كيف تصبح مواطناً «اقتصادياً» نشطاً؟

كتابُ ها- جوون تشانغ يصلح دليلاً تمهيديّاً أو مرجعاً أو تاريخاً موجزاً

ها- جوون تشانغ
ها- جوون تشانغ
TT

كيف تصبح مواطناً «اقتصادياً» نشطاً؟

ها- جوون تشانغ
ها- جوون تشانغ

الاقتصاد الكلاسيكي الجديد أو ما يسمّى بـ«النيوكلاسيكية» ليس المدرسة الوحيدة الحاكمة للاقتصاد العالمي

الاقتصاد في أبسط وأدقّ تعريفاته هو «علم القوّة» (The Science of Power)، ولأجل ذلك بات من الحتميات الواجبة أن يحوز كل مواطن حقيقي في مجتمع محترم شيئاً من المعرفة بأساسيات الاقتصاد تاريخاً ونظريات وسياسات فاعلة. هذه هي بعض طبيعة العصر الذي نعيشه، التي تفترض معرفة بالمفاصل الاستراتيجية التي تحكم عالمنا. غالباً ما يحصلُ فهم الاقتصاد من البوّابة الكلاسيكية: الدخل والوظائف والمعاشات التقاعدية، وما إلى ذلك من موضوعات؛ لكنّ الاقتصاد أبعد من هذه الموضوعات. إذا أردنا إصلاح الاقتصاد لصالح الأغلبية، وجَعْلَ سياساتنا الحكومية والمجتمعية أكثر فاعلية، وجعْلَ العالم مكاناً أفضل للعيش لنا وللأجيال القادمة، فعلينا ضمانُ بعض المعرفة الاقتصادية الأساسية لكلّ فرد فينا.

كانت الأزمة المالية العالمية في عامي 2007 - 2008، وما أعقبها من ركود واستقطاب اقتصادي، بمثابة تذكير قاسٍ بحقيقة عبثية ترك اقتصادنا للاقتصاديين المحترفين وغيرهم من «التكنوقراط» ليتلاعبوا فيه كما يشاؤون. يجب علينا جميعاً أن نشارك في إدارة الاقتصاد كمواطنين اقتصاديين فاعلين. بالطبع، هناك «ما ينبغي فعله» وهناك «ما يمكن فعله». كثيرٌ منا منهكٌ جسدياً للغاية بسبب صراعنا اليومي من أجل البقاء، ومنشغلٌ ذهنياً بشؤونه الشخصية والمالية. قد يبدو احتمال القيام بالجهد اللازم لكي يصبح المرء مواطناً اقتصادياً نشطاً - أي تعلّم أساسيات الاقتصاد، والانتباه إلى ما يجري في الاقتصاد - أمراً شاقاً ومخيفاً. مع ذلك فإنّ القيام بهذا الاستثمار في الجهد والوقت أسهلُ بكثير مما تظن. الاقتصاد أسهل فهماً بكثير مما يُقنعك به العديدُ من الاقتصاديين. هذا ما يخبرُنا به أستاذ الاقتصاد في جامعة كامبردج ها-جوون تشانغ Ha-Joon Chang في كتابه المعنون «23 Things They Don’t Tell You About Capitalism»، المترجم إلى العربية، حيث أثار غضب بعض زملائه المهنيين بإعلانه أن 95 في المائة من الاقتصاد قائمٌ على البداهة السليمة (Common Sense) التي يُضفى عليها تعقيدٌ باستخدام المصطلحات والرياضيات والإحصاء؛ بينما يُمكن فهم الـ5 في المائة المتبقية في جوهرها (إن لم يكن بتفاصيلها التقنية الكاملة) إذا شُرِحَ الأمر بكيفية جيّدة من قبل معلّم شغوف يتحلى ببصيرة كافية.

ما إن تكتسب فهماً أساسياً بكيفية عمل الاقتصاد، تُصبح مراقبة ما يجري أقل تطلباً من وقتك واهتمامك. وكما هي الحال في العديد من الأمور الأخرى في الحياة - تعلّمُ ركوب الدراجة، أو تعلّمُ لغة جديدة، أو تعلّمُ استخدام جهاز الكمبيوتر اللوحي الجديد - يُصبح كونُكَ مواطناً اقتصادياً فاعلاً أسهل بمرور الوقت بعدما تتدرّبُ على تجاوز الصعوبات الأولية والاستمرار في ممارسة هذا التجاوز. ليس عليك القيام بذلك بمفردك. إنّ التحدّث مع عائلتك وأصدقائك حول القضايا الاقتصادية اليومية، سواء أكانت وظائف أو تضخماً أو أزمات مصرفية، سيُثري معرفتك ويُصقل حججك. في هذه الأيام، هناك مجموعاتٌ ناشطةٌ تُقدم عبر الإنترنت دروساً في الاقتصاد للمواطنين العاديين، وهذه الدروس كفيلة بجعل المسعى الذي يبذله المواطنون العاديون لتعلم الاقتصاد والتفكير فيه أكثر تشويقاً ومتعةً.

ها- جوون تشانغ Ha-Joon Chang: عالم اقتصاد بريطاني من كوريا الجنوبية، متخصص في اقتصاديات التنمية. يعمل أستاذاً في الاقتصاد السياسي للتنمية بجامعة كامبريدج. في عام 2013 صنّفت مجلة «Prospect» تشانغ واحداً من أفضل 20 مفكراً عالميّاً. ألّف العديد من الكتب التي حققت مبيعات كبرى، منها الكتب الثلاثة التالية المترجمة إلى العربية:

- «السامريون الأشرار: أسطورة التجارة الحرّة والتاريخ السرّي للرأسمالية»

- «23 شيئاً لا يخبرونك بها عن الرأسمالية»

- «الاقتصاد: دليل المستخدم»

كتابه الأخير تُرجم إلى اللغة العربية عام 2024 تحت عنوان «دليل المسترشد إلى علم الاقتصاد».

