ وهذه المزايا تساويها العائلة بأهمية مداراة صحته ووضعها في المقام الأول. تعقيباً على وطأة الضوء على المرء، حسم صديق لويس المعادلة: «الشهرة لا تغيّرك. إنها تغيّر كل ما حولك».
اطمئنان المقرّبين إلى تمسّكه بعفويته وثبات قدميه على الأرض، لا يعني أنه من داخله يبلغ هناءه. ظلّ الداخل متّقداً، تتقاذفه الحمم، يثور ويفور. لم يكن صاحب الخدّين الممتلئين شاعراً ولم يملك دفتر يوميات. وهو أيضاً لا يقرأ. يحرّكه نحو النجاح إحساسه العظيم بالاندفاع.
يلفح الحزن أغنياته، وذلك منبعه الخالة المعلّقة على حبل والذنب الطافح في عينَي الأم حيال العجز عن إنقاذها. إحدى أغنياته تقول: «لا يمكنني شرح هذا الألم المألوف تماماً- يظهر ويختفي- ويتركني وحيداً في النهاية». تُبيّن سيرته شقاء الوصول إلى المكانة العالية. وعلى عكس الظاهر في شخصيته من استخفاف وسذاجة؛ فالأعماق، خزان الأوجاع، تقود إلى جمال حقيقته الإنسانية.
تُعرض صور من طفولته وهو يعزف على الغيتار أمام والدين شكّلا جمهوره الأول. لسنوات، غنّى لويس كابالدي في الحانات حيث لا أحد يهتم للواقف على المسرح. راح الأمر يصبح مرهقاً للأعصاب وهو يهجس بكيفية صناعة الألبوم، إلى أن تبع حدسه: «لقد تبيّن أنّ المطلوب هو كتابة أغنيات تعجبني، وإصدارها».
شكّك بقدراته ككاتب، ورأى أنّ الأمر يسوء أكثر كلما ازداد نجاحاً. تصبح ارتعاشات القلق جزءاً من حياته، يُذلّلها متخصّصون في الصحة النفسية والعقلية، لكنها تقبض عليه وهو في الزحام، فتشتد العوارض. ما تراءى مسطّحاً مع انطلاق الوثائقي، لم يكن سوى موج هادئ يمهّد لحتمية احتواء العصف. فالارتعاشات تشتدّ وهو يجلس لساعات أمام البيانو، يعتصر الأفكار للكتابة. إبداعه مُرهق، يشترط حلاوة الروح.
في «ويمبلي»، وأمام الآلاف، خرجت تلك التشنجات عن السيطرة. كان الأمر مروعاً، بينما الضغوط بدأت تتسلل إلى ذهنه، تُصوّر له مآلات الوضع. أمامه الآن خيار واحد فقط: إنقاذ النفس من آلامها بالإذعان لحقّها في الاستراحة. خلاصة الوثائقي دعوة للحذر من تداعيات الضغوط على الصحة العقلية، وإطلاق صرخة للاستدراك قبل فوات الأوان. يقول لويس: «إن كنتَ وحدك مَن تثقل نفسك بالضغط، فأنت وحدك تستطيع التوقف عن ذلك». والده محقّ في استنتاجه: «الصحة أكثر أهمية من أي شيء آخر».