يبدأ تشانغ كتابه بعبارة لافتة: «الاقتصاد الكلاسيكي الجديد (أو ما يسمّى بالنيوكلاسيكية) ليس المدرسة الوحيدة الحاكمة للاقتصاد العالمي». ثمّ يؤسّسُ على هذه العبارة حقيقة مفادُها عدمُ انفراد نظرية اقتصادية بالتفوّق على غيرها من النظريات، واستطراداً لا توجد حقيقة موضوعية يتّفق عليها جميع الاقتصاديين. لا يمكن للاقتصاد أن يكون علماً كما هي الفيزياء؛ إذ لا يمكن التوصل إلى إجماع حول أسئلته الأساسية، ناهيك عن تحديد إجاباتها. لا يبحث تشانغ عن صيغة اقتصادية جاهزة. هو يجادل مطوّلاً في الكتاب بأن الاقتصاد في جوهره هو سياسة؛ وبالتالي لا ينبغي لنا أن نفكّر من منظور بلوغ إجابة مثالية. النقاش في الاقتصاد ساحة مفتوحة على شتى الاحتمالات كما هي حال السياسة، ولن ينتهي هذا النقاش أبداً.

إذا كان هناك معنى لـ«فشل» الاقتصاد، وهو الموضوعة الأكثر أهمية لكلّ مواطن وحكومة في العالم كما يجادل تشانغ، فإنّ هذا الفشل ليس مردّه أنّ الاقتصاد كان ينبغي عليه «التنبؤ» بالانهيار والكوارث التي شهدتها السنوات الماضية. فشل الاقتصاد لأنّ تعددية الرؤى فشلت. نشأ مشهدنا الاقتصادي الحالي تأسيساً على قبول بعض المبادئ الأساسية: الفرد أناني تماماً، وعقلاني تماماً، وقادرٌ على خلق أسواق مثالية من خلال العمل بما يخدم مصالحه الخاصة. هذه الخلطة المشتبكة من الرؤى المتنافسة فشلت ولم تتحقق في الواقع، وقد تجاهلناها وعانى الاقتصاد العالمي بسبب ذلك.

تشانغ في هذا الكتاب يجعل التاريخ الاقتصادي والنظريات الاقتصادية سلسلة سرديات متّصلة سببياً بطريقة تثير شهية القارئ للمتابعة والقراءة الجادّة. يستعرض تشانغ في فصل «كيف وصلنا إلى هنا؟» قروناً من التاريخ، مُقسّماً تاريخ العالم المتقدم إلى عصور مختلفة: الثورة الصناعية، والاضطرابات (1914 - 1945)، والعصر الذهبي (1945 - 1973)، وفترة خلو العرش (1973 - 1979)، ثم من عام 1980 حتى يومنا هذا. يُقدّم هذا شرحاً مُلفتاً وسريعاً لكل شيء، مُتناولاً النمو (Growth) الذي كان بطيئاً بشكل مؤلم خلال القرون القليلة الأولى، وشروط نجاح التجارة الحرة (وما تعنيه الحرية في الواقع وهو «التوجّه نحو الأقوى»)، وحتمية نشوب حرب عالمية أولى لأنّ نمو الفترة التي سبقتها كان قائماً على السياسة الإمبريالية لا الإنتاج الوطني، وتأثير الكساد الكبير على الفكر والسياسة. يحرص تشانغ في ثنايا تاريخه الاقتصادي أن يتناول موضوعات أساسية على شاكلة: ماذا يعني ارتفاع معدلات البطالة؟ ما هي مؤسسات «بريتون وودز»، ولماذا أُنشئت؟ ما نجاحات التجارة الحرة والسوق الحرة، وما هي حدودهما؟ لماذا تُعدُّ كلمة «ليبرالي» مُربكة إلى هذه الدرجة؟ ماذا حدث بالفعل للدول المنضوية في الكتلة السوفياتية في نهاية الحقبة الشيوعية؟ يرسم تشانغ خريطة المنطقة بوضوح، بل وأكثر من ذلك: يُحوّلها إلى أرض تستمتع باستكشافها.

أعتقد أن القسم المحبّب في كتاب تشانغ هو ذلك المعنون «دع مائة زهرة تتفتح»، حيث يصف المدارس الفكرية التسع الرئيسية في الاقتصاد، ثم يُطلق تسميات جديدة، يُمكنك استخدامها، إن شئت، لوصف نفسك. تكثر مراجع المؤلف الثقافية غير المعتادة في الكلاسيكيات المرجعية الاقتصادية، وتلك ميزة حقيقية في الكتاب. المدارس التسع التي تناولها تشانغ هي النمساوية، والسلوكية، والكلاسيكية، والتنموية، والمؤسسية، والكينزية، والماركسية، والكلاسيكية الجديدة، والشومبيترية. في نهاية الفصل يرسم تشانغ مخططاً عملياً في كيفية المزج وتعظيم الفائدة من هذه المدارس.

يمكننا استخدامُ كتاب تشانغ دليلاً تمهيدياً، أو مرجعاً، أو تاريخاً موجزاً؛ فهو يصلح لخدمة كلّ هذه المساعي الفكرية، ولكنه لا يقتصر عليها. إنه يعكس كرم مفكرٍ اقتصادي تتملّكه رغبةٌ في أن نفهم جميعاً أساسيات الاقتصاد لا منظومة نسقية تقنية كلاسيكية بل نظريات مدفوعة بفواعل اجتماعية وأخلاقية مركّبة، وفي هذا تكمن فرادة الكتاب وقيمته النوعية المتفوّقة.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».